|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي رحمه الله تعالى (1307هـ - 1376هـ) اعتنى به عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر للتحميل *اكبس هنا* |
#2
|
||||
|
||||
بسم الله الرحمن الرحيم تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فلا تزال فوائد شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي تتجدد حتى بعد وفاته، وذلك مما يتحفنا به أبناؤه وأحفاده حفظهم الله. من الفوائد الجديدة والمؤلفات النفيسة التي لم تنشر بعد لأنه رحمه الله قد أشرب حب العلم والتعليم والبحث والتأليف حتى سهلت عليه الكتابة، فلا تكاد تراه إلا باحثًا أو معلمًا أو مؤلفًا أو كاتبًا. وإن من أنفع مؤلفاته الأخيرة التي لم تُنشر بعد كتاب «فتح الرحيم الملك العلاّم في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن» ، هكذا سماه المؤلف بخط يده المثبت على طرة الكتاب، وسمّاه في موضع آخر: «بستان الموقنين وقرة عيون المؤمنين» فهما اسمان لمسمى واحد وهو هذا الكتاب المختصر الذي جمع فيه مؤلفه على اختصاره ثلاثة فنون. أحدها: علم التوحيد والعقائد. والثاني: علم الأخلاق والآداب. والثالث: علم الفقه، عبادات ومعاملات وغيرها. فهذه الفنون الثلاثة هي أهم ما يمكن أن يحققه المسلم ويشملها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، فمن حصل عليها فليبشر بأن الله قد أراد به خيرًا وفقهه في الدين. وقد صدّره المؤلف بتفسير بعض الأسماء الحسنى تبركًا بها وتيمُّنًا بمعانيها، ثم استرسل يذكر مسائل الكتاب بعبارات جزلة واضحة. وقد خدمه فضيلة الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، وذلك بمقابلته على أصوله، وتصحيح عباراته، وعزو آياته، وتخريج أحاديثه، ووضع فهارسه، وغير ذلك مما زاده وضوحًا وقرب فوائده. فجزاه الله خيرًا على ما خدم به هذا المؤلف الجليل وأثابه على ذلك. وعلى كُلٍّ فمخبر الكتاب يفوق منظره وما رآء كمن سمع، وإني أحث إخواني وأبنائي الطلاب على دراسته والنهل من معينه، فإن صلاح نية مؤلفه وإخلاصه ـ ولا نزكي على الله أحدًا ـ لها دخل كبير في حصول الفائدة وقرب الانتفاع وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه. وكتبه الفقير إلى الله عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقًا |
#3
|
||||
|
||||
بسم الله الرحمن الرحيم الـمقدمة أما بعد: فإنَّ القرآنَ الكريمَ كلامَ ربِّ العالمينَ هو أعظمُ أبوابِ الهدايةِ وأجلُّ سبلِ الفلاحِ. أنزلَهُ اللهُ على عبادِهِ هدى ورحمةً وبشرى، وضياءً ونورًا، وذكرى للذاكرينَ، جمعَ فيه سبحانه العلومَ النافعةَ والمعاني الجليلةَ الكاملةَ، والترغيبَ والترهيبَ، والأصولَ والفروعَ، والوسائلَ والمقاصدَ، والعلومَ الدينيةَ والدنيويةَ والأخرويَةَ، وجعلَهُ مرشدًا للعبادِ إلى كلِّ طريقٍ نافعٍ وسبيلٍ قويمٍ، يفرقونَ به بينَ الحقِّ والباطلِ، والهدى والضلالِ، والخيرِ والشرِ، ويهديهم إلى أقومِ الأمورِ وأرشدِهَا وأنفعِهَا في كلِّ شيءٍ في العقائدِ والعباداتِ والآدابِ، ويرشدُهُم إلى كلِّ صلاحٍ وفلاحٍ ديني ودنيوي بحيث تقوم به أمورهم، وتزكو نفوسُهُم، وتعتدل أحوالُهُم، ويستقيمُ طريقُهم، ويحصل لهم الكمالُ المتنوعُ منْ كلِّ وجهٍ، فهو كتابُ علمٍ وتعليمٍ تزول به الضلالاتُ المتفرقةُ والجهالاتُ المتنوعةُ، وكتابُ تربيةٍ وتأديبٍ تتحقق به الأخلاقُ الفاضلةُ والأعمالُ الكريمةُ. وهو كتابٌ بحرُهُ عميقٌ، وفهمُهُ دقيقٌ، وخزائنُه ملأى، لا يصل إلى استخراجِ كنوزِه، واستنباطِ جواهرِهِ إلا مَنْ تبحرَ في العلومِ وعاملَ اللهَ تعالى بتقواه في سرِهِ وعلانيتِهِ. ونحسب أنَّ الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ كذلك، إذ قد منّ الله عليه بكتابة عدد من المؤلفات النافعة حول القرآن الكريم، لقيت القبول بين المسلمين، وانتشرت بين أهل العلمِ وطلابِهِ، وأفاد منها الخاصُّ والعامُّ، ويأتي في مقدمتها كتابه الذي ألفه في تفسير القرآن، وخلاصته، والقواعد الحسان التي يحتاج إليها المفسر، إلى غير ذلك مما ألفه ـ رحمه الله ـ في خدمة كتاب الله ـ عز وجل ـ. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن الموسوم بـ :فتح الرّحيمِ الملكِ العلاّمِ في علمِ العقائدِ والتوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ المستنبطةِ منَ القرآنِ_ هو أحد مؤلفاته النفيسة المتعلقة بكتاب الله تعالى يخرجُ إلى طلاب العلم لأول مرة، وقد جمع فيه ـ رحمه الله ـ أهمَ علوم القرآن وأجلَّها على الإطلاق وهي ثلاثة علوم: 1 ـ علم التوحيد والعقائد الدينية. 2 ـ علم الأخلاق والخصال الفاضلة. 3 ـ علم الأحكام للعبادات والمعاملات. بذلك الأسلوب العلمي الرائع المعهود في الشيخ ـ رحمه الله ـ بعباراته الجَزْلَةِ، وألفاظهِ السهلةِ، وتنبيهاتِهِ اللطيفةِ، في حسنِ نصحٍ وتمامِ إرشادٍ، فرحمه الله من إمام، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، ورفع في الجنة درجته، وأعلا فيها منزلته، إنَّه سميعٌ مجيبٌ. وقد اعتمدت في إخراجه على نسخة بخط مؤلفه رحمه الله محفوظة لدى أبنائه حفظهم الله وبارك فيهم، وقد لمست فيهم حرصًا كبيرًا ورغبة شديدة في نشر مؤلفات والدهم، وتوزيعها احتسابًا للأجر والثواب، والشيء من معدنِهِ لا يُسْتَغْرَب، فنسأل الله أن يتقبل منهم، ويثيبهم، ويوفقهم لكلِّ خير. أما عن عملي في هذا الكتاب فيتلخص في الآتي: 1 ـ مقابلة المصفوف من الكتاب على نسخته الخطية، مع الحرص قدر المستطاع على إخراجه إخراجًا سليمًا من الأخطاء كما أراده مؤلفُهُ ـ رحمه الله ـ. 2 ـ عزو الآيات إلى سورها مع تصويب الأخطاء القليلة الواقعة في بعض الآيات، لأنَّ الشيخ رحمه الله ـ فيما يظهر ـ كان يكتبها من حفظه. 3 ـ تخريج الأحاديث باختصار، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما، وما كان في غيرهما أشير إلى مصدر أو مصدرين من مصادر تخريجه مع ذكر درجته. 4 ـ التعليق على بعض المواطن اليسيرة بإحالة إلى مرجع أو توثيق معلومة أو نحو ذلك. 5 ـ وضع فهرس لموضوعات الكتاب في آخره. والله الكريم أسأل أن ينفع به، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يغفر لنا جميعًا، ولوالدين، وللمسلمين والمسلمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وكتبه: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر المدينة النبوية |
#4
|
||||
|
||||
بسم الله الرحمن الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وسلطانه، ولا مثيل له في نعوته وأوصافه وكرمه وإحسانه، ولا نديد له في ألوهيته وحمديته وعظمة كبريائه وشأنه. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المؤيَّد بآياته وبرهانه، الهادي إلى جنته ورضوانه. اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه على الحق وأعوانه وسلِّم تسليمًا. أما بعد: فقد كتبت سابقًا كتابًا مطولاً في تفسير القرآن، فصار طوله من أكبر الدواعي لعدم نشره؛ لفتور الهمم ومللِها من الطول، ثم إني بعد ذلك استخلصت منه ومن غيره قواعد تتعلق كلُّها بأصول التفسير، وهي نعم العون للراغبين في علم التفسير الذي هو أصل العلوم كلِّها، فبلغت سبعين قاعدة، ويسّر المولى طبعها ونشرها. فتكرَّر علي الطلب في السعي في نشر التفسير فاعتذرت بالعذر المذكور، ولكن لا زلت أفكر في تلخيصه واختصاره [1]- وقد فعل ذلك رحمه الله حيث ألف كتابه «تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن» وهو مطبوع متداول.