المجـلـس السابع والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤اليقين¤
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي اليقين بالله، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك بالله، فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.
قال تعالى:
"وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ" الذاريات 20 .
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ "آل عمران190.
"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ "الأنعام75.
¤اليقين¤
*"عليكم بالصِّدْقِ ؛ فإنَّهُ مع البِرِّ ، وهُما في الجنةِ ، وإيَّاكمْ والكذِبَ ، فإنَّهُ مع الفُجورِ ، وهُما في النارِ ، وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ ، ولا تَحاسَدُوا ، ولا تَباغَضُوا ، ولا تَقاطَعُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ، كَمَا أمرَكُمُ اللهُ"
الراوي : أبو بكر الصديق| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 4072 | خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر.
*"صلاحُ أوَّلِ هذهِ الأُمَّةِ بالزُّهدِ واليَقينِ ، وهلاكُ آخِرِها بالبُخلِ والأمَلِ"
الراوي : عبدالله بن عمرو| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 3215 | خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره .الدرر .
* اليقين الذي يقول عنه العالمُ الرباني طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله :
اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ، وفيه تفاضل العارفون ، وفيه تنافس المتنافسون ، وإليه شمَّر العاملون.ا.هـ .
فاليقين سببٌ رئيسٌ في (تهوين ) المصائب و(تخفيف) البلايا
"....ومن اليقينِ ما تُهَوِّنُبه علينا مُصِيباتِ الدنيا".
الراوي : عبدالله بن عمر|المحدث : الألباني|المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 3502 |خلاصة حكم المحدث : حسن.
*اليقين من مثبتات السعادة في الروح ،ومقويات الطمأنينة في القلب
ودعني أضربُ لك مثالاً يوضح لك المعنى:
لو أنّ رجلاً فقيرًا معدمًا كثيرَ العيال هدّتْ كاهله الديون، وسال لبؤسه ماءُ العيون،ثم أخبروه أن (عمه المغترب) في بلادٍ أوربية قد ماتَ وخلّف ثروةً طائلةً تقدر بـ(100) مليون دولار وليس له وريثٌ إلا هو!!
لكنّ إجراءات حصر الإرث والورثة ونقل الثروة ستتأخر قليلاً ولن يستلم الثروة إلا بعد سنة كاملة.
أخبرني الآن:كيف سيعيشُ هذه السنة ؟ ويحيا أيامَ هذا العام؟
لا شك أنه سيكونُ مسرورًا جدًا، مطمئنًا جدًا، فرحًا جدًّا رغم أنه مازال بعدُ فقيرًا معدمًا لكنّ (يقينه) بأنه بعد سنة سيصبحُ غنيًّا جعل قلبه مستقرًا بالسعادة ومشعـًّا بالطمأنينة
وكذلك "يقين"المؤمن بما أعدّه الله له في الجنة سيجعله سعيدًا مطمئنًا مهما كان فقره وبلاؤه.
سر عظيم سيغير حياتك . عبد الله بن أحمد الحويل
قال ابن القيم -رحمه الله :
الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين:قد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك : أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه ، ثم أراك إياه فازددت يقينًا ،ثم ذقت منه ، فالأول : علم اليقين ،
والثاني : عين اليقين ،
والثالث : حق اليقين .
فعلمنا الآن بالجنة والنار : علم يقين .
فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك:عين اليقين
فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين "مدارج السالكين 2/129."
والواجب في الإيمان هو علم اليقين،وقد يزداد إيمان المسلم حتى كأنه يرى الله ويرى الجنة والنار كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل الصحيح "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" البخاري (50) ومسلم (8)، والإحسان درجة كمال الإخلاص ودوام المراقبة، وإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء طلب من ربه أن يوصله درجة عين اليقين وهي الرؤية، لا شكًا حاشاه عليه السلام- وإنما ليزداد إيمانه طمأنينة وكمالاً "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي....." البقرة: 260 والله أعلم.هنا .
د. محمد بن عبدالله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
كيف تعرف أن عندك يقينًا ، وأنك متحل بهذه الصفة العظيمة ؟
لأهل اليقين علامات يُعرفونَ بها ،وتنعكس على حياتهم اليومية، ، ومن تلك العلامات على سبيل الإجمال ما يلي :1-أيقن بالله حقًا فآمن به: واستشعر مراقبة الله له
"....فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ..... " .
الراوي : أبو هريرة |المحدث : البخاري |المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 4777 |خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر.
فإذا استشعر ذلك لم يعصه
2-أيقن بأن الموت حق فحذره"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ "العنكبوت57.
