شهر الله المحرم هو الشهر الوحيد الذي أضيف إلى الله
* قال الإمام مسلم في صحيحه : حَدَّثنِي قتَيْبَه بْنُ سَعِيدٍ ، قال : حَدَّثنَا أَبُو عَوَانَة ، عَنْ أبي بشْرِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَريِّ عَنْ أبي هُرَيْرَة ـ رضي اللهُ عنهُ ـ قالَ : قال رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" أفضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ ، وأفضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَريضَةِ ، صَلاةُ اللَّيْلِ " .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 38 ) ـ باب : فضل صوم المحرم / حديث رقم : 202 ـ ( 1163 ) / ص : 280 .
مَا الْحِكْمَة فِي تسْمِيَة الْمُحَرَّم شَهْر الله وَالشُّهُور كُلِّهَا للهِ ؟ !
قال السيوطي في " شرح سنن النسائي : 1613 :" قالَ الْحَافِظ أبُو الْفَضْل الْعِرَاقِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ : مَا الْحِكْمَة فِي تسْمِيَة الْمُحَرَّم شَهْر الله وَالشُّهُور كُلِّهَا للهِ ؟ !
يَحْتَمِل أنْ يُقال : إنَّهُ لمَّا كَانَ مِنْ الأشْهُر الْحُرُم الَّتِي حَرَّمَ الله فِيهَا الْقِتَال ، وَكَانَ أوَّل شُهُور السَّنَة أُضِيفَ إلَيْهِ إضَافة تَخْصِيص وَلَمْ يَصِحّ إضَافة شَهْر مِنْ الشُّهُور إلى الله ـ تَعَالى ـ عَنْ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ شَهْر الله الْمُحَرَّم . ا . هـ .
* * * * *
شهر الله المحرم من الأشهر الحرم
بداية لابد من الانتباه لحرمة هذا الشهر فشهر الله المحرم شهر حرام
* عن أبي بكرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
" ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات : ذو الْقَعْدة وذو الحجة والمحرم ورجبُ
مُضَرَ الذي بين جُمَادَى وشعبان " .
صحيح البخاري / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 8 ) ـ باب : قوله : " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ... / حديث رقم : 4662 / ص : 550 / طبعة : دار ابن الهيثم .
والأشهر الحرم يحرم فيها الظلم ، والظلم محرم دومًا ولكنه في هذه الأشهر أشد حرمة .
قال تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . سورة التوبة / آية : 36 .
سبق التنبيه على حرمة شهر الله المحرم وتحريم الظلم فيه وفي سائر الأشهر الحرم وتحريم الظلم يستلزم الاستقامة فمن ظلم النفس معصية الله " قل ربي الله ثم استقم "
الاستقامة: يراد بها التمسك بالإسلام عقيدة وعملاً وسلوكًا وفي هذا الزمن اشتهر مصطلح الالتزام للتعبير به عـن الاستقامة على الدين .
الالتزام :هو ملازمة الشيء والمداومة عليه ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف ، إلا أن التعبير بالاستقامة هو الأفضل لأنه المصطلح الشرعي الوارد في كلام الله تعالى وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
أمر الله تعالى نبيه بالاستقامة ، وهو أمر له عليه الصلاة والسلام ، ولأتباعه فقال جل من قائل :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .سورة هود / آية : 112 . وقال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَ اسْتَقَامُوا فَـلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . سورة الأحقاف / آية : 13 ، 14 .
قال الشيخ / عبد الرحمن السعدي في تفسيره أي : إن الذين أقروا بربهم وشهدوا له بالوحدانية والتزموا طاعته وداوموا على ذلك ، و " اسْتَقَامُوا" مدة حياتهم "فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ "من كل شر أمامهم ، "وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " على ما خلفوا وراءهم .
" أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ" أي :أهلها الملازمون لها الذين لا يبغون عنها حولاً ولا يريدون بها بدلاً "خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " من الإيمان بالله المقتضي للأعمال الصالحة التي اسقاموا عليها . ا . هـ .
