التطبيق العملي للصحابة باستحباب صيامه
إن في فعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أجمعين صيام يوم عاشوراء على الاستحباب ، قال الإمام البخاري في صحيحه : حدثا عبدُ اللهِ بنُ مَسْلمَة ، عن مالكٍ ، عن ابنِ شِهابٍ ، عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ ، أنه سمع مُعاوية بنَ أبي سُفيانَ ـ رضي الله عنهما ـ يومَ عاشوراءَ عامَ حَجَّ ، على المِنبَرِ يَقُولُ : يا أهلَ المدينةِ أينَ عُلماؤُكُم سمعتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " هذا يومُ عاشوراء ولم يكتب اللهُ عليكُم صيامَهُ وأنا صائِمٌ فمَن شاء فليصُم ومَن شاء فليُفطِرْ " .
صحيح البخاري / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 69 ) ـ باب : صيام يوم عاشوراء / حديث رقم : 2003 / ص : 225 .
وبعض الصحابة كان يفطر يوم عاشوراء لتأكيد نسخ فرضية صيامه .
قال البخاري في صحيحه : عن عبدِ اللهِ بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : " دخَلَ عليهِ الأشْعَثُ وهو يَطْعَمُ فقال : اليومُ عاشوراءُ . فقال : كان يُصامُ قبلَ أن ينزلَ رَمضانُ فلمَّا نزلَ رمضانُ تُرِكَ ، فادْنُ فَكُلْ " .
صحيح البخاري / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 24 ) ـ باب : {يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيكمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ... } / حديث رقم : 4503 / ص : 528 .
قوله : " فلمَّا نزلَ رمضانُ تُرِكَ "
..... واستدل بهذا الحديث على أن صيام عاشوراء كان مفترضًا قبل أن ينزل فرض رمضان ثم نُسخ .
..... والظاهر أن صيام عاشوراء ما كان إلا عن توقيف ، ولا يضرنا في هذه المسألة اختلافهم هل كان صومه فرضًا أو نفلاً .
قال مسلم في صحيحه : وحدثني محمد بنُ حاتِمِ ، قال : حدثنا إسحقُ بنُ منصورِ ، قال : حدثنا إسرائيلُ عن منصور ، عن إبراهيمَ ، عن عَلْقَمَةَ قال : دخلَ الأشْعَثُ بنُ قيسٍ على ابن مسعودٍ وهو يأكلُ يومَ عاشوراءَ فقال : يا أبا عبدِ الرحمنِ إنَّ اليومَ يومُ عاشوراءَ . فقال : قد كان يُصامُ قبلَ أن يَنْزِلَ رمضانُ ، فلما نزل رمضانُ تُركَ فإن كنتَ مُفْطِرًا فاطْعَمْ .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 19 ) ـ باب : صوم يوم عاشوراء / حديث رقم : 123 ـ ( 1182 ) / ص : 271 .
* * * * *
أي يوم هو عاشوراء ؟
قال النووي ـ رحمه الله ـ :
عاشوراء وتاسوعاء اسمانِ ممدُودانِ ، هذا هو المشهورُ في كتب اللغة قال أصحابنا : عاشوراء هو اليوم العاشر من المُحَرَّمِ ، وتاسوعاءُ هو التاسع منه هذا مذهبُنا ، وبه قال جمهورُ العلماءِ ، ... وهو ظاهرُ الأحاديث ومقتضى إطلاقِ اللفظِ ، وهو المعروفُ عندَ أهلِ اللغةِ .
انظر المجموع للنووي ـ رحمه الله ـ ( 6 / 383 ) .
يتبين من هذا أن :
عاشوراءُ هو اليومُ العاشرُ من المُحَرَّمِ ، وتاسوعاءُ هو التاسعُ منه .
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عند مسلم في الصحيح .
قال مسلم في صحيحه : وحدثنا الحسنُ بنُ عليٍّ الحُلوانِيُّ ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيَى بن أيوبَ ، قال : حدثني إسماعيلُ بن أميَّةَ أنه سمع أبا غَطَفانَ بن طريفٍ المُرِّيَّ يقول : سمعتُ عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقولا حين صام رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عاشوراء وأمر بصيامهِ ، قالوا : يا رسولَ اللهِ إنه يومٌ تُعظِّمُهُ اليهود والنصارى . فقال رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فإذا كان العام المقبلُ إن شاء اللهُ صمنا اليومَ التاسعَ " . قال فلم يأتِ العامُ المقبلُ حتى تُوفِّي رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 20 ) ـ باب : أي يوم يصام في عاشوراء / حديث رقم : 133 ـ ( 1134 ) / ص : 272 .
ووجه الاستدلال بالحديث :
أن قوله : صام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عاشوراء ، مع قوله : في العام المقبل صمنا التاسع صريح في أن اليوم الذي كان يصومه على أنه عاشوراء ليس هو اليوم التاسع ، فتعين العاشر لأن الخلاف دائر بين هذين اليومين ؛ فهذا دليل مركب من الخبر والإجماع الضمني الظني .
ويؤخذ من الحديث حكم آخر :
وهو استحباب صيام اليوم التاسع من شهر الله المُحَرَّمِ مع اليوم العاشر .
الحكمة من صيام التاسع :
لصيام التاسع مع العاشر حكمتان :
الأولى : مخالفة اليهود والنصارى فهم يخصون عاشوراء بالصيام ، وهذا المعنى مروي عن ابن
عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما سبق .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 20 ) ـ باب : أي يوم يصام في عاشوراء / حديث رقم : 133 ـ ( 1134 ) / ص : 272 .
الثانية : الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ، ووقوع غلط فيـون التاسع في العـدد هو العاشر في نفس الأمر ، وهذا المعنى نقله النووي في المجموع عن جماعة من الشافعية وغيرهم ، ولعلهم يستدلون على ذلك بما أخرج الطبراني ـ رحمه الله ـ في المعجم الكبير ( 3 / 99 / 2 ) بسند صحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن عشت إن شاء الله إلى قابل صمت التاسع ؛ مخافة أن يفوتني يوم عاشوراء " .
وصححه الشيخ الألباني في : سلسلة الأحاديث الصحيحة / ج : 1 القسم الثاني / تحت حديث رقم : 350 / ص : 686 ،
فهذا الحديث صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ، هَمَّ بصوم التاع خشية فوات العاشر .
* فيظهر مما سبق أن استحباب صيام التاسع مع العاشر معلل بعلتين وهما الاحتياط والمخالفة ، والقاعدة في الأصول : [ يجوز تعليل الحكم بعلتين ] ، ومن ثَمَ فلا تعارض بين الأخبار الواردة في التعليل .