-تعقيب بالحاشية ، فظهر لي أنَّ الأولى والأنفع إفرادُ علومِ التفسير كلِّ نوع على حدته ولو لزم من ذلك ترك ترتيب التفسير،- بل لو لزم من ذلك ترك الكلام على كثير من الآيات القرآنية إذا تكلمنا على نظيرها أو ما يقاربها، فإنَّ الإحاطة على جميع الآيات القرآنية ليس من شروط علم التفسير، لأنَّ من خواص تيسير الله لمعاني كتابه أنَّه جعله أصولاً وقواعد وأسسًا، إذا عرف العبد منها شيئًا وموضعًا عرف نظيره ومشابهه ومقاربه في كلِّ المواضع، فمعرفة بعضه يدعو إلى معرفة باقيه. ثم نظرت فإذا علوم التفسير كثيرة جدًا، وفي استيعابها يطول الكتاب جدًا، فرأيت أهم علوم القرآن على الإطلاق ثلاثة علوم: علم التوحيد والعقائد الدينية، وعلم الأخلاق والخصال المرضية، وعلم الأحكام للعبادات والمعاملات. فرأيت الاقتصار على هذه الثلاثة أولى وأنفع وأحسن موقعًا - وقد كان لدى الشيخ رحمه الله اتجاه إلى إفراد علم التوحيد وعلم الأخلاق في رسالة مستقلة، حيث كلف أحد تلاميذه بنسخ ما يتعلق بهما من هذه الرسالة، وكتب لها مقدمة خاصة، قال فيها: «... وأجل ما احتوى عليه [أي: القرآن] علم التوحيد وأصول العقائد وعلم الأخلاق التي لا صلاح ولا فلاح ولا نجاح للخلق إلا بها... لهذا جعلت هذه الرسالة خاصة في هذين النوعين من علوم القرآن، إذ بإصلاح العقائد والأخلاق تصلح الأمور كلُّها» غير أنَّه لم يُنسخ من هذه المخطوطة إلا جزءٌ كبيرٌ من القسم المتعلق بالتوحيد فحسب، فجاءت في (42) صفحة، فرغ من نسخها في 1367هـ، وهي محفوظة لدى أبناء الشيخ حفظهم الله باسم «بستان الموقنين وقرة عيون المؤمنين» كما هو مثبت في غلافها بخط المصنف نفسه، وعليها تصويبات بخطه رحمه الله، أما الذي قام بنسخها بتكليف من المصنف فهو الشيخ عبد العزيز بن صالح الدامغ، ـ حفظه الله ـ كما أفادني بذلك الأستاذ مساعد بن عبد الله السعدي وفقه الله، ثم عثرنا على نسخة ثالثة للكتاب تقع في (48) صفحة، بخط الشيخ عبد العزيز بن صالح الدامغ، فرغ من نسخها في 18/1/1367هـ، وكان الاتجاه فيها إلى أفراد النوع الأول فقط، المتعلق بالاعتقاد والتوحيد، وقد كتب لها ـ رحمه الله ـ مقدمة خاصة قال فيها: «أما بعد: فهذه رسالة في علم التوحيد وأصول الدين وعقائد[هـ] سهلة الألفاظ جليلة المعاني جمعت فيها من غرر هذا العلم ونكته أصولاً جمة وفوائد مهمة يحتاجها، بل يضطر إليها المبتدي والمتوسط والمنتهي، استخلصتها من كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما أجمع عليه أئمة السلف المعتبرون...» وجعلها بعنوان «فتح الرب الحميد في علم العقائد وأصول التوحيد»، كما هو مثبت على غلافها بخط المصنف نفسه رحمه الله تعالى -. ، وكلُّ واحد من هذه الثلاثة يقتضي كتابًا مطولاً وخصوصًا علم الأحكام، ولكن أتينا بمقاصدها ونصوصها من الكتاب، وجمعناها في فنِّها واختصرنا الكلام فيها اختصارًا لا يخل بالمقصود ولا يغلق العبارات، بل أتينا بذلك بعبارات واضحة ليس فيها حشو ولا تعقيد. ونسأل المولى تعالى أن يعيننا على ذلك وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به وسائر إخواننا المسلمين، وأن يعفو عن خطئنا وتقصيرنا وإسرافنا في أمرنا، إنَّه جواد كريم. وسميته: «فتح الرحيم العلاَّم في علم العقائد والأخلاق والأحكام» المستندة إلى كتاب الله الكريم نصًا واستنباطًا وتنبيهًا وإرشادًا. حاشية: *فائدة وتعقيب من خارج الكتاب: "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" - الكتاب هنا -، هذا الكتاب خلاصة وانتقاء لبعض مواضع من تفسيره "تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن" - الكتاب هنا -اقتصر فيه على اختيار بعض الآيات ، ليكون ميسَّرًا على القارئين . انتهى المؤلف من كتابه سنة 1368هـ وهو على إيجازه واختصاره فيه معونة على تدبر كلام رب العالمين – وهو قريب من منهج التفسير الموضوعي ، وقد أراد المؤلف بجمع كل موضوع على حدته التقريب والسهولة وجمع المعاني التي من فنٍّ واحد في موضع واحد . هنا . |
#5
|
||||
|
||||
النوع الأول من علوم القرآن علم العقائد وأصول التوحيد وموضوع هذا العلم البحث عما يجب لله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وما يمتنع ويستحيل عليه من أوصاف النقص والعيب والمثال، وما يجوز عليه من إيجاد الكائنات وأنَّه الفعّال لما يريد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكذلك البحث عما يجب الإيمان به من الرسل وصفاتهم، وما يجب لهم ويمتنع في حقهم ويجوز، والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل، والإيمان بما أخبر الله به وأخبرت به رسله عن الحوادث الماضية والمستقبلة، وعن الإيمان باليوم الآخر، والجزاء والثواب والعقاب، والجنة والنار، وما يتبع ذلك ويتعلق به. فهذه مجملات مواضيع هذا العلم الجليل، والقرآن العظيم قد بيّن هذه الأمور غاية التبيين، ووضَّحها توضيحًا لا يقاربه شيء من الكتب المنزلة، ولم يُبْقِ منها أصلاً إلا بيّنه وجمع فيه بين البيان والبرهان، بيّن المسائل المهمة الجليلة، والبراهين القاطعة العقلية والنقلية والفطرية. وهذا النوع أقسام: أولها ومقدَّمها: علم التوحيد. أما الاعتقاد والعلم، فأنْ يعتقد العبد أنَّ جميع ما وصف الله به نفسه من الصفات الكاملة ثابتٌ لله على أكمل الوجوه، وأنَّه ليس لله في شيء من هذا الكمال مشارك، وأنَّه منزّهٌ عن كلِّ ما ينافي هذا الكمال ويناقضه، مما نزّه به نفسه أو نزّهه رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما التأله والعمل، فأن يتقرَّب العبد إلى ربه بأعماله الظاهرة والباطنة إلى الله، ويخلصها لوجهه وينيب إليه ويتألهه محبة وخوفًا ورجاءً وطلبًا وطمعًا، فيقصد وجهه الأعلى بما يعتقده من العقائد الصحيحة، وبما يقصده ويريده من الإرادات الصالحة والمقاصد الحسنة التابعة لأعمال القلوب، وبما يعمله من الأعمال الصالحة الراجعة للقيام بحقوق الله وحقوق عباده، وبما يقوله ويتكلم به من ذكر الله والثناء عليه وقراءة كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم الذي يرجع إلى ذلك، ومن الكلام الطيِّب والنُصح للعباد في أمور دينهم ودنياهم، ومن ذلك تعلمُ العلوم النافعة وتعليمُها، فكلُّ هذه الأشياء يجب إخلاصها لله وحده، وبتمام الإخلاص يتم التوحيد والإيمان. فبهذا التقرير يكون التوحيد يرجع إلى أمرين: توحيد الأسماء والصفات، ويدخل فيه توحيد الربوبية، وهذا يرجع إلى العلم والاعتقاد. وتوحيد الإلهية والعبادة، وهذا يرجع إلى العمل والإرادة، عملِ القلوب وعملِ الأبدان كما تقدم، ويسمَّى توحيد الإلهية، لأنَّ الإلهية وصف الباري تعالى، ويسمَّى توحيد العبادة لأنَّ العبادة وصف العبد الموحّد المخلص لله في أقواله وأعماله وجميع شؤونه، والقرآن العظيم يكاد كلُّه أنْ يكون تقريراً لهذه الأصول العظيمة، ودفعًا لما يناقضها ويضادّها من التعطيل والتشبيه والتنقيص، ومن الشرك الأكبر والأصغر والتنديد. وجوب تصديق الله ورسوله في كلِّ خبر وتقديم ذلك على غيره قال تعالى"قُلْ صَدَقَ اللَّهُ "آل عمران: 95 ، "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا "النساء: 122 ، "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا "النساء: 87."وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "فاطر: 14 ، "قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ "البقرة: 140 ، "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ "الأنعام: 19 ،"لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا "النساء:166 ، "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "آل عمران:18 . والآيات في هذا المعنى العظيم كثيرة، تدل أوضح دلالة، على أنَّ أفرض الفروض على العباد أن يصدقوا الله تعالى في كلِّ ما أخبر به عن نفسه من صفات الكمال وما تنزَّه عنه من صفات النقص، وأنَّه أعلم بذلك من خلقه، وشهادته على ذلك أكبر شهادة، وخبره عن نفسه وعن جميع ما يخبر به أعلى درجات الصدق، وذلك يوجب للعبد أن لا يدخل في قلبه أدنى ريبٍ في أيِّ خبر يخبر الله به، وأن يُنَزِّلَ ذلك من قلبه منزلة العقيدة الراسخة التي لا يمكن أن يعارضها معارض ولا يعتريها شك. وأن يعلم علمًا يقينيًا أنَّه لا يمكن أن يَرِدَ شيءٌ يناقض خبر الله وخبر رسوله، وأنَّ كلَّ ما عارض ذلك ونافاه من أيِّ علم كان، فإنَّه باطل في نفسه وباطل في حكمه، وأنَّه محالٌ أن يرد علم صحيح يناقض ما أخبر الله به، وتدل أكبر دلالة أنَّ من بنى عقيدته على مجرد خبر الله