الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الفضل والامتنان، جعل الجزاء من جنس العمل، فقال"هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ"الرحمن: 60.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"الرحمن: 29.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،. بعثه إلى جميع الإنس والجان، فبلغ الرسالة وجاهد في الله حقّ جهاده بالمال والنفس والحجة والسنان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وهاجروا وجاهدوا، والذين آووا ونصروا، حتى ظهر دين الله على سائر الأديان، وسلّم تسليماً كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن ذلك هو طريق النجاة، واعلموا أن الله –سبحانه- أمر بالإحسان في آيات كثيرة، وأخبر أنه: "يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"البقرة: 195
و"لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"الكهف: 30.
وقال تعالى"هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ"الرحمن: 60.
قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: "لا إله إلا الله"، وعمل بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا الجنة؟.
وقال تعالى"لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"يونس: 26.
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة.
قال ابن رجب -رحمه الله-: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله، وحضور القلب، كأنه يراه، وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: "كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ"المطففين: 15.
فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة.
عباد الله: والإحسان ضد الإساءة، قال تعالى"وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى"النجم: 31.
وهو أنواع كثيرة، منهما: ما يكون في عبادة العبد لربه، كما بيّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال له جبريل -عليه السلام-: أخبرني عن الإحسان؟ قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ومعناه: بأن يعبد ربه مستحضرا لقربه منه، واطلاعه عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله، وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان في العمل بأن يكون موافقًا لما شرعه الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- خالياً من البدع والمخالفات، قال تعالى"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"البقرة: 112.
وقال تعالى"وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى"لقمان: 22.
وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.
والإحسان للعمل معناه: متابعة السنّة فيه، ومجانبة البدعة.
وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثوراً ووبالاً على صاحبه.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الآدميين والبهائم، بإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، والتصدق على المحتاج، وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر، والإصلاح بين الناس، قال الله -تعالى-"وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"البقرة: 195.
وقال تعالى"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ"النحل: 90.
وقال تعالى"وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"النساء: 36.
فقد أمر الله -سبحانه- بالإحسان إلى هذه الأصناف بإيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم.
وقال تعالى"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ"الأنعام: 15 – 19.
فبين الله -سبحانه- سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة، وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار، والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ"المرسلات: 41 – 44.
والآيات في ذلك كثيرة تبيّن ما للإحسان من عاقبة حميدة، وثواب عظيم.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى البهائم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة" رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ويرد عليّ البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك أجر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن في كل ذات كبد أجرًا" رواه أحمد ورواته ثقاة مشهورون.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان منّي، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً، ثم أمسكه بفِيْه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له" قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال "في كل كبد رطبة أجر" رواه مالك والبخاري ومسلم.
ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة.
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحَةَ، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرحْ ذبيحته".
فيه فضيلة الإحسان إلى البهائم المأكولة في حال ذبحها، وهذا شيء يغفل عنه بعض الناس، فيسيؤن إلى البهائم في كيفية ذبحها.
والإحسان قد أمر الله به في مواضع من كتابه، منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، فهو في كل شيء بحسبه.
فالإحسان في معاملة الخالق بفعل الواجبات، وترك المحرّمات، واجب، وفي فعل المستحبّات وترك المكروهات، متسحب، والإحسان في معاملة الخلق منه ما هو واجب، كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بالبرّ والصلة، ومنه ما هو مستحب، كصدقة التطوع، وإعانة المحتاج، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها، من غير زيادة في التعذيب.
وهكذا مطلوب من المسلم أن يكون محسنا في كل شيء مما يأتي وما يذر، محسن في عمله، محسن في تعامله مع الله ومع خلقه، ومحسن في نيته وقصده، قال الله -تعالى-"لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"التوبة: 91.
فهؤلاء الذين لا يستطيعون القتال لعجزهم الجسمي والمالي مع سلامة نيَّاتهم، وحسن مقاصدهم، قد عذرهم الله؛ لأنهم محسنون في نياتهم، لم يتركوا الجهاد لعدم رغبتهم فيه، وإنما تركوه لعجزهم عنه، ولو تمكنوا منه لفعلوه، فهم يشاركون المجاهدين في الأجر لنياتهم الصالحة، وحسن قصدهم، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسيرٍ، ولا أنفقتم من نفقةٍ، ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم".
وكما يكون الإحسان في الأعمال والنيَّات يكون في الأقوال أيضًا، قال تعالى"وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا"البقرة: 83.
أي: قولوا لهم قولاً حسناً، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودّة، ويرغِّب في الخير، ويؤلف القلوب.
وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: "والكلمة الطيبة صدقة".
فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا من أهل الإحسان لتنالوا من الله الأجر والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"العنكبوت: 69.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن وجوه الإحسان كثيرة، ينبغي للمسلم أن يسهم فيما يستطيع منها، ولا سيما منْ منّ الله عليهم بوفرة المال، فإن المجالات الخيرية أمامهم واسعة، من بناء المساجد، وتوفير المياه للشرب، وطباعة الكتب الدينية، وتوزيع المصاحف، ومساعدة مشاريع تعليم القرآن الكريم، ومساعدة المراكز الإسلامية في الخارج، وإعانة المجاهدين في سبيل الله، ومواساة المنكوبين والمشردين من المسلمين والمصابين بالمجاعة.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، مَن علّم علماً، أو كرى نهرا، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته" [رواه البزار وأبو نعيم في الحلية].
ومعنى: "كرى نهراً" أي: حفره.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فقال: ما عملٌ إن عملت به دخلت الجنة؟ قال: "أنت ببلد يجلب به الماء؟" قال: نعم، قال: "فاشتر سقاء جديدا، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها الجنة" [رواه الطبراني في الكبير].
وفي "الصحيحين" عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسانٌ أو طيرٌ أو دابةٌ إلا كان له صدقة".
وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة".
وفي رواية له أيضا: "فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة".
وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقةً يُثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما، إذا نوى واحتسب الأجر عند الله -سبحانه-.
ولكن المؤسف أن كثيرا من الأثرياء يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير، ويحرمون أنفسهم من الثواب، وهم قادرون على ذلك، فكانوا ممّن جمع فأوعى.
فيا حسرة من كان جمّاعا للمال منّاعا للخير، لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيراً وأعظمَ أجراً، يَتعب في جمع المال وحفظه ويتركه لغيره، ولا يقدم منه لنفسه.
فاتقوا الله -عباد الله- وقدِّموا لأنفسكم"وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"البقرة: 223.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله …
-
هنا -