وكذلك حض ووصى صلى الله عليه وسلم على الاستقامة
قال ابن ماجه عن شهاب ، عن محمد بن عبـد الرحمن بن ماعز العامري ، أن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال : " قل ربي الله ثم استقم " قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلسان نفسه ثم قال " هذا " .
سنن ابن ماجه / تحقيق الشيخ الألباني / ( 36 ) ـ كتاب : الفتن / ( 12 ) ـ باب :كف اللسان في الفتنة / حديث رقم : 3972 / التحقيق : صحيح / ص : 656 .
* وورد في معنى الاستقامة :
قال صاحب تحفة الأحوذي شرح الترمذي في كتاب : الزهد عن رسول الله / باب : ما جاء في حفظ اللسان :
هو لفظ جامع لجميع الأوامر والنواهي ، فإنه لو ترك أمرًا أو فعل منهيًا ، فقد عدل عن الطريق المستقيمة حتى يتوب ، ومنه قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا... } (1)فإن من رضي بالله ربًا يؤدي مقتضيات الربوبية ويحقق مراضية ويشكر نعماءه . ا . هـ .
( 1 ) تمام الآية :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .سورة فصلت / آية : 30
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين :
الاستقامة : " كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد .. وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات " . ا . هـ .
الأصل في الإنسان الهداية وحب الخير فقد خلق الله الناس لعبادته قال تعالى :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.سورة الذاريات آية : 56 .
وجعل نفوسهم مفطورة على ذلك وحبب إليهم الإيمان وخصال الخير وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، قال تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }. سورة الحجرات / آية : 7 .
قال أبو داود في سننه : حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء " قالوا : يارسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين "
سنن أبي داود / تحقيق الشيخ الألباني / ( 34 ) ـ أول كتاب السنة / ( 18 ) ـ باب :في ذراري المشركين / حديث رقم : 4714 / التحقيق : صحيح / ص : 852 .
فعلى المؤمن أن يبذل وسعه لتحري سبل الهداية والاستقامة وأن يحذر من موانعها التي يوسوس بها الشيطان لكثير من الناس ، وخاصة في الأشهر الحرم .
لماذا سمي المحرم بهذا الاسم ؟
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره : 1654 / 4 : ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه : المشهور في أسماء الأيام والشهور : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرًا محرمًا . وعندي أنه سمي بذلك تأكيدًا لتحريمه ، لأن العرب كانت تتلعب به ، فتحله عامًا وتحرمه عامًا . قال : ويجمع على محرمات ، ومحارم ، ومحاريم . ا . هـ .
** موقع شهر الله بين الشهور العربية ! المُحَرِّم أو شهر الله المحرم ، هو الشهر الأول من السنة القمرية أو التقويم الهجري فأشهر السنة الهجرية هي :
المحرم / صفر / ربيع أول / ربيع ثان / جمادى الأولى / جمادى الثانية / رجب / شعبان / رمضان / شوال / ذو القعدة / ذو الحجة .
منها أربعة حُرم " المحرم / رجب / ذو القعدة / ذو الحجة " .
هل شهر الله المحرم هو تاريخ الهجرة الفعلي ؟
هل ما سبق ذكره يعني أن شهر الله المحرم هو تاريخ هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟
نجيب على هذا السؤال من خلال :
مقطتفات من درر ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ج : 7 / ص : 314 / ( 63 ) ـ كتاب : مناقب الأنصار / ( 48 ) ـ باب : التاريخ . من أين أرخوا التاريخ ؟ / شرح حديث رقم : 3934 .
** قال البخاري في صحيحه :
حدثنا عبد الله بن مسلم ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن أبيه عن سهل بن سعد قال : ما عَدُّوا من مَبْعَثِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا مِن وفاته ما عَدُّوا إلاَّ من مَقْدَمِهِ المدَينةَ .
