عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 07-12-2017, 12:43 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,232
Arrow

أحكام البيوع والمعاملات
قال الله تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ "المائدة: 1 ، "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا "البقرة: 275 ،"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ "النساء: 29 ، "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا "البقرة: 29 ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً "آل عمران: 130 ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ "الجمعة: 9، 10 ، "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ "النور: 37. الآية، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ "المنافقون: 9 ، "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ "المائدة: 90 ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى " إلى قوله"عَلِيمٌ "البقرة: 282 ، "أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ "البقرة: 267 . يستفاد من هذه النصوص كثير من أحكام المعاملات.
فمنها: أنَّها دلت على أنَّ الأصل صحة جميع البيوع والمعاملات، إلا ما استثناه الشارع وأباحت جميع أنواع التجارة، تجارة الإدارة، وتجارة التربص والانتظار بالسلع فرصها ومواسمها، وتجارة الإجارات، وتجارة الديون، وكلَّ ما دخل في اسم التجارة.
ومنها: أنَّ جميع العقود تنعقد بما دل عليها من قول وفعل، لأنَّ الله أباحها ولم يحدد لها ألفاظًا مخصوصة، فكلما عده الناس بيعًا وتجارة ومعاملة انعقدت به المعاملات.
ومنها: وجوب الوفاء بجميع العقود والشروط في كلِّ المعاملات، إلا ما استثناه الشارع كالعقود والشروط التي تحل حراماً، أو تحرم حلالاً، أو ما جعل له الشارع خيار مجلس أو عيب ونحوه أو ما اتفق المتعاقدان على استثناء خيار شرط أو غيره، أو ما كان في الأصل غير لازم كعقود الوكالات ونحوها.
ومنها: أنَّ المعاملات مع إباحتها فالمشتغل بها غير مذموم، إذا لم تلهه عن ذكر الله الواجب من صلاة ونحوها، فإن ألهت عن ذلك فهي مذمومة وصاحبها خاسر.
ومنها: اشتراط التراضي من المتعاملين في كلِّ المعاملات، بأن يأتي بذلك اختياراً فإن أكره أحدهما بغير حق لم تكن المعاملة صحيحة، فإن امتنع أحدهما مما وجب عليه وأكره على الواجب كانت المعاملة صحيحة.
ومنها: أنَّه يستفاد من اشتراط التراضي أنَّ من اشترى معيبًا لم يعلمه، أو غبن بنجش، أو تلقي جلب، أو اغترار أو نحو ذلك أنَّ له الخيار، لكونه لم يحصل الرضى المعتبر.
ومنها: أنَّ الربا بجميع أنواعه من أعظم المحرمات، وأنَّه مفسد للعقد وإن تراضى به المتعاقدان، لأنَّه ليس لهما أن يتراضيا على ما لا يرضي الله ورسوله.
وأنواع الربا ثلاثة: ربا الفضل: بأن يبيع مكيلاً بمكيل من جنسه متفاضلاً، أو موزونًا بموزون من جنسه متفاضلاً، فإنَّ الشارع شرط في بيع الشيء بجنسه إذا كان مكيلاً أو موزوناً شرطين التماثل في القدر والقبض قبل التفرق.
وربا النسيئة: أن يبيع المكيل بالمكيل، أو الموزون بالموزون ولو من غير جنسه، ويتفرقا قبل قبض العوضين، وأشد أنواعه ما ذكره الله بقوله"لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً " آل عمران: 130. وذلك أن يحل الدين عليه، ثم يقلبه عليه ببيعة أخرى إلى أجل فيتضاعف ما في الذمة من غير منفعة، ولا مصلحة تعود على المعامل، وذلك ظلم من صاحب الدين، وسواء تعاملا هذه المعاملة صريحًا، أو تحيلا عليها بحيلة من الحيل وصورةِ عقد غير مقصود، فكلُّ حيلة يتوسل بها إلى إسقاط الواجبات، أو استحلال المحرمات فإنَّها باطلة غير نافذة، لأنَّ العبرة في المعاني والمقاصد لا عبرة بالألفاظ التي لا يقصد معناها.
