سورة الكهف سورة مكية تضمنت أربع قصص،، قصة أصحابِ الكهفِ، وقصة صاحب الجنتين ، وقصة موسى والْخَضِر، وقصة ذي القرنين.
وكل قصة من هذه القصص وراءها أهداف ومعان عظيمة و يربط القصص محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة، فتنة الدين: قصة أصحاب الكهف، وفتنة المال والنعمة :قصة صاحب الجنتين، وفتنة العلم : قصة موسى مع الخضر، وفتنة السُّلْطَةِ :قصة ذي القرنين.
والفتن الأربع التي وردت في سورة الكهف من خلال القصص القرآني المعجز هي الاختبار والامتحان للإنسان، وفتن الحياة الدنيا لا تتعدى هذه الأربع المذكورة في سورة الكهف، إلا أن من أعظم الفتن أن يفتتن الإنسان في دينه وفي سبيل دينه.
يجمع هذه القصص الأربع معنى واحد وهو الفتنة وأسباب النجاة منها.
ومن الملاحظ أن اسم السورة: الكهف، يناسب مقصودَها، فمقصود الكهف: سِترُ ووقاية من بداخله من الريحِ والمطرِ والشمسِ وغيرِها، ومقصود هذه السورة: الوقاية من الفتن المختلفة.
*الفتنة الأولى: فتنة الدين في قصة أهل الكهف، "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" آمنوا بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، كما قالتعالى"وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"مريم: 76. شباب آمنوا بربهم في أناس مشركين ، وعَلِمُوا حقَّ اللهِ تعالى في قوم جاهلين؛ فكان ذلك سببًا لفتنتهم في دينهم، فلم يستسلموا لقومِهم، ولم يتبعوهم في ضلالهم، بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد قومهم."وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا "14."هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"15.
ثم أَتْبَعُوا القولَ بالعملِ فَتَبَرَّؤُوا من المشركينَ واعتزلوهم، وآووا إلى الكهف فِرارًا بدينهم، فكان جزاؤهم في الدنيا تلك الكرامة العظيمة بنومتهم في الكهف ثلاثمئة سنة وازدادوا تسعًا في كهفهم، ونجاتهم من الكفار وكيدهم.
"وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"15.
وَقَوْله " وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ مِرْفَقًا " يَقُول : وَيُيَسِّر لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الْغَمّ وَالْكَرْب خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَدِينكُمْ مِرْفَقًا , وَيَعْنِي بِالْمِرْفَقِ : مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ شَيْء .تفسير ابن كثير.
أي: ما تنتفعون به في عيشكم .
وفيما تقدم، أخبر أنهم دَعُوه بقولِهم "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" 10. فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، ودعائه بذلك، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مِرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياتِهِ على خلقِهِ، ونشر لهم من الثناء الحسن، ما هو من رحمته بهم، ويسر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة.تفسير السعدي.
ثم تشير الآيات إلى أسباب النجاة من فتنة الدين، بالثبات على المبدأ، وملازمة الصحبة الصالحة، مع مجانبة أهل الغفلة وأَتْبَاع الهوى، وتَذَكُّر الآخرة:
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا"الكهف:28-29.
أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.. " الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله.
فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها.
"يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" مخلصين لله عزّ وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئًا من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.ففيها الأمر، بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم, ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد, ما لا يُحصى.
" وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ " أي: لا تجاوزهم بصرك, وترفع عنهم نظرك.
" تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فإن هذا ضار غير نافع, وقاطع عن المصالح الدينية. فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب، الرغبة في الآخرة, فإن زينة الدنيا, تروق للناظر, وتسحر القلب, فيغفل القلب عن ذكر الله, ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته, وينفرط أمره, فيخسر الخسارة الأبدية, والندامة السرمدية ولهذا قال: " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا " غفل عن الله, فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
" وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي: صار تبعا لهواه, حيث ما اشتهت نفسه فعله, وسعى في إدراكه, ولو كان فيه هلاكه وخسرانه, فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " الآية. الجاثية:23.
" وَكَانَ أَمْرُهُ " أي: مصالح دينه ودنياه " فُرُطًا " أي: ضائعة معطلة. تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء "وَكَانَ أَمْرُهُ" أي شأنه "فُرُطًا" .فهذا قد نهى الله عن طاعته, لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به, ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به.
والصبر, المذكور في هذه الآية, هو الصبر على طاعة الله, الذي هو أعلى أنواع الصبر, وبتمامه يتم باقي الأقسام.
*الفتنة الثانية: فتنة المال في قصة صاحب الجنتين الذي أسبغ الله عليه نِعَمَهُ، فكفر بأنعمِ اللهِ ونسيَ أمرَ الساعةِ، وتكبر على الناس بمالِه، فأذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابًا ً،"وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا" الكهف:42. يقول ماذا؟ هل تمنى جنة أخرى؟ أو جنة أحسن منها؟ لا، لقد أيقن أن الأرض كلها لا تساوي شيئا مع الشرك بالله، فقال"يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا"الكهف:42. فالحمد لله الذي جعلنا من عباده المؤمنين، وما جعلنا من المشركين.
إن فتنة المال من أعظم الفتن قديمًا وحديثًا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم.
فمَنْ فُتِنَ بالمالِ فعطَّلَ الفرائضَ، وجاوزَ الحلالَ إلى الحرامِ، فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين.
"وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ومعنى " خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا " أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي . "وَخَيْرٌ أَمَلًا " أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثوابًا .
ويُؤمَل أجرُهَا وبِرُّهَا ونَفْعُهَا عند الحاجةِ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.
ولينظر في ما بعدها من آيات تبين سبيل النجاة من فتنة المال، بالقناعة والزهد وفهم حقيقة الدنيا وغرورها، وتذكر الآخرة.
"وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"الكهف:45-46.
ولينظر بعدها إلى الدار بالآخرة وشدة الحساب والكتاب الذي يُحصِي الصغيرةَ والكبيرةَ؛ كما يُحصِي التجارُ في الدنيا المالَ ويرصدونَهُ.