وخبر رسوله فقد بناها على أساسٍ متينٍ، بل على أصل الأصول كلِّها، ولو فرض وقدِّر معارضةُ أيِّ معارضٍ كان، فكيف والأدلةُ العقليةُ والفطرية والأفقية والنفسية كلُّها تؤيد خبر الله وخبر رسله وتشهد بصدق ذلك ومنفعته، ولهذا مدح الله خواص خلقه وأولي الألباب منهم حيث بنوا إيمانهم على هذا الأصل في قولهم"رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا "آل عمران: 193، "وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا "البقرة: 285 ، "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ "الزمر: 18. وعُلِمَ من ذلك أنَّ ابتداع أهل الكلام الباطل لأقوال وعقائد ما أنزل الله عليها من سلطان، ولم تُبْنَ على الكتاب والسنّة، بل على عقولٍ قد عُلم خطأ أصحابِها وضلالِهم، أنَّه من أبطل الباطل وأسفه السفه، حيث رغِبوا عن خبرِ اللهِ وخبر رسلِه إلى حيث سوَّلت لهم نفوسهم الأمّارة بالسوء، ودعتهم عقولهم التي لم تَتَزكَّ بحقائق الإيمان، ولا تغذت بالإيمان الصحيح واليقين الراسخ. يكفي هذا الأصل في ردِّ جميع أقوال أهل الزيغ بقطع النظر عن معرفة بطلانها على وجه التفصيل، لأنَّه متى علمنا مخالفتها للقواطع الشرعية والبراهين السمعية علمنا بطلانها، لأنَّ كلَّ ما نافى الحق فهو باطل، وما خالف الصدق فهو كذب. |
#6
|
||||
|
||||
شرح أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن على وجه الإيجاز غير المخِلِّ وفي الحديث الصحيح: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة» - رواه البخاري (رقم: 2736)، ومسلم (رقم: 2677).- وإحصاؤها تحصيل معانيها في القلب، وامتلاء القلب من آثار هذه المعرفة، فإنَّ كلَّ اسم له في القلب الخاضع لله المؤمن به أثرٌ وحالٌ لا يُحَصِّلُ العبد في هذه الدار ولا في دار القرار أجلَّ وأعظمَ منها، فنسأله تعالى أن يمنَّ علينا بمعرفته ومحبته والإنابة إليه. اللَّه ولهذا تضاف جميع الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم ويوصف بها، فيقال: الرحمن، الرحيم، الخالق، الرازق، العزيز، الحكيم، إلى آخرها من أسماء الله. ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، الرحيم، إلى آخرها. فمعنى الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين»- رواه ابن جرير في تفسيره (1/54)-.، فجمع رضي الله عنه في هذا التفسير بين الوصف المتعلِّق بالله من هذا الاسم الكريم، وهو الألوهية التي هي وصفه الدال عليها لفظ الله، كما دلَّ على العلم الذي هو وصفه لفظ العليم، وكما دل على العزة التي هي وصفه لفظ العزيز، وكما دلَّ على الحكمة التي هي وصفه لفظ الحكيم، وكما دلَّ على الرحمة التي هي وصفه لفظ الرحيم، وغيرها من الأسماء الدالة على ما قام بالذات من مدلول صفاتها. فكذلك الله هو ذو الألوهية، والألوهية التي هي وصفه هي الوصف العظيم الذي استحق أن يكون به إلهًا، بل استحق أن لا يشاركه في هذا الوصف العظيم مشارِكٌ بوجه من الوجوه. وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان. فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤله ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية والربوبية والملك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالرحمة وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالغنى المطلق التامِّ من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده. فالألوهية تتضمن جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبهذا احتج من قال: إنَّ الله هو الاسم الأعظم، ومنهم من قال: إنَّه الصمد الذي تصمد إليه جميع المخلوقات بحاجتها لكمال سيادته وعظمته وسعة أوصافه، ومنهم من قال: إنَّ الاسم الأعظم هو الحي القيوم لوروده في بعض الأحاديث، ولأنَّ هذين الاسمين العظيمين يتضمنان جميع الأسماء الحسنى والصفات الكاملة، فإنَّ الصفات الذاتية ترجع إلى الحي الذي قد كملت حياته فكملت صفاته، وصفات الأفعال ترجع إلى القيُّوم؛ لأنَّه الذي قام بنفسه وقام بغيره - أي: قام بتدبير أمورهم، وتصريف شؤونهم.-، وافتقرت إليه الكائنات بأسرها، وقيل في تعيين الاسم الأعظم أقوال أُخر - وهي تبلغ عشرين قولاً جمعها السيوطي في كتابه «الدر المنظم في الاسم الأعظم» وكثير منها ظاهر ضعفه لعدم قيام دليل صحيح صريح على صحته وثبوته.-، والتحقيق أنَّ الاسم الأعظم اسم جنس لا يراد به اسم معين، فإنَّ أسماء الله نوعان: أحدهما: ما دلَّ على صفة واحدة أو صفتين أو تضمن أوصافاً معدودة. والثاني: ما دلَّ على جميع ما لله من صفات الكمال، وتضمَّن ما له من نعوت العظمة والجلال والجمال، فهذا النوع هو الاسم الأعظم لما دلَّ عليه من المعاني التي هي أعظم المعاني وأوسعها. فاللَّهُ اسم أعظم، وكذلك الصمد، وكذلك الحي القيوم، وكذلك الحميد المجيد، وكذلك الكبير العظيم، وكذلك المحيط. وهذا التحقيق هو الذي تدل عليه التسمية وهو مقتضى الحكمة، وبه أيضاً تجتمع الأقوال الصحيحة كلُّها، والله أعلم - وممن ذهب إلى ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ففي تعليقٍ له على كتاب فقه الأدعية والأذكار (ص155)، قال: «والصواب أنَّ الأعظم بمعنى العظيم، وأنَّ أسماء الله سبحانه كلّها حسنى، وكلّها عظيمة، ومن سأل الله سبحانه بشيء منها صادقًا مخلصًا سالمًا من الموانع رُجيت إجابته، ويدل على ذلك اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، ولأنَّ المعنى يقتضي ذلك، فكلُّ أسمائه حسنى، وكلّها عظمى عز وجل، والله ولي التوفيق» اهـ.- والمقصود أنَّ هذا التفسير من ابن عباس رضي الله عنهما يُدْخِلُ فيها وصفَه بالألوهية التي نبهنا هذا التنبيه اللطيف على معنى الألوهية، ويُدْخِلُ فيها وصفَ العباد وهو العبودية، فالعباد يعبدونه ويألهونه. قال تعالى"وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ "الزخرف: 84 ، أي: يألهه أهل السماء وأهل الأرض طوعاً وكرهاً، الكلُّ خاضعون لعظمته، منقادون لإرادته ومشيئته، عانون لعزَّته وقيُّوميته. وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كلِّ قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كلَّ محبوبات النفوس الدينية والدنيوية العادية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال وأزمنة وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعاً لإلههم وسيدهم ومحبوبهم. ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال"وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ "الفرقان: 63 ، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوأوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه وثوابه وكرامته برحمته. وقد عُلم بهذا أنَّ من بذل هذه المحبة التي هي روح العبادة التي خلق الخلق لها لغير الله، فقد وضعها في غير موضعها، ولقد ضيَّعها أيضاً، ولقد ظلم نفسه أعظم الظلم، حيث هضمها أعظم حقوقها، وبذلك استحق أن يكون الشرك هو الظلم العظيم، وأن يكون المشرك مخلدًا في النار، محرومًا دخول الجنة محرَّمًا عليه، لأنها دار الطيبين الذين عبدوه حق عبادته وأخلصوا له الدين. وقد جمع الله هذين المعنيين في عدة مواضع مثل قوله تعالى لموسى: "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي "طه : 14."وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ".الأنبياء:25 ، "فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا".مريم: 65 ، أي مساميًا مماثلاً في صفات الألوهية. وكذلك كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، تتضمن نفي الألوهية عن غير الله، وأنَّه لا يستحق أحد من الخلق فيها مثقال ذرة، فلا يصرف لغير الله شيء من العبادات الظاهرة والباطنة، وتقرر الألوهية كلَّها لله وحده، فهو الذي يستحق أن يؤله محبة ورغبة ورهبة وإنابة إليه، وخضوعًا وخشوعًا له من جميع الوجوه والاعتبارات، فهو المألوه وحده، المعبود، المحمود، المعظّم، المُمَجّد، ذو الجلال والإكرام. |
#7
|
||||
|