وأمَّا ربا القرض فأن يقرضه شيئًا ويشترط في مقابلة ذلك نفعاً أيَّ نفع يكون، فهذا الشرط هو الذي أخرجه من موضوع القرض والإحسان، وأدخله في موضوع المعاملات فصارت حقيقته دراهم بدراهم إلى أجل ـ مثلاً ـ وذلك النفع المشروط هو الربح
- في النسخة الأولى: «فصار دراهم بدراهم والربح ذلك النفع».-.

وأمَّا الميسر فإنَّه نوعان: مغالبات ومعاملات: فمتى كانت المعاملة فيها خطر وغرر وجهالة فهي من الميسر، وهو أنواع كثيرة مثل: بيع الآبق وبيع المجهولات أعيانها، أو صفاتها، أو مقاديرها، أو بيع المنابذات، أو الملامسات، أو استنثاء المجهول من المعلوم، أو يشرط في المزارعة، أو المساقاة، أو المغارسة، أو المضاربة، أو المشاركات كلِّها مصلحة أحد المعينات، وللآخر الآخر فيكون كلٌّ منهما مخاطرًا، وذلك أنَّ مبنى المشاركات على العدل، واستواء المتعاملين في المغنم والمغرم، فشرط خلاف ذلك ميسر وخطر وفي ذلك مفاسد كثيرة.

ومن عامل معاملة محرمة فعليه أن يتوب إلى الله، ويرجع المعاملة إلى العدل الذي أباحه الله، ويرفض ما فيها من ربا وميسر وتغرير وغش ونحوها من المحاذير الشرعية.
وأما آية الدين فما أجمعها لأحكام المعاملات وأكثر فوائدها، فإنَّ الله أرشد عباده إلى حفظ أموالهم ونظامها في المعاملات، وإلى تحريرها بالكتابة والشهود وضبطها بالوثائق، وذَكَرَ الطرقَ وأرشدَ إلى سلوكها ويسّرها غاية التيسير، ونفى كلَّ ضرر وظلم فيها من الجانبين، وأمر بغاية العدل وهي من البراهين على أنَّ دين الإسلام قد تكفل للبشر بصلاح دينهم ودنياهم، حيث أباح كلَّ معاملة نافعة وحرم كلَّ معاملة ضارة، وبيّن الطرق التي تحفظ بها وتضبط المعاملات والحقوق.
فمن فوائدها: جواز الديون كلِّها سواء كانت دين سَلَمٍ، بأن يسلم الثمن ويكون المثمن مؤجلاً إلى أجل مسمى، أو ديناً مطلقاً كأن يشتري شيئًا حاضرًا بثمن في ذمته إلى أجل مسمى، لأنَّ الله نسبه للمؤمنين وأقرهم عليه وهذا خاصية المباح.
ومنها: اشتراط العلم بالمبيع والثمن والأجل. أمَّا الأجل فمصرّح به في قوله"إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى "البقرة: 282 . وأمَّا علم الثمن والمثمن فمن باب التنبيه، إلى إنَّه إذا شرط العلم بالأجل الذي هو فرعه، فالأصل من باب أولى وأحرى.
ومنها: الأمر بكتابة الديون المؤجلة، والرخصة في ترك الكتابة في المعاملات الحاضرة، والحكمة في ذلك ظاهرة وهو الحاجة والضرورة في المؤجلة، والمشقة في الحاضرة المتكررة.
ومنها: الإرشاد إلى الإشهاد في المعاملات كلِّها حاضرة أو مؤجلة، وهي أعظم الوثائق وأنفعها وأوسعها.
وقد أمر بأعلى ما يكون فيها بإشهاد رجلين أو رجل وامرأتين من الشهود المرضيين بين الناس، وبَيَّن الحكمة في كون المرأة الواحدة لا تقوم مقام الرجل أنَّ ذاكرة الرجل أقوى من المرأة، فلهذا جبر هذا النقص بزيادة العدد، وبَيَّن الحكمة في ذلك بقوله"أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى "البقرة: 282 .
ومنها: أمر الشهود أن ينقادوا للشهادة، وأن لا يأبوا إذا دعوا للتحمل أو للأداء لما في ذلك من القيام بحق المسلم، وفك المنازعات، ولما فيه من الخير والأجر عند الله تعالى.
