عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 05-01-2024, 01:16 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,263
Post


"الم" هذه الحروف المقطعة:قال الشعبي وجماعة :الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . تفسير البغوي. فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها.فهذه الحروف ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تُشير إلى قضية الإعجاز كأنه يقول: إن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تُرَكِّبُونَ منها الكلامَ فأتوا بمثله.
" اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"2.
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، الْحَيُّ : أي: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى هو الذي له الحياةُ الكاملة، التي لم يَسبِقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زَوالٌ، المٌستلزِمةُ لجميعِ صِفاتِ الكمال، وهو أيضًا الْقَيُّومُ: القائمُ بنفْسِه؛ فلا يَحتاج لأحدٍ، القائمُ بأمورِ غيرِه من خَلْقه مِن الرَّزق وغيرِه؛ فكلُّ الموجوداتِ إليه مُفتَقِرةٌ، ولا قِوامَ لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميعِ أفعالِ الكَمال.الدرر: موسوعة التفسير وتفسير السعدي.
" نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"3.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نَزَّلَ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أَجَلّ الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابَهُ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ :أي: على موسى ، وَالْإِنجِيلَ: على عيسى.تفسير السعدي.
" مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ"4.
مِن قَبْلُ : أي: أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السَّلام، مِن قَبلِ هذا القُرْآنِ الَّذي نزَّله عليك . وقال سبحانه: مِنْ قَبْلُ؛ لكي لا يتوهَّم أنَّ هُدَى التوراةِ والإنجيل مُستمرٌّ بعد نزول القرآن، وفيه إشارةٌ إلى أنَّها كالمقدِّماتِ لنزولِ القرآن، الذي هو تمامُ مرادِ الله مِن البَشر.
هُدًى لِّلنَّاسِ : الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله.تفسير السعدي.
تعقيب:وخُصَّ الهدى بالتَّوراة والإنجيل في قوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ، وإنْ كان القُرْآن هدًى؛ لأنَّ المناظرةَ كانتْ مع النَّصارى، وهم لا يَهتدون بالقُرْآن، بل وُصِف في الآية التي قبلها " نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ " بأنَّه حقٌّ في نفْسه، قَبِلوه أو لم يَقْبَلوه، وأمَّا التَّوراةُ والإنجيلُ فهم يَعتقدون صحَّتهما؛ فلذلك اختصَّا في الذِّكر بالهُدَى .
وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ : أي: وأنزَلَ في كُتبِه ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، والهُدى والضَّلال.
فيه: تَرتيبٌ بديعٌ في التَّقديم والتأخير، حيث لم يَجئِ الإخبارُ عن ذلك على حسَب الزَّمان؛ إذ التَّوراة أولًا، ثمَّ الزَّبور، ثمَّ الإنجيل، ثمَّ القُرْآن؛ فقدَّم القُرْآن الكِتَاب الذي هو القرآن؛ لشَرفِه، وعِظَم ثَوابِه، ونَسْخِه لِمَا تقدَّم من الكتُب، وبقائِه، واستمرار حُكمه إلى آخِر الزَّمان، وثنَّى بالتَّوراة؛ لِمَا فيها من الأحكامِ الكثيرة، والقَصص، وخفايا الاستنباط، ثمَّ ثلَّث بالإنجيل؛ لأنَّه كتابٌ فيه من المواعِظ والحِكم ما لا يُحصَى، ثمَّ تلاه بالزَّبور- عند القائِلِ بأنَّ الفرقان هو الزَّبور-؛ لأنَّ فيه مواعظَ وحِكمًا لم تبلغ مبلغَ الإنجيل.الدرر السنية :موسوعة التفسير.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ :أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذَّبوا بالقرآن أولًا ثم بسائر الكتب تبعًا لذلك - لهم عذاب شديد بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسَهُم - وتكون سببَ عقابِهم في الدار الآخرة.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:أي إن الله قوي لا يعجزه شيء ، وينتقم ممن عصاه.
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ" 5.
تُرشد الآياتُ إلى كَمال عِلمِ الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يغيبُ عن عِلمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات ، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها.وهذا يورث مراقبة الله في كل سكاناتنا وحركاتنا. وهذا فيه حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به، واجتنابِ ما نهاه عنه، وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله، بل هو معلومٌ له سبحانه.
ثم ساق - سبحانه - ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال
"هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 6.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ : أي : يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكر وأنثى ، أبيض أو أسود ، تامًّا أو ناقصًا، طويل أوقصير ، وشقي وسعيد..... وقوله - تعالى - كَيْفَ يَشَاءُ :إخبار منه - سبحانه - بأن هذا التكوين والتصوير فى الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعًا لقانون الأسباب والمسببات، إذ هو الفعال لما يريد.
فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة، ومن كان شأنه كذلك. فهو المستحق للعبادة والخضوع، لذا قال سبحانه إثباتًا لاستحقاه وحده العبادة " لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ"
" الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" الذي يقهر كل شيء بقوته وقدرته " ٱلْحَكِيمُ " في كل أفعاله سبحانه . وهذا تأكيد لما قبله، من انفراده بالألوهية، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وحقيقة المعبودية، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيًا قيومًا، مُنزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالمًا بكل شيء، مصورًا لخلقه وهم في أرحام أمهاتهم كيف يشاء. فهذه الآية الكريمة أيضًا فى مقام التعليل للتي قبلها، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا في السماء، إذ هو العليم بما يسره الإِنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما. وهذه الآية تفيد أنه - سبحانه - يعلم أحوال الإِنسان لا بعد استوائه بشرًا سويًا، بل يعلم أحواله وهو نطفة فى الأرحام، بل إنه - سبحانه - ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئًا مذكورًا، فهو - كما يقول القرطبي - العالم بما كان وما يكون ومالا يكون.
ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم - سبحانه - فى بطون أمهاتهم، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقًا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. التفسير الوسيط.
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌفَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "7.
" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ" أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ.
" مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ " أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ، ولا شُبهةَ، ولا إشكالَ.
" هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ" أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ، ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ.
المحكم اصطلاحًا، فقد اختلفت أنظار أهل العلم في تعريفه، فقال بعضهم: هو ما عُرِفَ المراد منه؛ وقال آخرون: هو ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا؛ وعرَّفه قوم بأنه: ما استقلَّ بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. ويمكن إرجاع هذه التعريفات إلى معنى واحد، هو معنى البيان والوضوح.
" وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها، أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم.
المتشابه اصطلاحًا، فعرفه بعضهم بأنه: ما استأثر الله بعلمه، وعرفه آخرون بأنه: ما احتمل أكثر من وجه، وقال قوم: ما احتاج إلى بيان، بردِّه إلى غيره.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه
" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ، وانحرافٌ عنه وضلال ، فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن، ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ . ويَعْكِسُونَ الأمرَ فيحملون المُحكم على المتشابه.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: التأويل يكون بمعنى التفسير، و التأويل بمعنى العاقبة المجهولة. اختلف السلف في الوقف ، أكثر السلف وقف على قوله" إِلَّا اللَّهُ" وجعل الوقف هنا لازمًا، يعني يجب أن تقف. ثم تبتدأ فتقول" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا "
فإن كان المراد بالتأويل التفسير فقراءة الوصل أولى : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" فتكون الواو للعطف. أي: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن والمتشابه ولا يخفى عليهم برسوخهم في العلم وبلوغهم عمق العلم ، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم.
"وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"يوسف:36. أي بتفسير هذه الرؤيا.
أما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة فالوقف على: إِلَّا اللَّهُ :أولى ، لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمر مجهول لكل الخلق.يعني هذا المتشابه لا يعلم تأويله المراد به إلا الله عز وجل.
والراسخون في العلم الذين لم يعلموا لا يكلفون في ذلك الفتنة وإنما يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تعارض فيسلمون الأمر إلى الله عز وجل، لأنه هو العالم بما أراد.
"هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"الأعراف:53. قال أبو جعفر في تفسير الطبري: .... هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
مقتبس من:أهل الحديث والأثر.الشيخ محمد صالح العثيمين.

مثال المتشابه :أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا :
لقوله تعالى" مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ... " . سورة النساء / آية : 79 .
ولقوله تعالى في موضع آخر :
" ... وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ ... " . النساء: 78 .
فرد هذا النص المتشابه ، ظاهر التناقض يُرد إلى المحكم الواضح الدلالة ليكون الجميع محكمًا كالآتي :الراسخون في العلم يقولون : إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل ، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده ، أما السيئة فسببها فِعل العبد ؛ كما قال تعالى " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " . سورة الشورى / آية : 30 .
فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه ، لا من إضافتة إلى مقدِّرِهِ ، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مُقَدِّرِهِ ، وبهذا يزول ما يُوهِم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة .تفسير سورة البقرة / محمد صالح بن عثيمين / ج : 1 / ص : 48 / بتصرف .
مثال آخر :
أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا لقوله تعالى " إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... " . سورة القصص / آية : 56 .
لقوله تعالى " .. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"سورة الشورى: 52 .
ففي الآيتين موهم تعارض ، فيتبعه من في قلبه زيغ ، ويظن أن بينهما تناقضًا وهو النفي في الأولى ، والإثبات في الثانية .وأما الراسخون في العلم فيقولون :لا تناقض في الآيتين ، فالمراد بالهداية في الآية الأولى : هداية التوفيق ، وهذه لا يملكها إلا الله وحده ، فلا يملكها الرسول ولا غيره .والمراد بها في الآية الثانية : هداية الدَّلالة ،وهذه تكون من الله تعالى ؛ ومن غيره . فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ: أي:ما يتعظ بهذا إلا أهل العقول الرزينة ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه. فلا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ.
"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"8.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا : أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا، لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه، فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه، فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ، ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن.
عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ، يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ"صحيح مسلم :2654.
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً :أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا . ، رحمة عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات.
إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ : أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ، كثيرُ الإحسان. الذي عم جودك جميع البريات.
"رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"9.
أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا: يا ربَّنا، إنَّك تبعَثُ النَّاسَ، وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، وذلك للفصلِ بينهم، ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ :والميعاد مفعال من الوعد . أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده؛ أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه، وعمِل صالحًا، أنَّه يغفِرُ له.
فقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققًا، وعارفًا مدققًا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علمًا وحالًا وعملًا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافيةمما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله : رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل.تفسير السعدي.
رد مع اقتباس