||||
الرحمن، الرحيم، البَرُّ الكريم، الجواد، الوهاب، الرؤوف فجميع ما فيه العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات، فإنَّ ذلك منه ومن رحمته وجوده وكرمه وفضله، كما أنَّ ما صرف عنهم من المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار، فإنَّها من رحمته وبره، فإنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو. ورحمته تعالى سبقت غضبه وغلبته، وظهرت في خلقه ظهوراً لا ينكر، حتى ملأت أقطار السموات والأرض، وامتلأت منها القلوب حتى حنَّت المخلوقات بعضُها على بعض بهذه الرحمة التي نشرها عليهم وأودعها في قلوبهم، وحتى حنَّت البهائم التي لا ترجو نفعًا ولا عاقبة ولا جزاء على أولادها، وشوهد من رأفتها بهم وشفقتها العظيمة ما يشهد بعناية باريها ورحمته الواسعة، وعمَّت مواهبه أهل السموات والأرض، ويسَّر لهم المنافع والمعايش والأرزاق وربطها بأسبابٍ ميسَّرةٍ وطرقٍ مسهلةٍ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها. وعلم تعالى من مصالحهم ما لا يعلمون، وقدَّر لهم منها ما لا يريدون، وما لا يقدرون، وربما أجرى عليهم مكاره توصلهم إلى ما يحبون، بل رحمهم بالمصائب والآلام، فجعل الآلام كلَّها خيرًا للمؤمن الذي يقوم بوظيفة الصبر. «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن" -حديث رواه مسلم في صحيحه (رقم: 2999).- وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكذلك ظهرت رحمته في أمره وشرعه ظهورًا تشهده البصائر والأبصار، ويعترف به أولوا الألباب. فشَرْعه نور ورحمة وهداية، وقد شرعه محتويًا على الرحمة، وموصلاً إلى أجلِّ رحمة وكرامة وسعادة وفلاح. وشرع فيه من التسهيلاتِ والتيسيراتِ ونفيِ الحرج والمشقات ما يدل أكبر دلالة على سعة رحمته وجوده وكرمه، ومناهيه كلُّها رحمة لأنَّها لحفظ أديان العباد، وحفظ عقولهم وأعراضهم وأبدانهم وأخلاقهم وأموالهم من الشرور والأضرار. فكلُّ النواهي تعود إلى هذه الأمور، وأيضًا الأوامر سهَّلها وأعان عليها بأسبابٍ شرعيةٍ وأسبابٍ قدريةٍ، وذلك من تمام رحمته، كما أنَّ النواهي جعل عليها من العوائق والموانع ما يحجز العباد عن مواقعتها إلا من أبى وشرد، ولم يكن فيه خير بالكليَّة. وشرع أيضاً من الروادع والزواجر والحدود ما يمنع العباد ويحجزهم عنها، ويقلِّل من الشرور شيئًا كثيرًا. وبالجملة فشرعه وأمره نزل بالرحمة، واشتمل على الرحمة، وأوصل إلى الرحمة الأبدية والسعادة السرمدية. الخالق البارئ المصوِّر وإذا كان هو الخالق وحده البارئ المصور لا شريك له في شيء من ذلك، فهو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وهو الخالق للذوات والأفعال والصفات، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافراً، من غير أن يجبر العباد على غير ما يريدون. ففي عموم خلقه ردّ على القدرية حيث أخرجوا أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم عن دخولها تحت خلقه وتقديره، حذراً منهم وفراراً من الجبر، ولم يدروا أنَّ كماله وكمال قدرته ينفي الجبر، وأنَّه قادرٌ على جعل العبد يفعل ما يختاره ويريده جارياً على قدره ومشيئته، فهو أعظم من أن يجبر العباد، وأعدل من أن يظلمهم، بل هم الذين يريدون ويختارون والله هو الذي جعلهم كذلك، وإرادتهم وقدرتهم تابعة لمشيئة الله، "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ "28" وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ "29"التكوير . العزيز الجبار المتكبِّر القهَّار القوي المتين المعنى الثالث عزة القهر، الدال عليها اسم القهار الذي قهر بقدرته جميع المخلوقات، ودانت له جميع الكائنات، فنواصي العباد كلِّهم بيده، وتصاريف الملك وتدبيراته بيده، والملك بيده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فالعالم العلوي والعالم السفلي بما فيها من المخلوقات العظيمة كلُّها قد خضعت في حركاتها وسكناتها، وما تأتي وما تذر لمليكها ومدبِّرها، فليس لها من الأمر شيء، ولا من الحكم شيء، بل الأمر كلُّه لله، والحكم الشرعي والقدري والجزائي كلُّه لله، لا حاكم إلا هو، ولا رب غيرُه، ولا إله سواه. والعزة بمعنى القهر هي أحد معاني الجبار، ومن معاني الجبار أنَّه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلى السلطان وأنواع التصاريف استولى. ومن معاني الجبار معنى يرجع إلى لطف الرحمة والرأفة، وهو الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويجبر المريض والمبتلى، ويجبر جبرًا خاصًا قلوب المنكسرين لجلاله، الخاضعين لكماله، الراجين لفضله ونواله بما يفيضه على قلوبهم من المحبة وأنواع المعارف الربانية، والفتوحات الإلهية والهداية والإرشاد والتوفيق والسداد. المَلِك المالك للمُلك ـ الأحكام القدرية حيث جرت الأقدار كلُّها والإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والإيجاد والإعداد والإمداد كلُّها على مقتضى قضائه وقدرهِ. ـ والأحكام الشرعية حيث أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وخلق الخلق لهذا الحكم، وأمرهم أن يمشوا على حكمه في عقائدهم وأخلاقهم، وأقوالهم وأفعالهم، وظاهرهم وباطنهم، ونهاهم عن مجاوزة هذا الحكم الشرعي، كما أخبرهم أنَّ كلَّ حكم يناقض حكمه فهو شرٌ جاهليٌ من أحكام الطاغوت. ـ والأحكام الجزائية، وهو الجزاء على الأعمال خيرها وشرها في الدنيا والآخرة، وإثابةُ الطائعين، وعقوبةُ العاصين، وتلك الأحكام كلُّها تابعةٌ لعدله وحكمته وحمده العام، فهذه النعوت كلُّها من معاني ملكه. ومن معاني ملكه: أنَّ جميع الموجودات كلِّها ملكُه وعبيده المفتقرون إليه، المضطرون إليه في جميع شؤونهم، ليس لأحد خروج عن ملكه، ولا لمخلوق غنىً عن إيجاده وإمداده، ونفعه ودفعه. ومن معاني ملكه: إنزالُ كتبه، وإرسال رسله، وهداية العالمين، وإرشاد الضالين، وإقامة الحجة والمعذرة على المعاندين المكابرين، ووضع الثواب والعقاب مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها. كما أنَّ من معاني ملكه: أنَّه كلَّ يوم في شأن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويكشف غمًّا، ويزيل المشقَّات، ويغيث اللهفات، ويجبر الكسير، ويغني الفقير، ويهدي ضالاً، ويخذل معرضًا موليًا، ويعزُّ قومًا، ويذلُّ آخرين، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، ويغيِّر ما شاء من الأمور الجارية على نظام واحد، ليعرف العباد كمال ملكه، ونفوذ مشيئته، وعظمة سلطانه. فالملك يرجع إلى ثلاثة أمور: صفات الملك التي هي صفاته العظيمة، وملكه للتصاريف والشؤون في جميع العوالم، وأن جميع الخلق مماليكه وعبيده، فهو الملِكُ الذي له ملكُ العالم العلوي والسفلي، وله التدبيرات النافذة فيها، ليس لله في شيء من ذلك مشارك. القُدُّوس السلام ومجموع ما ينزّه عنه شيئان: أحدهما: أنَّه منزّه عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، فإنَّ له المنتهى في كلِّ صفة كمال، فهو موصوف بكمال العلم وكمال القدرة، منزّه عما ينافي ذلك من النسيان والغفلة، وأن يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومنزّه عن العجز والتعب والإعياء واللغوب، وموصوف بكمال الحياة والقيُّومية، منزّه عن ضدها من الموت والسِّنة والنوم، وموصوف بالعدل والغنى التام، منزّه عن الظلم والحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وموصوف بكمال الحكمة والرحمة، منزّه عن ما يضاد ذلك من العبث والسفه، وأن يفعل أو يشرع ما ينافي الحكمة والرحمة. وهكذا جميع صفاته منزّه عن كلِّ ما ينافيها ويضادها. الثاني: أنَّه منزّه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له نِدٌّ بوجه من الوجوه. فالمخلوقات كلُّها وإن عظمت وشرفت وبلغت المنتهى الذي يليق بها من العظمة والكمال اللائق بها، فليس شيء منها يقارب أو يشابه الباري، بل جميع أوصافها تضمحل إذا نسبت إلى صفات باريها وخالقها، بل جميع ما فيها من المعاني والنعوت والكمال، هو الذي أعطاها إياه، فهو الذي خلق فيها العقول والسمع والأبصار والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي علَّمها وألهمها، وهو الذي نمَّاها ظاهراً وباطناً وكمَّلها، قالت الرسل والملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يا عبادي كلُّكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلُّكم جائع إلا من أطعمته..» إلى آخر الحديث.