ولهذا ينبغي للشاهد أن يقصد بتحمله للشهادة وأدائها وجه الله والقيام بالواجب لقوله تعالى"وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ " الطلاق: 2. وزَجَر غاية الزجر عن كتمان الشهادة ومن باب أولى شهادة الزور، فكلاهما من كبائر الذنوب كتمان الشهادة، والشهادة بالباطل، فإنَّه ظلم في حق الله وظلم للمتعاملين كليهما. أمَّا المظلوم فظاهر وأمَّا الظالم فإنَّ شاهد الزور له وكاتمَ الشهادةِ الحق عليه قد أعانه على الظلم والعدوان.
وفيها دليل أنَّ شهادة الرجلين والرجل والمرأتين مقبولة في جميع المعاملات والأموال، وليس في ذلك نفي لقبول غيرها، لأنَّ الله إنَّما ذكر أعلى الحالات التي يحفظ بها الحقوق، وما يحكم به الحاكم أعمُّ من ذلك. فقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد ويمين صاحب الحق- - أخرجه الترمذي (رقم: 1345)، وابن ماجه (2368)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.-.
ومنها: أنَّ الله أقام المرأتين مقام الرجل، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل» - أخرجه البخاري (رقم: 304)، ومسلم (رقم: 79).وأطلق ذلك. ومقتضاه أن يكون في كلِّ الأحوال ولأهل العلم هنا تفصيلات كثيرة، وما دلت عليه النصوص يجب تقديمه على كلِّ قول.
ومنها: أنَّ من نسي شهادته ثم ذكرها، أنَّ شهادته صحيحة لقوله تعالى"أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى" البقرة: 282 .

وقوله"وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ "البقرة: 282. يدل على أنَّه ينبغي أن يكون الكاتب كامل الصفات، عالماً بالعدل، سالكاً لطريق العدل، معتبرًا عند الناس، وأنَّه لا يحل له أن يميل مع أحد المتعاملين لقرابة، أو صحبة أو نحوهما، فإنَّه خلاف العدل.
ومنها: أنَّ معرفة الكتابة من نعمة الله على العبد، وكونه معتبراً عند الناس مرضياً عندهم، وتتوجه له حاجاتهم، ويمنُّ الله عليه بقضائها والقيام بها، فبهذا تتم عليه النعمة وعليه أن يشكر الله على ذلك ولهذا قال"وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ "البقرة: 282 .
وقوله"وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ "البقرة: 282 ، لأنَّه يكتب الحق الذي يُقِرُّ بِهِ، وفي هذا أنَّ الإقرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق، وأنَّه لا عذر لمن أقرّ، وأنّه لو أقرّ ثم أنكر بعد ذلك، أو ادعى غلطًا أو نسيانًا أنَّه لا يقبل منه؛ لأنَّ الحق ثبت باعترافه، فدعواه ارتفاع ذلك دعوى مجردة لا تقبل.
وفي هذا أنَّه لا يكتب ما أملاه من له الحق حتى يعترف به من عليه الحق اعترافًا معتبرًا.
"فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا"البقرة: 282 ، أي: لا يعرف المصلحة ولا يحسن المعاملة "أَوْ ضَعِيفًا "البقرة: 282 ، أي: صغيرًا، ومن باب أولى المجنون، "أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ "البقرة: 282. لخرس أو حياء الأنثى "فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ "البقرة: 282 ، فيها إثبات الولاية على القاصرين وأنَّ وليهم ينوب منابهم في التصرفات والإقرارات، ويترتب عليه أنَّه لو زالت عنهم الموانع وأرادوا إلغاء تصرفات وليهم أو اتهموه بغير بيّنة فليس لهم ذلك لكونه قام مقامهم.
وفيه أنَّه لا عبرة بإقرار الصغير والسفيه والمجنون ولا بتصرفاتهم، لأنَّ الله لم يجعل لهم هنا إقرارًا ولا معاملة ولا إملاء، بل جعل ذلك لوليهم، ففيه إثبات الحجر عليهم، ومنعهم من التصرفات والتبرعات والإقرارات على أموالهم، وذلك عين مصلحتهم وهذا من محاسن الشريعة، حيث لم يمكن القاصرين من أموالهم خوف الضرر عليهم. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى"وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا "النساء: 5 .
