|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#10
|
||||
|
||||
![]() الحَكَمُ العدل ففي هذه الدار لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية، بل ما حكم به قدرًا نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يخرج المكلفون عن أحكامه الشرعية التي هي أحسن الأحكام، والتي هي صلاح الأمور وكمالها، ولا يستقيم لهم دين ورشد إلا باتباع هذه الأحكام التي شرعها على ألسنة رسله "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "المائدة: 50 ، "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا "الأنعام: 114 . وفي الآخرة لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعاتُ كلُّها منطويةٌ تحت إرادته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا حكم بالشفاعة. وهذه الأحكام كلُّها بالحكمة والعدل، فهو الحكم العدل الذي تمت كلماته صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فأوامره كلُّها عدل لأنَّها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلُّها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار. وهي أيضًا مقرونة برحمته وحكمته، ومجازاته للعباد بأعمالهم، عدلٌ لا يهضم أحدًا من حسناته، ولا يزيد في سيئاتهم أو يعذبهم بغير جرم اجترحوه، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "الإسراء: 15 . وحكمه بين العباد كلُّه مربوطٌ بالعدل، فلا يمنع أحدًا حقه، ولا يغفل عن الظالمين، ولا يضيع حقوق المظلومين، فعدله تعالى شاملٌ للخليقة كلِّها حتى الحيوانات غير المكلفة فإنَّه يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء من كمال عدله. ومن كمال عدله: أنَّه أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا "الإسراء: 15 . ومن كمال عدله: أنَّه أعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقدرة على أفعالهم والإرادة، ومكنهم من جميع ما يريدون ولم يجبرهم على أفعالهم. فَعَدْلُهُ وحكمته ورحمته يبطل بها مذهبُ الجبرية، كما أنَّ كمال قدرته ومشيئته وشمولَها لكلِّ شيء حتى أفعال العباد تُبطل مذهب القدرية الذين يزعمون أنَّهم أهل العدل وهم في الحقيقة أهل الظلم. فالحق هو ما ذهب إليه أهل السنة، وهو ما دلت عليه البراهين العقلية والبراهين النقلية ودلت عليه أسماؤه الحسنى، كما نبّهنا عليه أنَّ أفعال العباد واقعةٌ تحت اختيارهم وإراداتهم خيرَها وشرَها، ومع ذلك فلا خروج لها عن قضائه وقدره. الفـتّـاح أحدهما: يرجع إلى معنى الحَكَم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه، ويحكم بينهم بإثابة الطائعين وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى"قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ "26:سبأ ، "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ "الأعراف: 89 . فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات. المعنى الثاني: فتحه لعباده جميع أبواب الخيرات. قال تعالى"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا "فاطر: 2: الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويُدِرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، وأخص من ذلك أنَّه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علومًا ربانية، وأحوالاً روحانية، وأنوارًا ساطعة، وفهومًا وأذواقًا صادقة. ويفتح أيضًا لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة. الـرزّاق قال تعالى"أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) "عبس . والله تعالى هو الرزاق الذي يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان، ما تتغذى به وتنمو وتكمل، ويرزق الحيوانات كلَّها من أصناف الأغذية ما تتغذى به وتنمو نموها اللائق بها. فينبغي للعبد إذا سأل الله الرزق أن يستحضر الأمرين بأن يرزقه رزقًا حلالاً واسعًا، ويرزق قلبه العلم والإيمان والعرفان. ورزقه لعباده أيضًا نوعان: نوع له سبب، كما جعل الله الحراثة والتجارة والصناعة وتنمية المواشي والخدمة ونحوها طرقاً يرتزق بها جمهور الناس. قال تعالى"وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ "الحجر: 20. أي أسبابًا ترتزقون بها. ونوع يرزق الله به عبده بغير سبب منه، كأن يقيض الله له رزقاً قدرياً سماوياً محضاً، أو على يد غيره من غير أن يكون من المرتزق سعيٌ في ذلك، لأجل الاحتراز عن السؤال فإنَّه من جملة الحرف، ولأجل الاحتراز عمن تجب نفقته عليه من زوج أو قريب أو سيد أو مالك، فإنَّ هذه إما من عمل الإنسان ـ يعني من آثار عمله ـ وإما أن يكون تابعًا لغيره. ولكن نريد أنَّه يوجد بعض المخلوقات لا شيء عندها، ولا