-رواه مسلم (رقم: 2577)،- فهو المنزّه عن كلِّ ما ينافي صفات المجد والعظمة والكمال، وهو المنزّه عن الضد والند والكفؤ والأمثال، وذلك داخل في اسمه القدوس السلام. المؤمن وهو تعالى الذي صدّق رسله وشهد بصدقهم بقوله وفعله وإقراره حيث أخبر عن صدقهم. وفعل تعالى أفعالاً كثيرة من معجزات وآيات وخوارق كثيرة وبراهين متنوعة تُعَرِّفُ العباد بصدقهم وتشهد بالحق الذين جاؤوا به، فكلُّ المطالب والمسائل العظيمة لم يبق منها شيء إلا أقام عليه من البراهين شيئاً كثيراً. وقال تعالى"سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ "فصلت: 53 . فالإيمان الراجع إلى المعرفة والمحبة اللَّهُ أحق به وأولى به، ولنقتصر على هذه الإشارة في هذا المحلِّ العظيم -في تفسير المؤمن- .- ما بين المعكوفتين زيادة من النسخة الثالثة، وهي ملحقة بخط الشيخ ابن سعدي رحمه الله. |
#8
|
||||
|
||||
الشهيد المهيمن المحيط وجميع أعمال العباد قد أحصاها وقد علم مقدارها ومقدار جزائها في الخير والشر، وسيجازيهم بما تقتضيه حكمته وحمده وعدله ورحمته، والملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإنَّ الله لهم بالمرصاد قد أحاط بأحوالهم، وأحصى وراقب كلَّ حركاتهم وسكناتهم، ونواصيهم بيده، وليس لهم خروج عن تصرفه وإرادته ومشيئته. أين المفرُ والإلهُ الطالب والمجرمُ المغلوبُ ليس الغالب - القائل لهذا البيت هو نفيل بن حبيب، قاله حين رأى ما أنزل الله عز وجل من نقمته بأبرهة ومَنْ معه حينما قصدوا هدم البيت الحرام. انظر: تفسير الطبري (15/303)، ولفظه فيه: «والأشرم المغلوب».- فهذه الأسماء الثلاثة ترجع إلى سعة علمه، وإحاطته بكلِّ شيء، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى شهادته لعباده وعلى عباده بأعمالهم، وإلى الجزاء وانفراد الرب بتصريف العباد، وإجرائهم على أحكام القدر، وأحكام الشرع، وأحكام الجزاء، والله أعلم. الحميد المجيد فحمده تعالى قد ملأ العالم العلوي والسفلي، وله الحمد في الأولى والآخرة، وقد عمَّ حمده كلَّما يتقلَّب فيه العباد، لكون ذلك راجعاً إلى حكمته وعدله وفضله وإحسانه، ووضعه الأمور مواضعها، وهو الحميد الذي يحمده أنبياؤه وأصفياؤه وخيار خلقه، وهو تعالى الحميد الذي يحمدهم على ما أنعم به عليهم فمنه السبب والمسبب. وأما المجد فهو سعة الصفات وعظمتها، فالمجيد يرجع إلى عظمة أوصافه وكثرتها وسعتها، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى تفرده بالكمال المطلق والجلال المطلق والجمال المطلق، الذي لا يمكن العباد أن يحيطوا بشيء من ذلك، فإذا جُمع بين الحميد المجيد صار اسمُ الحميد أخصَّ بكثرة الأوصاف وسعتها، واسم المجيد أخصَّ بعظمتها وتوحده بالمجد. الحكيم أما الحكمة في خلقه فإنَّه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته ونهايته الحق، خلقها بأحسن نظام، ورتَّبها بأكمل إتقان، وأعطى كلَّ مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كلَّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلَّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته اللائقة به، بحيث لا يرى الخلقُ في خلق الرحمن تفاوتًا ولا فطورًا، ولا خللاً ولا نقصاً، بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلاً وأحسن من هذه الموجودات لم يقدروا. وهذا أمر معلوم قطعًا من العلم بصفاته، فإذا كان من المعلوم لكلِّ منصف مؤمن أنَّ الله له الكمال الذي لا يحيط به العباد، وأنَّه ما من كمال تفرضه الأذهان ويقدِّره المقدرون إلا والله أعظم من ذلك وأجلّ، كانت أفعاله ومخلوقاته وجميع ما أوصله إلى الخلق أكملَ الأمور وأحسنها، وأنظمها وأتقنها، "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ "النمل: 88 . فالفعل يتبع في كماله وحسنه فاعله، والتدبير منسوب إلى مدبِّره، والله تعالى كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله. وقد تحدَّى عباده في مواضع كثيرة من كتابه، هل يجدون أو يشاهدون في مخلوقاته نقصًا وخللاً، ومن ادّعى شيئًا من ذلك بسفاهة عقله وعظم جراءته، فقد نادى على عقله بين العقلاء بالحمق والجنون. وأما الحكمة في شرعه وأمره، فإنَّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العبادُ ويعبدوه، فأيُّ حكمة أجلّ من هذا، وأيُّ فضل وكرم أعظم من هذا. فإنَّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وذكره، وشكره والثناء عليه أفضلُ العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلُّ المناقب لمن يمنُّ الله عليه بها، وأكمل السعادة والفلاح والسرور للقلوب والأرواح، كما أنَّها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والفلاح السرمدي. فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، وأكبر الوسائل والمقاصد، ولأجلها خلقت الخليقة، ولأجلها حق الجزاء، ولأجلها خلقت الجنة والنار، ولأجلها جرت على الخليقة أحكامُ الملكِ الجبارِ الشرعيةُ والجزائيةُ لكانت كافيةً شافيةً. هذا وقد اشتمل شرعه على كلِّ خير، فأخباره تملأ القلوب علماً وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، ويحصل لها من المعارف أفضل الغنائم والمكاسب. وأوامره كلُّها منافع ومصالح، وتثمر الأخلاقَ الجميلة والمناقب الثمينة، والأعمال الصالحة، والهدي الكامل، والأجر العظيم، والثواب الجسيم. ونواهيه كلُّها موافقة للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة، لأنَّها لا تنهى إلا عما يضر الناس في عقولهم وأخلاقهم وأعراضهم وأبدانهم وأموالهم. وبالجملة فالمصالح الخالصة أو الراجحة تأمر بها، والمفاسد الخالصة أو الراجحة تنهى عنها، فهو الحكيم في خلقه وأمره. وكذلك أحكام الجزاء على الأعمال في غاية المناسبة والموافقة للحكمة جملة وتفصيلاً، والله أعلم. السميع البصير، العليم الخبير البصير الذي أبصر كلَّ شيء دقَّ وجلَّ، فيبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في ظلمة الليل، ويبصر جريان الأغذية في عروق الحيوانات وأغصان النباتات. ولقد أحسن من قال - أوردها صاحب الكشاف (1/57) ولم ينسبها لقائل.-: يا مَنْ يرى مدَّ البعوضِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ العليم بكلِّ شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عن علمه شيء، أحاط علمه بالواجبات والمستحيلات والجائزات، وبالماضيات والحاضرات والمستقبلات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالخفيات والجليات، "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "59.الأنعام . يعلم السر وأخفى، ويعلم ما أكنته الصدور وما توسوس به النفوس، وما فوق السموات العلى وما تحت الثرى.ويرى نياطَ عروقِها في نحرِها والمخَ من بين العظامِ النحلِ امنن عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ما كان مني في الزمانِ الأولِ الخبير الذي أدرك علمه السرائر، واطّلع على مكنون الضمائر، وعلم خفيات البذور ولطائفَ الأمور، ودقائق الذرات في ظلمات الديجور- الديجور: الظلام. معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/329).-. فالخبير يرجع إلى العلم بالأمور الخفية التي هي في غاية اللطف والصغر، وفي غاية الخفا ومن باب أولى وأحرى علمه بالظواهر والأمور الجلية، والعليم يدل بالمطابقة على الأمرين، وكثيراً ما يأتي ذكر هذه الأسماء الكريمة في سياق الأعمال وجزائها، ليوقظ القلوب وينبهها على إكمالها وإحسانها وإتقانها وإخلاصها وليرغبهم ويُرهبهم. اللطـيـف أحدهما: بمعنى الخبير، وهو أنَّ علمه دقَّ ولَطف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفيَّات. والمعنى الثاني: اللطيف الذي يوصل أولياءه وعباده المؤمنين إلى الكرامات والخيرات بالطرق التي يعرفون والتي لا يعرفون، والتي يريدون وما لا يريدون، وبالذي يحبون والذين يكرهون -وانظر أمثلة نفيسة جداً لهذا المعنى في كتاب «المواهب الربانية من الآيات القرآنية» للمؤلف رحمه الله (ص: 70 وما بعدها).