قوله : مَقْدَمِهِ : أي زمن قُدُومه ، ولم يُرد شهر قدومه لأنَّ التاريخ إنما وقع من أولَّ السَّنة . وقد أبدى بعضهم للبُداءَةِ بالهجرة مناسبة فقال : كانت القضايا التي اُتُّفقت له ويمكن أن يُؤرخ بهـا أربعة : مولده ومبعثه وهجرته ووفاته ، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة ، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما تُوُقِّع بذكره من الأسف عليه ، فانحصر في الهجرة ، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة ، فكان أول هلال اِستَهَلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يُجعل مُبْتَدَأ ، وهذا أقوى ما وقفتُ عليه من مُناسَبَة الابتداء بالمُحرمِ .
وذكروا في سبب عمل عمر التاريخ أشياء :
منها ما أخرجهُ أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن في تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشَّعبِيّ
" أنَّ أبَا موسى كَتَبَ إلى عمر : إنَّهُ يَأتِينَا مِنْك كُتُب ليس لها تاريخ ، فَجَمع عُمر الناس ، فقال بعضهم : أرخ بالمبعث ، وبعضهم أرخ بالهجرة ، فقال عمر : الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل فأرخوا بها ، وذلك سنة سبع عشرة . فلما اتفقوا قال بعضهم اِبدءوا برمضان فقال عمر :
بل بالمحرم فإنه منصَرف الناس من حجهم ، فاتفقوا عليه "
وَرَوَى أحمد وأبو عروبة في " الأوائل " والبخاريّ في " الأدب " والحاكم من طريق ميمون بن مِهران قال رُفع لعمر صكَّ محِلّه شَعبان فقال : أيّ شَعبان ؛ الماضِي أو الَّذي نحنُ فيه ، أو الآتي ؟ ضعوا للناس شيئًا يعرِفُونهُ فذكر نحو الأول .
وروى ابن أبي خيمة من طريق ابن سيرين قال " قَدِمَ رجل من اليمن فقال : رأيت باليمنِ شيئًا يُسمُّونهُ التاريخ يكتُبُونَهُ من عام كذا وشهر كذا ، فقال عمر : هذا حَسَن فأرَّخُوا ، فقال عمر : أرخُوا من خُرُوجه من مكَّة إلى المَدِينَة . ثم قال : بأيِّ شَهر نبدَأ ؟ فقال قوم : مِن رَجَب ، وقال قائل : مِن رمَضَان ، فقال عثمان : أرِّخُوا المحرم فإنَّهُ شَهر حرَام وهو أوَّل ومُنصَرَف الناس من الْحَجّ ، قال وكان ذلك سَنة سَبع عشرة ـ وقيل : سنة ست عشرة ـ في ربيع الأوَّل " .
فاستَفَدْنَا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعليّ ـ رضي الله عنهم ـ . ا . هـ .
التقويم الهجري بدأ في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وليس في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكان ذلك سنة سبع عشرة ـ وقيل : سنة ست عشرة ـ هجرية .
والسنة كانت معروفة عند الناس يعني يقولون ، ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عام الفيل ، ولم يكن للسنة رقم . وكذلك كانت الشهور معروفة . لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية احتيج لتقويم لمعرفة تواريخ الأوامر والقرارات والأسبق منها وَذَكَرُوا في سَبب عَمَل عمر التاريخ أشياء . رُفِعَ لعمر صَكَّ مَحِلّه شعبان فقال :
أيّ شعبان ؛ الماضي أو الذي نحن فيه ، والآتي ؟ ضعوا للناس شيئًا يعرفونه ، وأن أبا موسى كتب إلى عمر : إنه يأتينا منك كُتُب ليس لها تاريخ ... فشاور عمر أصحابه واستقرت المشورة على أن يبدأ التقويم من السنة التي هاجر فيها الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فجعلوها سنة ( 1 ) ، واختاروا سنة الهجرة لتكون بداية للتقويم فقط فالتقويم الهجري أمر إداري بحت لتنظيم الرسائل وأمور الدولة الإسلامية .
