01-30-2021, 03:39 AM
|
|
غفر الله لها
|
|
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,263
|
|
ذكر سبحانه أوّلًا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعًا وتمويهًا وتدليسًا وفيهم نزل قوله"إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"النساء:142.
وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر:
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ"8.
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار وهو المقصود في هذه الآيات، وعملي وهو من أكبر الذنوب.
يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يظهرون الإيمان فيقولون: إننا آمنا بالله وبيوم القيامة، وليسوا بصادقين في قولهم.واليوم الآخر - هو من وقت الحشر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
"وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
" يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"9.
والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع،
يظنون بجهلهم وضلالهم أنهم يخادعون الله،أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم،وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، إذ يتوهمون أنه غير مطلع على خفاياهم، مع أنه يعلم السر والنجوى، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم لأن ضررَ عملِهم لا حقٌ بهم، عاجلًا وآجلًا، ولأن من يخدع غيره ويحسبه جاهلًا- وهو ليس كذلك- إنما يخدع نفسه.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"10.
والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها، من مرض الشهوات. والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية.
. فبعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضًا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدًا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يومًا بعد يوم.
آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هى القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى.
أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبًا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام.
"فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا" فزادهم بجانب الحسد والحقد على أهل الإيمان مع فساد العقيدة ،زادهم ضعفًا عن الانتصار للحق، وعجزًا عن الاقتدار على الاستقامة والامتثال.
فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى" وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"مريم:76.
"وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ" أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب.
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ"12/11.
بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان
أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين.
"قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح، قلبًا للحقائق، وجمعًا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية، مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه.حصر للإصلاح في جانبهم - فيضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قَلَبَ اللهُ عليهم دعواهم بقوله:
" أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ"فإنه لا أعظم فسادًا ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟.وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه.
" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ"
أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان، قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبَّحَهُم اللهُ - الصحابة رضي الله عنهم، بزعمهم أن سفههم- أي الصحابة- أوجب لهم الإيمان، وتَرْك الأوطان، ومعاداة الكفار، والعقل عندهم – أي عند المنافقين-يقتضي ضد ذلك، فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحُجَى والنُّهَى. فَرَدَّ اللهُ ذلك عليهم، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحُجا، معرفة الإنسان بمصالح نفسه، والسعي فيما ينفعه، وفيدفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة.
"أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ"
يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى .
"وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ "14.
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، أي وإذا رأى المنافقون المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبًا وبهتانًا: آمنا كإيمانكم وصدَّقْنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالَنا وأولادَنا ونساءَنا من أيديهم ونطَّلع على أسرارهم.
"اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ"15".
أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم ،وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة،
وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثةويزيدهم في عتوهم وكفرهم، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم،
ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع.
"أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ"16.
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات "اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى " أي: رغبوا في الضلالة، رغبة المشتري بالسلعة، التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة.
أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح. وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودًا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال. تفسير المراغي.
|