عمل لها ولا سعي منها، إما عاجزة عجزًا كليًا، أو كسلانة عن طلب معيشتها. والله تعالى قد قدّر لها من ألطاف رزقه ما تستغني به من وجوه لا تحتسبها وطرق لا ترتقبها، "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "60"العنكبوت . ومن لطائف رزقه أنَّه قد يرد على الإنسان العاجز عن إدراك رزقه قوةُ حال وقوة توكل، ييسّر الله له بسببها رزقاً عاجلاً، وقد يأتيه ذلك بدعوة مستجابة وخصوصاً عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ "النمل: 62 . فكما أنَّ الباري إذا رأى عبده مضطرًا إلى كفايته، منقطعًا تعلقه بغيره أجاب دعوته وفرّج كربته، فكذلك المضطر إلى طعام أو شراب متى وصل إلى حالة ييأس فيها من كلِّ أحد ويوقن بالهلاك، أتاه من رزق ربه وألطافه ما به يعرف غاية المعرفة أنَّ الله هو المرجو وحده لكشف الشدائد والكروب، فكم من الوقائع الكثيرة في هذا الباب الدالة على لطف الملك الوهاب. ومن ألطاف رزقه أنَّ كثيرًا من المرضى يبقون مدة طويلة لا يتناولون طعامًا ولا شرابًا، والله تعالى يعينهم على تماسك أبدانهم فضلاً منه وكرمًا، ولو بقي الصحيح بعض هذه المدة عن الطعام والشراب لهلك. ومن لطائف رزقه أنَّ الأجنَّةَ في بطون الأمهات جعل غذاءها في أرحام الأمهات بالدم الذي يجري مع عروقها، لأنَّها لا تحتمل غذاء تأكله وتشربه، ولو فرض ذلك لأضرّ به في الرحم، وأضرّ بأمه بما يخرج منه من الفضلات، ثم لما وضعت الحوامل أولادها وكان من ضعفه لا يحتمل الأغذية العادية، أجرى له الباري من ثديي أمه لبنًا لطيفًا خالصًا سائغًا للشاربين، فيه الغذاء الطعامي والغذاء الشرابي، فلم يزل كذلك حتى قوي على تناول الأطعمة الغليظة. وكذلك لما كان في حال وضعه غير مقتدر على مباشرة ذلك بنفسه، حنّن اللّهُ الأمهاتِ من الآدميين والحيوانات، وأوقع في قلوبها الرحمة العظيمة والرقة على أولادها، فأعانت أولادها على تناول الأرزاق والأغذية. فتبارك الله اللطيف الخبير. وتنوعُ الأرزاق وكثرة فنونها لا يحصيها وصف الواصفين، ولا تحيط بها عبارات المعبِّرين. الواحد الأحد الفرد فأحديته تعالى تدل على ثلاثة أمور عظيمة: ـ نفي المثل والندّ والكفؤ من جميع الوجوه. ـ وإثبات جميع صفات الكمال بحيث لا يفوته منها صفة ولا نعت دال على الجلال والجمال. ـ وأنّ له من كلِّ صفة من تلك الصفات أعظمَها وغايتها ومنتهاها "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى "النجم . الصـمـد الغني المغني ومن كمال غناه: أنَّ خزائن السموات والأرض بيده، وأنَّ جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأنَّ يديه سحاء في كلِّ وقت. ومن كمال غناه: أنَّه يدعو عباده إلى سؤاله كلَّ وقت ويعدهم عند ذلك بالإجابة، ويأمرهم بعبادته، ويعدهم القبول والإثابة، وقد آتاهم من كلِّ ما سألوه، وأعطاهم كلَّ ما أرادوه وتمنوه. ومن كمال غناه: أنَّه لو اجتمع أهل السموات والأرض، وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه كلَّما تعلقت به مطالبهم، فأعطاهم سؤلهم، لم ينقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر. ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه، ما يبسطه على أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والنعم المتفننات مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فهو الغني بذاته، المُغني جميع مخلوقاته، أغنى عباده بما بسط لهم من الأرزاق، وما تابع عليهم من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وبما يسَّره من الأسباب الموصلة إلى الغنى. وأخصُّ من ذلك أنَّه أغنى خواص عباده بما أفاضه على قلوبهم من المعارف والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به ولم يلتفتوا إلى أحد سواه. وهذا هو الغنى العالي كما قال (صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنَّما الغنى غنى القلب» - رواه البخاري (رقم: 6446) ومسلم (رقم: 1051).-. فمتى غَنِيَ القلبُ بالله وبما فيه من المعارف وحقائق الإيمان، وغني برزقه وقنع به وفرح بما أعطاه الله، صار العبد الذي وصل إلى هذه الحال لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاسات، لأنَّه حصل له الغنى الذي لا يبغي به بدلاً، والذي به يطمئن القلب وتسرُّ به الروح، وتفرح به النفس. فنسأل الله أن يغني قلوبنا بالهدى والنور والمعرفة والقناعة، وأن يمدنا من واسع فضله وحلاله. ذو الجلال والإكرام بديع السموات والأرض الرب، ورب العالمين وتربيته وربوبيته تعالى نوعان: ربوبية عامة لكلِّ مخلوق برّ وفاجر، وهو عموم الخلق والرزق والتدبير والإنعام بكلِّ نعمة، فليس له شريك في شيء من ذلك. وتربية خاصة لأوليائه، ربّاهم فوفقهم للإيمان به والقيام