وإثبات النيابة عن المرأة الخفرة، فيه إثبات الوكالة، وأنَّ الوكيل إذا أقرّ فيما وكّل فيه فإقراره مقبول.
وفيه دليل على أنَّه ينبغي معرفة حسن الإملاء وتعلم ذلك، وكذلك الكتابة خصوصاً تعلم كتابة الوثائق ومعرفة اصطلاح الناس فيها، فإنَّ ذلك نعم العون على هذا المقصود.
ثم حثّ على كتابة الصغير والكبير فقال"وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ "البقرة: 282 . ففي هذا أنَّ التدقيق في المعاملات والمحاسبات أولى من الإهمال وبناءِ الأمور على المساهلة، فالتدقيق وتحرير المعاملة لها محل، وباب المعروف والإحسان له محل آخر، والتمييز بين الأمرين له أهمية كبيرة، بل الغالب أنَّ الإحسان لا يكون له ذلك الموقع حتى تعلم الأمور على سواء بين المتعاملين.
ثم بيّن تعالى الحِكَم والمصالح العظيمة المترتبة على هذه الإرشادات القرآنية فقال"ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ "البقرة: 282 ، أي: أقرب لسلوك العدل وأقوم للشهادة، أي: أثبت لها لانبنائها على الكتابة وتأيدها وتذكرها بها، "وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا "، أي: يزول بذلك الشك في المعاملة، ولا يستريب بعض المتعاملين ببعض. فكلُّ هذه مقاصد جليلة تدعو الضرورة والحاجة إليها.
وفيه دليل على أنَّ الوثائق يؤيد بعضها بعضًا، وأنَّ الله يحب من المتعاملين أن تكون المعاملة صريحة لا امتراء فيها، وبهذا تدوم المعاملة ويزول الريب.
وقال"فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ" البقرة: 282 ، أي: ولا حرج إذا لم يتوثقوا بكتابة ولا شهادة، ولكن على كلِّ واحد ممن أمنه صاحبه ووثق به أن يؤدي أمانته ويشكر أخاه الذي وثق به، فيكون واجبًا عليه من جهتين: من جهة لزوم تقوى الله ووجوبها في كلِّ حال، ومن جهة أنَّ أخاك إذا وثق بك وأمنك فقد فعل معك معروفاً، فعليك أن تقابل الإحسان بالإحسان وفي هذا تنبيه على كلِّ ما في معناه، وأنَّ من عمل معك معروفًا في المعاملة فما جزاؤه إلا الوفاء معه ومقابلته بمثل عمله، كما أنَّ في قوله"أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ" تنبيه على أنَّ من خصّه الله بنعمة يحتاج الناس إليها، أنَّ مِن شُكره الله على هذه النعمة أن يبذلها للناس إذا احتاجوا إليها، وهو لا مضرة عليه فيغنم ولا يغرم.
ومنها: مشروعية وثيقة الرهن وخصوصًا في السفر عند الحاجة إليه لفقد الكاتب أو الشاهد، وأنَّ المقصود من الرهن أن يكون وثيقة بالدين إذا تعذر الوفاء بيع بالدين، وله مقصود آخر وهو أنَّه إذا كان له غرماء غيره قدم صاحب الرهن به عليهم.
وفيه أنَّ أكمل حالات الرهن أن يكون مقبوضًا، وليس في الآية دليل على أنَّه لا يكون رهنًا إلا إذا قبض، لأنَّ الله إنَّما ذكر أعلى الحالات، بل مفهوم قوله"فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ " البقرة: 283. أنَّها قد تكون غير مقبوضة، لكنها أقل توثقة من المقبوضة، كما أنَّ الشيء القليل أو الذي في الذمة أقل توثقة من الكثير أو من العين.
ومنها: النهي عن مضارة الكاتب والشهيد أو يضاران هما للمتعاملين، فعلى كلٍّ منهما سلوك الطريق الذي فيه إرفاق وسهولة.
ومنها: أنَّه تعالى تعاهد من يُخشى منه خيانة تخفى كالمملي للحق الذي عليه، والمؤتَمَن الذي وثق المعامل بأمانته وذمته بالحث على لزوم التقوى وتذكيره برعاية حق أخيه لكون الحق لا بيّنة به.
