المجلس الأربعون
شرح أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل
المتن:وَالنِّفَاقُ هُوَالكُفْرُ:أَنْ يَكْفُرَ بِاللهِ وَيَعْبُدَ غَيْرَهُ،وَيُظْهِرَ الإِسْلامَ فِي العَلانِيَةِ،مِثْلَ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
الشرح:
النِّفَاقُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّفَقِ: وَهُوَ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ مُشْتَقٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَالنِّفَاقُ:الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ - يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ-؛ مُشْتَقٌّ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ.
والنافقاء: هي جحر اليربوع الخفي، وذلك أن اليربوع له جحران: جحر ظاهر، وجحر خفي، فالجحر الظاهر يقال له: القاصعة، والجحر الخفي يقال له: النافقاء ، وذلك أنه يحفر في الأرض حتى يخرق الأرض، فإذا خرقها وصار جحرًا كاملا جعل فوقه تراب لا يعلم عنه،أي ظاهره تراب وباطنه حفر، فإذا دخل في جحره القاصع المعروف، ثم جاءه أحد دف برأسه التراب الذي في الجحر الخفي، وخرج منه. فالمنافق سمي المنافق؛ لأن له باطن وظاهر، فباطنه الكفر وظاهره الإسلام، كذلك جحر اليربوع النافقاء له باطن وله ظاهر، باطنه جحر وظاهره تراب.
والنفاق الذي يقصده المؤلف : هو الكفر هو أن يكفر بالله ويعبد غيره، ويظهر الإسلام في العلانية، وهم الذين"إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ"البقرة:14، والذين"يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ"الفتح:11.هؤلاء هم المنافقون، وإنما فعلوا ذلك تسترًا أو سترًا لعقائدهم، والأصل أنهم يريدون بذلك أن يأمنوا مع هؤلاء ومع هؤلاء.
مع ملاحظة أن النفاق درجات وكذلك الكفر.
فالكفر في الشرع ينقسم إلى قسمين: كفر أكبر، وكفر أصغر، من حيث الحكم.قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: الكفر أو الشرك لفظان مترادفان أحدهما كفر اعتقادي وهذا محله القلب والآخر كفر عملي وذلك محله في الجوارح فإذا استقل القلب بالكفر فهو الردة، أما إذا استقر الإيمان في القلب وخالطه شيء من المعصية بالجوارج فهذا ليس بالكفر وهذا مذهب أهل السنة والحماعة .ا.هـ. أهل الحديث والأثر,
النفاق كالكفر والشرك والفسق، درجات ومراتب؛ منها ما هو مخرج من الإسلام، ومنها غير مخرج منه:
النفاق الأكبر: هو نفاق من يبطن الكفر ويظهر الإسلام ، قال الجرجاني رحمه الله :
" المنافق هو الذي يضمر الكفر اعتقادًا ، ويظهر الإيمان قولا " انتهى .
"التعريفات" ص / 298.
فمن أظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأبطن ما يناقض ذلك ، أو يناقض شيئا منه : فهذا هو المنافق النفاق الأكبر .
وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ " النساء / 145
وأما النفاق الأصغر – ويسمى أيضًا بالنفاق العملي - فهو نفاق الأعمال ، وهو أن يظهر عملًا صالحًا ويبطن خلاف ذلك ، أو تختلف سريرته عن علانيته ، لكن ليس في أصول الإيمان التي مر ذكرها . ومن ذلك أن يقع في شعبة من شعب النفاق العملي ، أو يتصف بصفات المنافقين من الكذب والخيانة وخلف الوعد .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِي الله عَنْهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَرواه البخاري :34. ومسلم :58.
فمن اتصف من أهل التوحيد بشيء من ذلك وقع في النفاق الأصغر بحسب ما فعله أو اتصف به ؛ لأنه شابه المنافقين في بعض أعمالهم ، وإن لم يكن مثلهم تماما .
فالنفاق الأصغر :هو النفاق العملي، واختلاف السر والعلانية في الواجبات، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرّض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه ممن تناله شفاعة الشافعين بإذن الله.
كفر النفاق الذي ذكره المؤلف، وهو أن يكفر بالله ويعبد غيره في الباطن يعني، ويظهر الإسلام في العلانية، في الظاهر يظهر الإسلام، يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمدًا رسول الله في الظاهر، ولكنه في الباطن مكذب لله ولرسوله، مثل المنافقين الذين كانوا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن أُبيّ، الذين يظهرون الإسلام على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجاهدون وهم كفرة في الباطن، وإنما فعلوا ذلك حتى تسلم دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا وأخذت أموالهم.