هل يجوز الاحتفال برأس السنة الهجرية ؟
حكم الاحتفال برأس السنة الهجرية
الاحتفال برأس السنة من البدع ، وأنه من محدثات المتأخرين ؛ وأنه لم يُؤْثَر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن أحدٍ من أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ولا عن السَّلف الصَّالح من التابعين وتابعيهم وأعلام الأمة وعلمائِها من الأئمةِ الأربعـةِ وغيرهـم ـ رحمة الله عليهم ـ ، لم يُؤْثَـر عنهم قط أنهم احتفلوا به ، ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة ، بعد أن اختلط المسلمون بغيرهم من اليهود والنصارى ، ونستأنس بهذه الخطبة للشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ لمزيد تفصيل في هذا الأمر .
الخطبة
أيها المسلمون : إن الله قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ، فديننا الإسلامي دين كامل لا نقص فيه ، وإن الله لا يقبل منا عملاً حتى يكون مُوافقًا لما بيَّنه لنا هذا الدين ، أما ما كان مخالفًا له فلا يقبله ، والله هو الذي شرع لنا هذا الشرع ، وأمرنا أن نعبده على وفقه ، فلا نجتهد في عبادات أخرى ليست من دين الإسلام ، لأننا ندخل في باب البـدع والمحدثات التي نُهينا عنها ، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (1) ، فاتباع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ شرط في قبول العمل .
أيها المسلمون :
إن مما أحدث الناس من الأمور التي ليست من دين الله الاحتفال بأعياد ، ومواسم ، ولم يأمر بها ديننا الحنيف ، إنما هي لمجرد التشبه بأعياد الكفار ، ومناسباتهم ، أو من باب الابتداع في دين الله ، ونحن معاشر المسلمين لنا ديننا وعقيدتنا ، ويجب علينا مخالفة الكفار ، وعدم التشبه بهم ، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :
" من تشبه بقوم فهو منهم " (2) . كما يجب علينا الاتباع وعدم الابتداع . وإن من المحدثات التي أحدثت :
بدعة الاحتفال برأس السنة الهجرية ، ففي بداية كل سنة هجرية تحتفل بعض الدول الإسلامية بعيد رأس السنة ، فتعل الأعمال في اليوم السابق له ، واليوم اللاحق له . وليس لاحتفالهم هذا أي مستند شرعي ، وإنّما هو حب الابتداع والتقليد والمشابهة لليهود والنصارى في احتفالاتهم
وأول من احتفل برأس السنة الهجرية حكام الدولة العُبيديَّةِ ـ الفاطميَّةِ ـ في مصر .
ذكر ذلك المقريزيُّ في خِطَطه ضمن الأيام التي كان العُبيديُّون يتخذونها أعيادًا ومواسم .
قال : " موسم رأس السنة : وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أول المحرم في كل عام ؛ لأنها أول ليالي السنة وابتداء أوقاتها "(3) .ا . هـ .
ولم يكتفوا بهذا الاحتفال بل تجاوزوه إلى الاحتفال برأس السنة الميلادية الذي يحتفل به النصارى ، فتجد كثيرًا من البلدان الإسلامية ، بل ولا تجد بلدة إسلامية إلا وتحتفل العامة فيها بعيد رأس السنة الميلادية ، ولاشك أن الاحتفال سواء أكان برأس السنة الهجرية أو رأس السنة الميلادية ، أو غيرها مما أحدثه الناس ، من البدع التي نُهينا عنها ، وهي مخالفة لشرع ربنا ، فاتقوا الله أيها المسلمون ، واعلموا أن هذا ممـا يُغضب ربكم عليكم ، ويُعرِّضكم لأليم عقابه .
ثبت عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال " ما هذان اليومان ؟ " قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما : يوم الأضحى ويوم الفطر " (4).
ومما يدل على أن الاحتفال برأس السنة من البدع ، وأنه من محدثات المتأخرين ؛ أنه لم يُؤْثَر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن أحدٍ من أصحابِهِ ـ رضوان الله عليهم ـ ولا عن السَّلفِ الصَّالح من التابعين وتابعيهم وأعلام الأمة وعلمائِها من الأئمةِ الأربعةِ وغيرهم ـ رحمة الله عليهم ـ فلم يثبت عنهم قط أنهم احتفلوا به ، ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة ، بعد أن اختلط المسلمون بغيرهم من اليهود والنصارى ، بدأ المسلمون يتبعون سنن من كان قبلهم ، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم :
" لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم " ، " قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى قال : فمن ؟ (5) " !