قوله تعال"وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " يوسف: 72 . اسْتُدِل بها على صحة الكَفَالة والضَمَان والجَعَالة، وأنَّه يجوز تقدير الجعالة بما يتقارب علمه كحِمْلِ البعير ونحوه.
وقوله"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا " النساء: 58 . استدل به على ثبوت الأمانات ووجوب حفظها في حرز مثلها وأدائها إلى أهلها: الذي ائتمن الإنسان، أو إلى وكيله ومن يحفظ ماله عادة، وأنَّ كلَّ مؤتمن مقبول قوله في التلف وعدم التفريط، وأنَّ الإنسان مقبول قوله على ما تحت يده من الأمانات لأنَّ هذا مقتضى التأمين.
وقوله"إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ "القصص: 26 فيه مشروعية الإجارة وجوازها في كلِّ المنافع المباحة، وأنَّ خير من عاملته بإجارة أو غيرها مَنْ جَمَعَ الوصفين، القوة التي هي الكفاءة للعمل المقصود من الإنسان والأمانة، فإنَّ النقص إما فقد الصفتين أو إحداهما.
قوله تعالى"وَالصُّلْحُ خَيْرٌ "النساء: 128 ، "فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ "الحجرات: 10. وهذا عام في جميع الحقوق المالية وغيرها، وسواء عند الإقرار أو الإنكار. فالصلح جائز ومأمور به بين الناس إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً، وعموم ذلك يقتضي جواز الصلح عن جميع الحقوق حتى حقوق الخيار والشفعة وغيرها، ويقتضي جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، والصلح بين الجيران في الحقوق المتعلقة بالجوار.
وقد أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين والأقربين والجيران والمساكين وغيرهم، فيشمل ذلك الإحسان القولي والفعلي، ويختلف باختلاف الأشخاص والأوقات وجميع الأحوال.
وقوله تعالى"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" الأنعام: 152. فيها الولاية على اليتيم وإحسان تدبير ماله، وقد أمر باختباره عند بلوغه، فإذا علم رشده وهو حفظ ماله ومعرفته للتصرف والتصريف دفع له ماله.
قوله تعالى"كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ "البقرة: 180.نُسخت الوصية للورثة بآيات الميراث، وبقيت في غيرهم من الأقارب ونحوها من طرق البر والخيرات.
ويُسْتَدَلُّ على الوقوف والهبات والوصايا، وكذلك على القرض والعارية ونحوها من التبرعات في الأعيان أو في المنافع، بعموم أمره تعالى بالإحسان وثنائه على المحسنين، وبيان فضائلهم وثوابهم. فهذه المذكورات كلُّها داخلة في الإحسان، ولكن ينبغي أن يعلم أن الإحسان إنما يكون إحسانًا حقيقيًا إذا لم يتضمن ظلمًا وجورًا، وإلا فترك الإحسان هو الإحسان مثل أن يكون تبرعه يتضمن ترك واجب من دين، أو مضارة وارث، أو إضرار بمن لا تحل مضارته فهذا لا يجوز.
وقوله"مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ "التوبة: 91. يدل على أنَّ المؤتَمن إذا كان بغير جُعْل أنَّ قوله مقبول في رد الأمانة، كما يقبل قول كلِّ مؤتمن في دعوى التلف وعدم التفريط.
وقوله تعالى"فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ "البقرة: 182. فيها إرشاد إلى تنبيه المعتدي في وصيته، ونصيحة من بعده في تعديل وصيته إذا كانت جائرة.
وقوله تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ"المائدة: 106- إلى آخر الآيات. فيها: أنَّ الوصية مشروعة وأنَّه يكفي فيها شهادة اثنين من المسلمين، فإن لم يحضر المحتضر إلا كفار، قبلت فيها شهادة اثنين منهم للضرورة، فإن خيف منهما خيانة حلفا بعد الصلاة ما خانا وما كتما، وإن اطّلع على خيانة منهما بأن قامت الشواهد على ذلك، حلف اثنان من أولياء الميت على خيانتهما، وأنَّ شهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ثم يغرمان المال.
رد مع اقتباس