وأهل اليقين هم أولى بالاتعاظ به.
3-وأيقنبأن البعث حق فخاف :"وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"البقرة 2814-وأيقن بأن الجنة حق فاشتاق إليها ، وعمل لها .
"وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "البقرة25.
5-وأيقن بأن النار حق فظهر سعيه للنجاة منها
"أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"آل عمران162.
6-وأيقن بأن الحساب حق فحاسب نفسه
"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"آل عمران135.
¤الأنبياء واليقين¤
اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران،
¤آدم ¤عليه السلام:
إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه السلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربِّهِ الكريم، وقد بدت له سوءَتُهُ، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة،"فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى "طه121 ، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "الأعراف23.
قال آدم وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا بالأكل من الشجرة, وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن ممن أضاعوا حظَّهم في دنياهم وأخراهم.
"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" البقرة :37.
¤يُونُسُ بْنُ مَتَّى ¤عليه السلام
"وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
هذا اليقين الذي دخل به يُونُسُ بْنُ مَتَّىعليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، "فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
هذه الجملة العظيمة التي فيها اعترافين كبيرين الأول وهو الأعظم :الاعتراف بألوهية الله تعالى ووحدانيته وتنزيهه.
و الثاني: الاعتراف بالذنب و التقصير و الخطأ ، فالأول يدل على تمام العبودية لله رب العالمين ،و الثاني يدل على قوة الايمان و الرغبة في تطبيق العبودية تطبيقا صحيحًا .
، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات.
¤أيوب عليه السلام¤
"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *83" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" الأنبياء : 84.
توسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له،قال سبحانه
"ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ "ص42.
هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحدًا سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده.
هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيمًا، وبحالهم عليمًا، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.
¤موسى عليه السلام¤
وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ "الشعراء61. قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "الشعراء:62 ، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله:
" فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }الشعراء63 .
"وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى "طه77.
وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركًا فيها ولا يخشى، ،سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقًا في ذلك البحر لا يخاف دركًا ولا يخشى، " لَّا تَخَافُ دَرَكًا " أي أن يدركك فرعون " وَلَا تَخْشَى" غرقًا ،كل ذلكباليقين بالله.
اليقين أعظم زاد:
سار الصالحون على نهج الأنبياء*، واتَّبَعَ آثارَهُم عبادُ اللهِ المهتدونَ، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عَظُمَتْ منك الذنوبُ، وعظمت منك الإساءة في دينك، تحتاجه وأنت مع أهلِكَ وولدِكَ، وتحتاجه وأنت مع عدوِّكَ، وصديقِكَ، ولذلك كان لزامًا على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقًا به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبكمنيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبَهُم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن.
"إنَّ اللهَ قال : من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه ، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّه ، فإذا أحببتُه : كنتُ سمعَه الَّذي يسمَعُ به ، وبصرَه الَّذي يُبصِرُ به ، ويدَه الَّتي يبطِشُ بها ، ورِجلَه الَّتي يمشي بها ، وإن سألني لأُعطينَّه ، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه ، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه ترَدُّدي عن نفسِ المؤمنِ ، يكرهُ الموتَ وأنا أكرهُ مُساءتَه
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 6502 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "الفاتحة:5. فمن قال"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "الفاتحة:5، فإن الله يمتحنه باليقين.
دلائل اليقين
*عدم صرف الحب والخوف لغير الله: إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.
*جعلُ الإنسان الآخرة نُصْب عينيه:
الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعلَ الإنسانُ الآخرةَ نُصْب عينيه.
فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة:45-46.
التعلق بغير الله ينافي اليقين:
هذه العبارة تقطع قلوب المؤمنين، عبارة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله.
لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: إذا أوَيتَ إلى فراشِك فقُلْ : اللهمَّ أسلَمتُنفسيإليك ، ووجَّهتُ وجهي إليكَ ، وفوَّضْتُ أمري إليك ، وألجَأْتُ ظهري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملْجَأَ ولا مَنْجا منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابِك الذي أنزلتَ . وبنبيِّك الذي أرسلْتَ . فإنك إن مُتَّ في ليلتِك متَّ على الفطرةِ ، وإن أصبحْتَ أصبْتَ أجرًا"
الراوي : البراء بن عازب| المحدث : البخاري| المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 7488 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وفوَّضْتُ أمري إليك، أي: توكَّلتُ في جميع أموري عليك، راجيًا أن تَكفيَني كلَّ شيء، وتَحميَني من كلِّ سوء،
فلا يظن الإنسان أن أحدًا ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.