بعبوديته، وغذّاهم بمعرفته ونمّى ذلك بالإنابة إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسّرهم لليسرى، وجنّبهم العسرى، ويسّرهم لكلِّ خير، وحفظهم من كلِّ شر. ولهذا كانت أدعيةُ الأنبياء وأولي الألباب والأصفياء الواردةُ في القرآن باسم الرب استحضارًا لهذا المطلب، وطلبًا منهم لهذه التربية الخاصة، فتجد مطالبهم كلَّها من هذا النوع، واستحضار هذا المعنى عند السؤال نافع جدًا. ومن أسمائه تعالى: المُعِز، المُذِل، الخافض الرافع، المعطي المانع، المحيي المميت، القابض الباسط. وهي من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر، لأنَّ الكمال المطلق باجتماعها. ووردت هذه في القرآن على وجه الإخبار عنه بها بالفعل، لأنَّها من معاني الربوبية، ومن معاني الملك، فيغني عنها اسم الرب والملك، فإنَّ هذه المعاني العظيمة من معاني الملك، فإنَّ الملِك من صفاته أنَّه يعزّ ويذل، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، بحسب علمه وحكمته ورحمته، كما أنَّه يحيي ويميت ويداول الأيام بين الخليقة. الودود فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال. والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعًا وقدرًا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم. فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه. ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "14:البروج . ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» -رواه البخاري (رقم: 6502).-. وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعًا لهذه المحبة. أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل. وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضًا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله"كُلُوا وَاشْرَبُوا "الأعراف: 31. ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم. وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب. فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه. الحليم الصبور، الشاكر الشكور ومن حِلمه تعالى أنَّ العبد يسرف على نفسه، والله تعالى قد أرخى عليه حِلمه، فإذا تاب العبد وأناب فكأنَّه ما جرى منه جرم، ومع كمال حلمه وصبره فهو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وإذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيرًا والصغير كبيرًا، ويتحمل عبدُه من أجله بعضَ المشاق، فيشكر الله له ويقوم بعونه ويكون معه، فتنقلب تلك المشاق والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات. الـرقـيـب ومن تعبّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأنَّ من علم أنَّه رقيب على حركات قلبه وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، واستدام هذا العلم، فإنَّه لا بد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سرٌ عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة. القريب المجيب قربٌ عام بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته، فهو أقرب إلى كلِّ أحد من نفسه. وقربٌ خاص من عابديه وداعيه ومحبيه، قرب لا يُدْرَكُ له حقيقة، وإنَّما تُعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، وحضور القلب عنده في تلك الحال التي حصل فيها القرب. ومن آثاره: الإجابةُ للداعين والإثابة للعابدين، وما أحسن اقتران القريب بالمجيب. قال تعالى"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ "البقرة: 186 ، وقال تعالى"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "غافر: 60 . فهو المجيب إجابة عامة للدَّاعين مهما كانوا وأين كانوا، وعلى أيِّ حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق. وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه. ولهذا عقَّب ذلك بقوله"فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، أي فإذا استجابوا لي أجبتهم. وتقدم الحديث الذي فيه حالة المحب المستجيب لربه بفعل النوافل بعد الفرائض، وأنَّ الله يقول: «ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن أستعاذني لأعيذنَّه» - تقدم ص50-. وهو المجيب أيضاً إجابة خاصة للمضطرين كما قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] ، وكذلك من انقطع رجاؤه من المخلوقين وقوي طمعه وتعلقه بالله رب العالمين، فما أسرع الإجابة لهذا، وكلَّما قويت حاجة العبد وقوي طمعه بربِّه حصل له من الإجابة بحسب ذلك. الحسيب الكافي الحفيظ أي: هو الكافي عباده كلَّما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلَّما يكرهون فكفايته عامة وخاصة. |
|
|