ولم يقتصر أهل الإحداث على مجرد الاحتفال فحسب وإنما اخترعوا لأنفسهم عبادات وأذكار في هذه الليلة مثل : دعاء لليلتي أول يوم من السنة وآخرها ، والذي يردده بعض العامة في بعض البلدان الإسلامية مع أئمتهم في بعض المساجد ، وهذا الدعاء لم يُؤثر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن أصحابه ، ولا عن التابعين ، ولم يُروَ في كتاب من كتب الحديث . ومما يقولونه فيه قولهم : " اللهم ما عملته في هذه السنة مما نهيتني عنه ولم ترضه ، ونسيته ولم تنسه ، وحلمت عليَّ في الرزق بعد قدرتك على عقوبتي ، ودعوتني إلى التوبة بعد جراءتي علي معصيتك ، اللهم إني أستغفرك منه فاغفر لي ، وما عملته فيها من عمل ترضاه ، ووعدتني عليه الثواب ، فأسألك يا كريم ، يا ذا الجلال والإكرام أن تقبله مني ، ولا تقطع رجائي منك يا كريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آلله وصحبه وسلم " .
ويقولون : فإن الشيطان يقول : قد تعبنا معه سائر السنة ، فأفسد عملنا في واحدة ، ويحثو التراب على وجهه ، ويسبق هذا الدعاء صلاة عشر ركعات ، يقرأ في كل ركعة الفاتحة ، ثم آية الكرسي عشر مرات ، والإخلاص عشر مرات (6) .
ولا يخفى على ذي لُب فضلاً عن طالب العلم بطلان هذا الأمر وأنه لم يرد في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ، وأن دينَ الإسلامِ منه براء .
ومما أُحدث أيضًا في يومي آخر السنة وأولها صيامهما ، واستند المبتدعة إلى حديث :
" من صام آخر يوم من ذي الحجة ، وأول يوم من المحرم فقد ختم السنة الماضية ، وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعل الله له كفارة خمسين سنة " .
وهو حديث مفترى على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد رواه ابن الجوزي في " الموضوعات ( 199 / 2 ) " .
تلك هي بدعة الاحتفال برأس السنة الهجرية (7) .
قال تعالى :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .سورة آل عمران / آية : 31 .نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، إنه غفور رحيم .ا . هـ .بقليل تصرف .
1 ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" من عمل عملاً ليس عليه أمْرُنَا فهو ردٌّ " .
صحيح مسلم . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الأقضية / ( 8 ) ـ باب : نقض الأحكام الباطلة ،ورد محدثات الأمور / حديث رقم : 18 ـ ( 1718 ) / ص : 448 .
2 ـ عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
سنن أبي داود / تحقيق الشيخ الألباني / كتاب : اللباس / باب : في لبس الشهرة / حديث رقم : 4031 / التحقيق : حسن صحيح .
3 ـ يراجع : الخطط والآثار للمقريزي . ( 490 / 1 )
4 ـ عن أنس قال : قَدِمَ رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : " ما هذان اليومان " ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما ، يوم الأضحى ويوم الفطر " .
سنن أبي داود / تحقيق الشيخ الألباني / ( 2 ) ـ أول كتاب الصلاة / ( 45 ) ـ باب : صلاة العيدين / حديث رقم : 1134 / التحقيق : صحيح .
5 ـ قال صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر أو ذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه " قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال " فمن ؟ "
تخريج السيوطي : ( أحمد ) عن أبي سعيد ( الحاكم ) عن أبي هريرة . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته / ج : 2 / حديث رقم : 5063 .
6 ـ راجع : رسالة " روي الظمآن في فضائل الأشهر والأيام " ، ص : ( 21 ) .
7 ـ راجع : كتاب البدع الحولية : (399 ـ 397 ) .