المتن: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ:
ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ،هَذَا عَلَى التَّغْلِيظِ،نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ،وَلانُفَسِّرُهَا.
وَقَولُهُ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاتَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ضُلاَّلًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ،وَمِثْلُ: إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ،وَمِثْلُ:سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ،وَمِثْلُ:مَنْ قَالَ لأَخِيهِ:يَا كَافِرٌ،فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا وَمِثْلُ:كُفْرٌ بِاللهِ تَبْرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ،وَنَحْوُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مِمَّا قَدْ صَحَّ وَحُفِظَ،فَإِنَّا نُسَلِّمُ لَهُ،وَإِنْ لَمْنَعْلَمْ تَفْسِيرَهَا،وَلا نَتَكَلَّمُ فِيهِ،وَلا نُجَادِلُ فِيهِ،وَلا نُفَسِّرُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ إِلاَّ بِمِثْلِ مَا جَاءَتْ،وَلا نَرُدُّهَا إِلا بِأَحَقَّ مِنْهَا.
الشرح:
يعني: ولا نفسر هذه الأحاديث إلا مثلما جاءت، المعنى لا نفسرها تفسيرًا يخالف ظاهرها، والعلماء يقولون: لا تفسر، هذه الأحاديث تترك على ظاهرها حتى تفيد الزجر والوعيد، ولكن تُبين لأهل العلم أنها لا تخرج من الملة ، ولكن لا تفسر للعامة وتترك هكذا حتى تفيد الزجر، ولهذا قال: وهذا على التغليظ نرويها كما جاءت ولا نفسرها للعامة.حلقات جامع شيخ الإسلام ابن تيمية.
فأحاديث الوعيد تُجرَى على ظاهرِها؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع الاعتقاد أنها لا توصل إلى الخروج من الملة، فلا نقول: إن هذا قد كفر وخرج من الإسلام بهذا الذنب، بل نقول: عمله عمل كُفر وأما هو فلا يكون كافرًا، ففرق بين العمل وبين العامل، فالعمل قد يكون من أعمال الكفار أو من أعمال المنافقين ولا يلزم أن كل من عمل هذا العمل يخرج من الإسلام ويدخل في الكفر، بل أمرهم إلى الله تعالى، ونحثهم على التوبة والرجوع إلى الله.الشيخ : ابن جبرين.
ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ:
"ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه فهو مُنافِقٌ ، و إنْ صامَ و صلَّى ، و قال : إنِّي مُسلمٌ : مَنْ إذا حدَّثَ كَذَبَ ، و إذا وعَدَ أخْلفَ ، وإذا ائْتُمن خانَ" الراوي : عبدالله بن عمرو وأبو هريرة وأنس بن مالك - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم : 3043 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وفي هذا الحديث بَيانٌ لبعضِ الخِصالِ الَّتي تُوجِبُ في حَقِّ صاحبِها النِّفاقَ العَمَليَّ.الدرر السنية.
لاتَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ضُلاَّلًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ :
الشاهد قوله: كُفَّارًا، القتال بين المسلمين، هل هو كفر يخرج من الملة؟ لا يخرج من المِلَّة إلا إذا استحله، إذا اعتقد أنه حلال هذا معناه يكون كفرًا أكبر؛ لأنه استحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، إذا استحل قَتْلَ أخيه، أو قتل نفسه، أو استحل الزنى أو الربا أو الخمر، صار كفرا أكبر بهذا الاعتقاد، أما مجرد القتل، أو الزنى أو السرقة، وهو يعلم أنه عاصٍ، هذا يكون معصية كبيرة، لكن لا تخرج من الملة. حلقات جامع شيخ الإسلام ابن تيمية.
إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ :
هل يخلدان في النار؟ لا يخلدان؛ لأنه سماهما مسلمين قال" إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ "هل يكفر هذان المسلمان إذا التقيا بالقتال؟ لا، إلا إذا استحله، إذا رآه حلالا، أما إذا لم يستحله، وإنما التقيا بسبب الهوى وطاعة الشيطان، يكون عصاة، وهو من كبائر الذنوب، وقوله: في النار هل يخلد في النار؟ لا يخلد في النار إلا كافر، وهذان ليسا كافرين بنص الحديث.حلقات جامع شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكوْنُ الاثنينِ في النارِ لا يَعني خُلودَهما فيها، ولكنْ هذا عقابٌ على هذه المَعصيةِ، ثمَّ يكونُ أمْرُهما إلى اللهِ تعالَى: إنْ شاء عاقَبَهما ثمَّ أخرَجَهما مِن النارِ كسائرِ الموَحِّدينَ، وإنْ شاء عَفا عنْهما فلمْ يُعاقِبْهُما أصلًا، وإنَّما الخُلودُ لِمَنِ استحَلَّ القتْلَ.وفي الحديثِ: أنَّ قِتالَ المسلِمِ لأخيه المُسلِمِ بغَيرِ وجْهٍ شَرعيٍّ كبيرةٌ مِن الكبائرِ، وأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يَكْفُرُ بفِعلِها؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سمَّى المُتقاتلَيْنِ مُسلِمَينِ. من شرح الحديث في.الدرر السنية .
وَمِثْلُ:مَنْ قَالَ لأَخِيهِ:يَا كَافِرٌ،فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة: فقد سماه أخا حين القول، وقد قال: فقد باء بها. فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه.انتهى.
قال ابن قدامة في المغني: هذه الأحاديث على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على وجه الحقيقة. انتهى.إسلام ويب.
وَمِثْلُ:كُفْرٌ بِاللهِ تَبْرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ:
"كفر باللهِ تبرؤٌ من نسَبٍ وإِنْ دَقّ"الراوي: أبو بكر الصديق-المحدث : الألباني-المصدر : صحيح الجامع-الصفحة أو الرقم:4485-خلاصة حكم المحدث : حسن .
ادِّعاءُ نسَبٍ لا يَعرِفُه أو جحَدَه وإن دَقَّ"، أي: إنَّ تعمُّدَ الانتِسابِ لغَيرِ الأبِ مع العِلمِ بذلك ذنبٌ عظيمٌ يَقتَضي الكُفرَ، والانتِفاءُ مِن النَّسبِ الصَّحيحِ المعلومِ صِحَّتُه كفرٌ أيضًا؛ فمَن استَحلَّ فِعلَ هذا معَ عِلمِه فقدْ كفَر الكُفرَ الأكبرَ المخرج مِن الملَّةِ، وأمَّا مَن فَعَله غيرَ مُستحِلٍّ له؛ فهو مَحمولٌ على كُفرِ النِّعمةِ والإحسانِ وحَقِّ اللهِ تعالى وحقِّ أبيه.
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال"أَيُّما امْرِئٍ قالَ لأَخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما، إنْ كانَ كما قالَ، وإلَّا رَجَعَتْ عليه."الراوي : عبدالله بن عمر – صحيح مسلم.
. لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بالفُسُوقِ، ولا يَرْمِيهِ بالكُفْرِ؛ إلَّا ارْتَدَّتْ عليه إنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُهُ كَذلكَ.الراوي : أبو ذر الغفاري - صحيح البخاري
بداية : لا يجوز للمسلم أن يكفر مسلمًا.
قال الشيخ الألباني:فهذا الحديث من حيث المعنى يؤكد معنى .... إن كان المقول له كافر فعلا فقد وقعت الكلمة في محلها، وإن كان المقول له ليس كافرًا بل هو مسلم ولكن قد يكون فاسقًا بل وقد يكون صالحًا فيعود اسم من أطلق على ذاك المسلم كلمة كافر على هذا المطلِق ......... ،الذي قال لذاك المسلم أنت كافر وهو حقيقة عند الله ليس بكافر فما الذي يلحق المكفِّر ؟ظاهر الحديث إنه بيرجع هو بيصير كافر ما بيصير كافر إذن شو المعنى ؟الجواب يبوء بإثم التكفير وليس بحكم التكفير. فالمصنف كأنه أعاد هذا الباب لتتركز هذه الحقيقة في ذهن المسلم.أهل الحديث والأثر.باختصار. من شرح كتاب الأدب المفرد-201 . للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
والمعنى التحذير، ليس معناه أنه كُفر أكبر، بل معناه التحذير من هذا الكلام السيئ، وأن َصاحبه على خطر عظيم إذا قاله لأخيه، فينبغي حفظ اللسان وأن لا يتكلم إلا عن بصيرة.ا.هـ.
وَلا نَرُدُّهَا إِلا بِأَحَقَّ مِنْهَا: أي لا نصرفها عن معناها إلا بدليل صارف حقًا.