
08-21-2024, 05:00 AM
|
 |
غفر الله لها
|
|
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,313
|
|
"وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " 42.
وقوله- تعالى- وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ.. إلخ معطوف على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي.. إلخ ،عطف القصة على القصة، فإن الله- تعالى- بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عند ما أحست بالحمل. وبعد ولادتها لمريم، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك، بيَّنَ- سبحانه ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينُها، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله- سبحانه- لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران..
يَقصُّ الله تبارَك وتعالَى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما كان من شأنِ مريم عليها السَّلام؛ إذ نادتْها الملائكةُ فقالت لها: يا مريمُ, إنَّ الله اجتباكِ واختاركِ وطهَّركِ في الخُلق والدِّين, وفضَّلكِ على نِساء العالَمين.الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور.
" يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" 47 .
فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ......:
القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع . أي: قالت الملائكة أيضًا لمريم: يا مريم أخلصي العبادة لله وحده وداومي عليها، وكوني مع الخاشعين العابدين المصلِّين وخص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله.
فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربًا وحبًا من خالقه- عز وجل-.
"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" 44.
اسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.
أَنبَاءِ: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.
الْغَيْبِ: مصدر غاب، وهو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله- تعالى-.
نُوحِيهِ: من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام.
أي: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله- عز وجل- وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون.
وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ : أي: وما كنتَ- يا محمَّدُ- معاصرا لزكريَّا وقومِه حينذهبت امرأة عمران بمريم إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم. فلولا أنَّ الله أَوحى إليك ذلك لَمَا كان لك علمٌ به.
"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" 45.
يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، فإن عيسى- عليه السّلام- لم يكن كباقي البشر من ذكر وأنثى، بل خلقه الله- تعالى- خلقًا آخر، خلقه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وهي "كن" فكان كما أراده الله لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم.
والمسيح: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك. وقد حكى الله- تعالى- أن عيسى قال عن نفسه" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا"مريم : 30 / 31.
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:يقال وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذي يواجه الإنسان به غيره. وعيسى عليه السّلام، شهد الله تعالى له، - وكفى بالله شهيدًا- شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها.
فله الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب.
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: وهذه القربى تنال بتحقيق أسبابها من الاجتهاد بالتقرب إلى الله تعالى بعبادته في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. إن المقربين لهم أعلى المنازل في الجنة، وعلى رأس المقربين الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن صفات المقربين الاستقامة على دين الله تعالى والتقرب إليه بالفرائض والنوافل والبعد عما نهى الله عز وجل عنه.اللهم اجعلنا وإياكم من المقربين في عافية دنيا وأخرى.
وشهد الله لعيسى عليه السلام أنه من المقربين عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخِرة - ويا لها من صفة عظيمة هي منتهى ما تتطلع إليه النفوس وتهفو القلوب.
"وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ " 46.
والمراد أن عيسى- عليه السّلام- يكلم الناس في حال كونه صغيرا قبل أوان الكلام وهو ما زال في المهد ؛والمهد هو مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وهو ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيء وتسهيلُه، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه - والكهل: هو الشخص الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه. وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم.، فهو- عليه السّلام- يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة، وذلك إحدى معجزاته- عليه السّلام- وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى- عليه السّلام- وهو طفل صغير فقال- تعالى" فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا."ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" مريم : 34:31.
وَمِنَ الصَّالِحِينَ:أي عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس. أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله- تعالى- ولا يعصونه، قالوا: ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحًا لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبًا على المنهج الأصلح، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا، في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، فلما عدد- سبحانه- صفات عيسى أردفها بهذا الوصف - وَمِنَ الصَّالِحِينَ- الدال على أرفع الدرجات .تلك هي البشارات التي بَشرت بها الملائكةُ مريم، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها، وشدة تأثرها فقال- تعالى:
" قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ " 47.
وصدرت إجابتها بنداء الله- تعالى- للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهية وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارًا لقدرة الله- تعالى- وجملة وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حالية محققة لما مر ومقوية له.والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة والتي يترتب عليها وجود النسل إذا شاء الله ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط.وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر.
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ: وقضى هنا بمعنى أراد- أي قال الله- تعالى- لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكة ، فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ويصنَعُ ما يُريد، فلا يُعجِزه شيءٌ.
كما قال تعالى" إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "النحل: 40.
"وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"48.
قوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ معطوف على يُبَشِّرُكِ . والمراد بالكتاب الكتابة والخط، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" العلق:1.. فإن عيسى- عليه السّلام- قد بعثه الله- تعالى- في أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية.
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانًا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه.
قال الفخر الرازي "والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار علمًا بالخط والكتابة ومحيطًا بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة – التي نزلت على موسى عليه السلام. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهي فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل – الذي نزل على عيسى عليه السلام. وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي نزل على مَن قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابًا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية" ا.هـ .
"وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" 49.
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل فأرسله الله إلى هذا الشعب يدعوهم إلى الله، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكي يبشرهم برسول يأتي من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال"أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ " ثم ذكر- سبحانه- خمسة أنواع من معجزات عيسى- عليه السّلام- دالة على صدقه، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ: والمعنى أن عيسى- عليه السّلام- قد حكى الله- عنه أنه قال لبني إسرائيل: لقد أرسلني الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطاني- سبحانه- من المعجزات ما يقنعكم بصدقي فيما أبلغه عن ربي، ومن بين هذه المعجزات أني أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئًا صورته مثل صورة الطير، فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرًا حقيقيًا ذا حياة بإذن الله أي بأمره وإرادته.
فالجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال: ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله- تعالى- وحده ألا وهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس في عيسى ألوهية ولا أي معنى من معانيها. ولذا حكى الله- تعالى- عنه أنه قال: بِإِذْنِ اللَّهِ.
وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن في قوله- تعالى"وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ "وَأُبْرِئُ أي أشفي
الْأَكْمَهَ: هو الذي يولد أعمى.
وَالْأَبْرَصَ: هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض الجلدية المنفرة التي عجز الأطباء عن علاجها .
والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لقومه: والمعجزات التي تدل على صدقي أن أشفي وأعيد الإبصار إلى من وُلد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البَرَص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.
وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله- تعالى- على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شيء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله- تعالى- وقوله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلالة قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة بإرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.
وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله: للتنبيه على أن ما يفعله من خوارق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذي جئتكم به من عند الله.
وأي: آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدَّق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.
"وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ " 50 .
والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لبني إسرائيل: إن الله- تعالى- قد أرسلنى إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقي. وجئتكم مصدقًا - أي مُقِر ومؤمن ومثبت - لما بين يدي - أي لما تقدم قبلي: - من التوراة.
وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ : أي أن شريعة عيسى عليه السلام جاءت متممة لشريعة موسى عليه السلام وناسخة لبعض أحكامها، فلقد حرم الله- تعالى- على بني إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء في قوله- تعالى "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا" النساء : 160. فجاءت شريعة عيسى- عليه السلام- لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم.
وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ : تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه. جئتكم بهذه الآيات التي تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ".اتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن طاعة الرسول طاعة لله.
"إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ " 51.
ثم حكى القرآن أن عيسى- عليه السلام- قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبدًا لله مخلوقًا له، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئًا.فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ: أي قال عيسى- عليه السلام- داعيًا قومه إلى عبادة الله- تعالى- هو الذي خلقني وخلقكم وهو الذي رباني ورباكم، فأخلصوا له العبادة فإن عبادته- سبحانه- وطاعته هي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التباس.
والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو: ماذا كان موقف بني إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟
هذا ما سنتابعه في الآيات التالية إن شاء الله
|