-،- فيلطف بأوليائه، فييسرهم لليسرى ويجنبهم العُسرى، ويلطف لهم فيقدر أمورًا خارجية عاقبتها تعود إلى مصالحهم ومنافعهم. قال يوسف صلى الله عليه وسلم"إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ "يوسف: 100 ، أي حيث قدَّر أمورًا كثيرة خارجية عادت عاقبتها الحميدة إلى يوسف وأبيه، وكانت في مبادئها مكروهة للنفوس ولكن صارت عواقبها أحمدَ العواقب، وفوائدها أجلَّ الفوائد. المبدئ المعيد فهو تعالى الذي ابتدأ خلق المكلَّفين ثم يعيدهم بعد موتهم، ابتدأهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب ويأمرهم وينهاهم، لم يخلقهم عبثاً ولا سدى، ثم إذا انقضت هذه الدار وظهر الأبرار من الفجار، وتمَّت هذه الأعمار، أعادهم بعدما أماتهم ليجزيهم الثواب على إيمانهم وطاعاتهم، والعقاب على كفرهم وعصيانهم جزاءً دائماً بدوام الله، وإعادةُ الخلق أهون عليه من ابتدائه وذلك كلُّه على الله يسير. وعموم ما دل عليه هذان الاسمان الكريمان يشمل كلَّ إبداء وإعادة لهذه المخلوقات، فالناس في هذه الدار في إبداء وإعادة في نومهم ويقظتهم، كلَّ يوم يعادون ويبدأون. وهذه الأرض كلَّ عام في إبداء وإعادة، يحييها بالماء والأمطار، ثم يعود النبت هشيماً والأخضر رميمًا، ثم هكذا أبدًا ما داموا في هذه الدار رحمة بهم ومتاعًا لهم ولأنعامهم، وذلك كلُّه تابعٌ لحكمته ورحمته. |
#9
|
||||
|
||||
الفعَّال لما يريد ومع أنَّه الفعَّال لما يريد، فلا يريد إلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فجميع أفعاله تابعة لحكمته، فهو موصوف بالكمال من الجهتين، من جهة كمال القدرة ونفوذ الإرادة، وأنَّ جميع الكائنات قد انقادت لمشيئته وإرادته. ومن جهة الحكمة، فإنَّه الحكيم في كلِّ ما يصدر منه من قول وفعل، "إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "هود: 56، أي في أقواله وأفعاله. العفو الغفور، الغفار التوَّاب ومتعلقاتُهُ تشمل الخليقة آناء الليل والنهار، فعفوه ومغفرته وسعت المخلوقات والذنوب والجرائم. والتقصير الواقع من الخلق يقتضي العقوبات المتنوعة، ولكن عفو الله ومغفرته تدفع هذه الموجَبَات والعقوبات، فلو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة. وعفوه تعالى نوعان: عفوه العام عن جميع المجرمين من الكفار وغيرهم، بدفع العقوبات المنعقدة أسبابها والمقتضية لقطع النعم عنهم، فهم يؤذونه بالسب والشرك وغيرها من أصناف المخالفات، وهو يعافيهم ويرزقهم ويُدِرُّ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ويبسط لهم الدنيا، ويعطيهم من نعيمها ومنافعها، ويمهلهم ولا يهملهم بعفوه وحلمه. والنوع الثاني: عفوه الخاص ومغفرته الخاصة للتائبين والمستغفرين، والداعين والعابدين، والمصابين بالمصائب المحتسبين، فكلُّ من تاب إليه توبة نصوحًا وهي الخالصة لوجه الله، العامة الشاملة التي لا يصحبها تردد ولا إصرار، فإنَّ الله يغفر له من أيِّ ذنب كان، من كفر وفسوق وعصيان، وكلُّها داخلة في قوله"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا "الزمر: 53 . وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنّة في قَبول توبة الله من عباده من أيِّ ذنب يكون. وكذلك الاستغفار المجرد يحصل به من مغفرة الذنوب والسيئات بحسبه، وكذلك فعل الحسنات والأعمال الصالحة تكفر بها الخطايا، "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ "هود: 114 . وقد وردت أحاديث كثيرة في تكفير كثير من الأعمال للسيئات مع اقتضائها لزيادة الحسنات والدرجات، كما وردت نصوص كثيرة في تكفير المصائب للسيئات، خصوصاً الذي يحتسب ثوابها ويقوم بوظيفة الصبر أو الرضى، فإنَّه يحصل له التكفير من جهتين: من جهة نفس المصيبة وألمها القلبي والبدني، ومن جهة مقابلة العبد لها بالصبر والرضى اللذين هما من أعظم أعمال القلوب، فإنَّ أعمال القلوب في تكفيرها السيئات أعظمُ من أعمال الأبدان. واعلم أنَّ توبة الله على عبده تتقدمها توبة منه عليه، حيث أذن له ووفَّقه وحرَّك دواعي قلبه لذلك، حتى قام بالتوبة توفيقاً من الله، ثم لما تاب بالفعل تاب الله عليه فَقَبِلَ توبته، وعفى عن خطاياه وذنوبه، وكلُّ الأعمال الصالحة بهذه المثابة، فالله هو الذي ألهمها للعبد وحرَّك دواعيه لفعلها وهيَّأ له أسبابها، وصرف عنه موانعها، والله تعالى هو الذي يتقبَّلها منه ويثيبه عليها أفضل الثواب، فعلى العبد أن يعلم أنَّ الله هو الأول الآخر، وأنَّه المبتدئ بالإحسان والنِعم، المتفضل بالجود والكرم، بالأسباب والمسببات، بالوسائل والمقاصد. ومن أخص أسباب العفو والمغفرة أنَّ الله يجازي عبده بما يفعله العبد مع عباد الله، فمن عفى عنهم عفى الله عنه، ومن غفر لهم إساءتهم إليه وتغاضى عن هفواتهم نحوه غفر له، ومن سامحهم سامحه الله. ومن أسبابه التوسل إلى الله بصفات عفوه ومغفرته كقول العبد: اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني، يا واسع المغفرة اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني إنَّك أنت العفو الغفور. العليُّ الأعلى فهو العلي بذاته قد استوى على العرش، وعلا على جميع الكائنات، وبايَنَها. العلي بقدْره وهو علو صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ لا يماثلها ولا يقاربها صفة أحد، بل لا يطيق العباد أن يحيطوا بصفة واحدة من صفاته. العلي بقهره حيث قهر كلَّ شيء ودانت له الكائنات بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والفرق بين العلي [و] الأعلى أنَّ العلي يدل على كثرة الصفات ومتعلقاتها وتنوُّعها، والأعلى يدل على عظمتها. الكبير العظيم قال تعالى في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذّبته» -رواه أحمد (2/376)، وأبو داود (رقم: 4090)، وابن ماجه (4174)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 541).- ومعاني الكبرياء والعظمة نوعان: أحدهما: يرجع إلى صفاته وأنَّ له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوة والعزة، وكمال القدرة، وسعة العلم، وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء. ومن عظمته أنَّ السموات والأرض جميعها كخردلة في كف الرحمن كما قال ذلك ابن عباس - رواه ابن جرير في تفسيره (12/25).-، وقال تعالى"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ "الزمر: 67 ، "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا "41:فاطر . فله تعالى العظمة والكبرياء الوصفان اللذان لا يقادر قدرهما، ولا يبلغ العباد كنههما. النوع الثاني: أنَّه لا يستحق أحد التعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له والخوف منه، وإعمال اللسان بذكره والثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. ومن تعظيمه وإجلاله أن يُخضع لأوامره وما شرعه وحكم به، وأن لا يُعترض على شيء من مخلوقاته، أو على شيء من شرعه. ومن تعظيمه تعظيم ما عظَّمه واحترمه من زمان ومكان وأشخاص وأعمال. والعبادة روحها تعظيم الباري وتكبيره، ولهذا شرعت التكبيرات في الصلاة في افتتاحها وتنقلاتها، ليستحضر العبد معنى تعظيمه في هذه العبادة التي هي أجلّ العبادات، "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا "111:الإسراء . الجليل الجميل وأما الجميل فإنَّه جميل بذاته، جميل بأسمائه، جميل بصفاته، جميل بأفعاله. فأسماؤه كلُّها حُسنى وهي في غاية الحسن والجمال، فلا يسمى إلا بأحسن الأسماء، وإذا كان الاسم يحتمل المدح وغيره لم يدخل في أسمائه، كما يعلم من استقراء أسمائه الحسنى. قال تعالى"وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى "الأعراف: 180 ، "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"مريم: 65 . وذاته تعالى أكمل الذوات وأجمل من كلِّ شيء، ولا يمكن أن يُعَبَّرَ عن كنه جماله، كما لا يمكن التعبير عن كنه جلاله، حتى إنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم الذي لا يوصف، والسرور والأفراح واللذات التي لا يقادر قدرها إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودُّوا أن لو تدوم لهم هذه الحال التي هي أعلى نعيم ولذة، واكتسوا من جماله جمالاً إلى ما هم فيه من الجمال، وكانت قلوبهم دائماً في شوق عظيم ونزوع شديد إلى رؤية ربهم، حتى إنَّهم ليفرحون بيوم المزيد فرحًا تكاد تطير له القلوب، مع أنَّ هذه اللذة وإن كانت تبعًا لمعرفتهم بربهم ومحبته والشوق إليه، ولكن عند رؤية محبوبهم ومشاهدة جماله وجلاله، تتضاعف اللذة وتقوى المعرفة والحب. وكذلك هو الجميل في صفاته، فإنَّها صفات حمد وثناء ومدح، فهي أوسع الصفات وأعمُّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة والبر والإحسان والجود والكرم، فإنَّها من آثار جماله. ولذلك كانت أفعاله كلُّها جميلة لأنَّها دائرة بين أفعال البر والإحسان، التي يحمد عليها ويثنى عليه ويشكر عليها، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها الحكمة والحمد. فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا ظلم، بل كلُّها هدى ورحمةٌ وعدل ورشد "إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " هود: 56 . فأفعاله كلُّها في غاية الحسن والجمال، وشرعه كلُّه رحمة ونور وهدى وجمال، وكلُّ جمال في الدنيا وفي دار النعيم فإنَّه أثر من آثار جماله. وهو تعالى له المثل الأعلى، فمعطي الجمال أحق بالجمال، وكيف يقدر أحد أن يعبر عن جماله وقد قال أعرف الخلق به: «لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» - رواه مسلم في صحيحه (رقم: 222) -.. |
#10
|
||||
|
||||
الحَكَمُ العدل ففي هذه الدار لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية، بل ما حكم به قدرًا نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يخرج المكلفون عن أحكامه الشرعية التي هي أحسن الأحكام، والتي هي صلاح الأمور وكمالها، ولا يستقيم لهم دين ورشد إلا باتباع هذه الأحكام التي شرعها على ألسنة رسله "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "المائدة: 50 ، "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا "الأنعام: 114 . وفي الآخرة لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعاتُ كلُّها منطويةٌ تحت إرادته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا حكم بالشفاعة. وهذه الأحكام كلُّها بالحكمة والعدل، فهو الحكم العدل الذي تمت كلماته صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فأوامره كلُّها عدل لأنَّها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلُّها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار. وهي أيضًا مقرونة برحمته وحكمته، ومجازاته للعباد بأعمالهم، عدلٌ لا يهضم أحدًا من حسناته، ولا يزيد في سيئاتهم أو يعذبهم بغير جرم اجترحوه، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "الإسراء: 15 . وحكمه بين العباد كلُّه مربوطٌ بالعدل، فلا يمنع أحدًا حقه، ولا يغفل عن الظالمين، ولا يضيع حقوق المظلومين، فعدله تعالى شاملٌ للخليقة كلِّها حتى الحيوانات غير المكلفة فإنَّه يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء من كمال عدله. ومن كمال عدله: أنَّه أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا "الإسراء: 15 . ومن كمال عدله: أنَّه أعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقدرة على أفعالهم والإرادة، ومكنهم من جميع ما يريدون ولم يجبرهم على أفعالهم. فَعَدْلُهُ وحكمته ورحمته يبطل بها مذهبُ الجبرية، كما أنَّ كمال قدرته ومشيئته وشمولَها لكلِّ شيء حتى أفعال العباد تُبطل مذهب القدرية الذين يزعمون أنَّهم أهل العدل وهم في الحقيقة أهل الظلم. فالحق هو ما ذهب إليه أهل السنة، وهو ما دلت عليه البراهين العقلية والبراهين النقلية ودلت عليه أسماؤه الحسنى، كما نبّهنا عليه أنَّ أفعال العباد واقعةٌ تحت اختيارهم وإراداتهم خيرَها وشرَها، ومع ذلك فلا خروج لها عن قضائه وقدره. الفـتّـاح أحدهما: يرجع إلى معنى الحَكَم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه، ويحكم بينهم بإثابة الطائعين وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى"قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ "26:سبأ ، "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ "الأعراف: 89 . فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات. المعنى الثاني: فتحه لعباده جميع أبواب الخيرات. قال تعالى"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا "فاطر: 2: الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويُدِرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، وأخص من ذلك أنَّه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علومًا ربانية، وأحوالاً روحانية، وأنوارًا ساطعة، وفهومًا وأذواقًا صادقة. ويفتح أيضًا لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة. الـرزّاق قال تعالى"أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) "عبس . والله تعالى هو الرزاق الذي يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان، ما تتغذى به وتنمو وتكمل، ويرزق الحيوانات كلَّها من أصناف الأغذية ما تتغذى به وتنمو نموها اللائق بها. فينبغي للعبد إذا سأل الله الرزق أن يستحضر الأمرين بأن يرزقه رزقًا حلالاً واسعًا، ويرزق قلبه العلم والإيمان والعرفان. ورزقه لعباده أيضًا نوعان: نوع له سبب، كما جعل الله الحراثة والتجارة والصناعة وتنمية المواشي والخدمة ونحوها طرقاً يرتزق بها جمهور الناس. قال تعالى"وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ "الحجر: 20. أي أسبابًا ترتزقون بها. ونوع يرزق الله به عبده بغير سبب منه، كأن يقيض الله له رزقاً قدرياً سماوياً محضاً، أو على يد غيره من غير أن يكون من المرتزق سعيٌ في ذلك، لأجل الاحتراز عن السؤال فإنَّه من جملة الحرف، ولأجل الاحتراز عمن تجب نفقته عليه من زوج أو قريب أو سيد أو مالك، فإنَّ هذه إما من عمل الإنسان ـ يعني من آثار عمله ـ وإما أن يكون تابعًا لغيره. ولكن نريد أنَّه يوجد بعض المخلوقات لا شيء عندها، ولا عمل لها ولا سعي منها، إما عاجزة عجزًا كليًا، أو كسلانة عن طلب معيشتها. والله تعالى قد قدّر لها من ألطاف رزقه ما تستغني به من وجوه لا تحتسبها وطرق لا ترتقبها، "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "60"العنكبوت . ومن لطائف رزقه أنَّه قد يرد على الإنسان العاجز عن إدراك رزقه قوةُ حال وقوة توكل، ييسّر الله له بسببها رزقاً عاجلاً، وقد يأتيه ذلك بدعوة مستجابة وخصوصاً عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ "النمل: 62 . فكما أنَّ الباري إذا رأى عبده مضطرًا إلى كفايته، منقطعًا تعلقه بغيره أجاب دعوته وفرّج كربته، فكذلك المضطر إلى طعام أو شراب متى وصل إلى حالة ييأس فيها من كلِّ أحد ويوقن بالهلاك، أتاه من رزق ربه وألطافه ما به يعرف غاية المعرفة أنَّ الله هو المرجو وحده لكشف الشدائد والكروب، فكم من الوقائع الكثيرة في هذا الباب الدالة على لطف الملك الوهاب. ومن ألطاف رزقه أنَّ كثيرًا من المرضى يبقون مدة طويلة لا يتناولون طعامًا ولا شرابًا، والله تعالى يعينهم على تماسك أبدانهم فضلاً منه وكرمًا، ولو بقي الصحيح بعض هذه المدة عن الطعام والشراب لهلك. ومن لطائف رزقه أنَّ الأجنَّةَ في بطون الأمهات جعل غذاءها في أرحام الأمهات بالدم الذي يجري مع عروقها، لأنَّها لا تحتمل غذاء تأكله وتشربه، ولو فرض ذلك لأضرّ به في الرحم، وأضرّ بأمه بما يخرج منه من الفضلات، ثم لما وضعت الحوامل أولادها وكان من ضعفه لا يحتمل الأغذية العادية، أجرى له الباري من ثديي أمه لبنًا لطيفًا خالصًا سائغًا للشاربين، فيه الغذاء الطعامي والغذاء الشرابي، فلم يزل كذلك حتى قوي على تناول الأطعمة الغليظة. وكذلك لما كان في حال وضعه غير مقتدر على مباشرة ذلك بنفسه، حنّن اللّهُ الأمهاتِ من الآدميين والحيوانات، وأوقع في قلوبها الرحمة العظيمة والرقة على أولادها، فأعانت أولادها على تناول الأرزاق والأغذية. فتبارك الله اللطيف الخبير. وتنوعُ الأرزاق وكثرة فنونها لا يحصيها وصف الواصفين، ولا تحيط بها عبارات المعبِّرين. الواحد الأحد الفرد فأحديته تعالى تدل على ثلاثة أمور عظيمة: ـ نفي المثل والندّ والكفؤ من جميع الوجوه. ـ وإثبات جميع صفات الكمال بحيث لا يفوته منها صفة ولا نعت دال على الجلال والجمال. ـ وأنّ له من كلِّ صفة من تلك الصفات أعظمَها وغايتها ومنتهاها "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى "النجم . الصـمـد الغني المغني ومن كمال غناه: أنَّ خزائن السموات والأرض بيده، وأنَّ جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأنَّ يديه سحاء في كلِّ وقت. ومن كمال غناه: أنَّه يدعو عباده إلى سؤاله كلَّ وقت ويعدهم عند ذلك بالإجابة، ويأمرهم بعبادته، ويعدهم القبول والإثابة، وقد آتاهم من كلِّ ما سألوه، وأعطاهم كلَّ ما أرادوه وتمنوه. ومن كمال غناه: أنَّه لو اجتمع أهل السموات والأرض، وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه كلَّما تعلقت به مطالبهم، فأعطاهم سؤلهم، لم ينقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر. ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه، ما يبسطه على أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والنعم المتفننات مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فهو الغني بذاته، المُغني جميع مخلوقاته، أغنى عباده بما بسط لهم من الأرزاق، وما تابع عليهم من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وبما يسَّره من الأسباب الموصلة إلى الغنى. وأخصُّ من ذلك أنَّه أغنى خواص عباده بما أفاضه على قلوبهم من المعارف والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به ولم يلتفتوا إلى أحد سواه. وهذا هو الغنى العالي كما قال (صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنَّما الغنى غنى القلب» - رواه البخاري (رقم: 6446) ومسلم (رقم: 1051).-. فمتى غَنِيَ القلبُ بالله وبما فيه من المعارف وحقائق الإيمان، وغني برزقه وقنع به وفرح بما أعطاه الله، صار العبد الذي وصل إلى هذه الحال لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاسات، لأنَّه حصل له الغنى الذي لا يبغي به بدلاً، والذي به يطمئن القلب وتسرُّ به الروح، وتفرح به النفس. فنسأل الله أن يغني قلوبنا بالهدى والنور والمعرفة والقناعة، وأن يمدنا من واسع فضله وحلاله. ذو الجلال والإكرام بديع السموات والأرض الرب، ورب العالمين وتربيته وربوبيته تعالى نوعان: ربوبية عامة لكلِّ مخلوق برّ وفاجر، وهو عموم الخلق والرزق والتدبير والإنعام بكلِّ نعمة، فليس له شريك في شيء من ذلك. وتربية خاصة لأوليائه، ربّاهم فوفقهم للإيمان به والقيام بعبوديته، وغذّاهم بمعرفته ونمّى ذلك بالإنابة إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسّرهم لليسرى، وجنّبهم العسرى، ويسّرهم لكلِّ خير، وحفظهم من كلِّ شر. ولهذا كانت أدعيةُ الأنبياء وأولي الألباب والأصفياء الواردةُ في القرآن باسم الرب استحضارًا لهذا المطلب، وطلبًا منهم لهذه التربية الخاصة، فتجد مطالبهم كلَّها من هذا النوع، واستحضار هذا المعنى عند السؤال نافع جدًا. ومن أسمائه تعالى: المُعِز، المُذِل، الخافض الرافع، المعطي المانع، المحيي المميت، القابض الباسط. وهي من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر، لأنَّ الكمال المطلق باجتماعها. ووردت هذه في القرآن على وجه الإخبار عنه بها بالفعل، لأنَّها من معاني الربوبية، ومن معاني الملك، فيغني عنها اسم الرب والملك، فإنَّ هذه المعاني العظيمة من معاني الملك، فإنَّ الملِك من صفاته أنَّه يعزّ ويذل، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، بحسب علمه وحكمته ورحمته، كما أنَّه يحيي ويميت ويداول الأيام بين الخليقة. الودود فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال. والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعًا وقدرًا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم. فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه. ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "14:البروج . ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» -رواه البخاري (رقم: 6502).-. وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعًا لهذه المحبة. أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل. وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضًا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله"كُلُوا وَاشْرَبُوا "الأعراف: 31. ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم. وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب. فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه. الحليم الصبور، الشاكر الشكور ومن حِلمه تعالى أنَّ العبد يسرف على نفسه، والله تعالى قد أرخى عليه حِلمه، فإذا تاب العبد وأناب فكأنَّه ما جرى منه جرم، ومع كمال حلمه وصبره فهو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وإذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيرًا والصغير كبيرًا، ويتحمل عبدُه من أجله بعضَ المشاق، فيشكر الله له ويقوم بعونه ويكون معه، فتنقلب تلك المشاق والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات. الـرقـيـب ومن تعبّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأنَّ من علم أنَّه رقيب على حركات قلبه وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، واستدام هذا العلم، فإنَّه لا بد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سرٌ عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة. القريب المجيب قربٌ عام بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته، فهو أقرب إلى كلِّ أحد من نفسه. وقربٌ خاص من عابديه وداعيه ومحبيه، قرب لا يُدْرَكُ له حقيقة، وإنَّما تُعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، وحضور القلب عنده في تلك الحال التي حصل فيها القرب. ومن آثاره: الإجابةُ للداعين والإثابة للعابدين، وما أحسن اقتران القريب بالمجيب. قال تعالى"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ "البقرة: 186 ، وقال تعالى"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "غافر: 60 . فهو المجيب إجابة عامة للدَّاعين مهما كانوا وأين كانوا، وعلى أيِّ حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق. وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه. ولهذا عقَّب ذلك بقوله"فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، أي فإذا استجابوا لي أجبتهم. وتقدم الحديث الذي فيه حالة المحب المستجيب لربه بفعل النوافل بعد الفرائض، وأنَّ الله يقول: «ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن أستعاذني لأعيذنَّه» - تقدم ص50-. وهو المجيب أيضاً إجابة خاصة للمضطرين كما قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] ، وكذلك من انقطع رجاؤه من المخلوقين وقوي طمعه وتعلقه بالله رب العالمين، فما أسرع الإجابة لهذا، وكلَّما قويت حاجة العبد وقوي طمعه بربِّه حصل له من الإجابة بحسب ذلك. الحسيب الكافي الحفيظ أي: هو الكافي عباده كلَّما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلَّما يكرهون فكفايته عامة وخاصة. |
|
|