العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى القرآن والتفسير > ملتقى القرآن والتفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-13-2022, 02:30 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Post

من آية 111 إلى 118

"وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارَى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"111.
أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولةإلا بحُجة وبرهان ،لذا أمر الله- تعالى- نبيه بهذا "قُلْهاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ "أي قل يا محمد- لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس، هاتوا حُجتكم على خلوص الجنة لكم، إن كنتم صادقين في دعواكم، لأنه لما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس لمجرد التمني، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبَهم خالية مما يدل على صحتها.
هذا، ويؤخذ من الآية الكريمة بطلان التقليد في أمور الدين، وهو قبول قول الغير مجردًا من الدليل، فلا ينبغي للإنسان أن يقرر حكمًا في الدين إلا أن يسنده إلى دليل، كما أنه لا يقبل من غيره قولا إلا أن يكون مؤيدا بدليل.
"بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"112.
بعد أن بين لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل الشرعي على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة.. فقال"بَلى" وعندما تقرأ"بَلى" اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي. فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دين.. إذا قلت له نعم فقد صدَّقْتَ أنه ليس عليه دين.. ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه دينا وأنه كاذب فيما قاله.. إذن بلى تأتي جوابًا لتثبيت نفي ما تقدم.
هم قالوا"لَن يَدْخُلَ الجنةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى".. عندما يقول الله لهم بلى فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح.. وأنه سيدخلها غير هؤلاء.. وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى.. أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة.. لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة.. واقرأ قوله جل جلاله"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخَاسِرِينَ"آل عمران: 85.
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى.. أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى.. لأن القرآن أزلي.. ما معنى أزلي؟.. أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة.. فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى.. فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان في هذا تجاوزٌ.. لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحَسُن دينه وماتَ قبل أن يُدرك محمدًا عليه الصلاة والسلام.. فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازَى بحسن عمله.. وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته.. وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام.. أهذا لن يدخل الجنة؟.. لا،بل يدخل الجنة وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء.. ولكن بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة.. بل ولن يراها.. ولذلك جاء كلام الله دقيقًا لم يظلم أحدًا من خلقه.
إذن فقوله تعالى"بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ".. أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن.. فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقًا يظهر غير ما يُبطن.. نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين.
لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم.
قوله تعالى"مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ"أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ المراد به اتجه إليه، وأذعن لأمره، وأخلص له العبادة، وأصل معناه الاستسلام والخضوع. وخص الله- تعالى- الوجه دون سائر الجوارح بذلك، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حُرْمَة، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم أعضاء الجسد فغيره من أجزاء الجسد أكثر خضوعا. "وَهُوَ مُحْسِنٌ" أى: مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم"أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ." صحيح مسلم.

الصَّلاة من أَجلِّ وأعظمِ العباداتِ التي يتقرَّبُ فيها العبدُ إلى اللهِ تعالى، وكلَّما ازدادَ تَواضُعُ العبدِ وخشوعُه زادَ قُربًا مِن الله، ووضْعُ الوجهِ والأنف في الأرض قمَّةُ التَّواضُع والتَّذلُل، وهنا يكون الدُّعاء من قلبٍ خاشع، ومُتواضِع لله فيكون أقربَ لاستجابةِ الدُّعاء.
" فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" أي: إنَّ للمسلمِ وجهَه لله تعالى مُحسِنًا، ثوابَه على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ" إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا " الكهف:30.فهم أهل الجَنَّة وحْدهم، آمِنون؛ فلا خوفَ عليهم ممَّا يستقبلونه من أمور الآخِرة، وهم في سُرور دائم؛ فلا يَحزنون على ما فاتهم من أمور الدُّنيا، فحصَل لهم المرغوب، ونجَوْا من المرهوب.والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفي وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل.
"وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"113.
أي: ضلَّل وكفَّر بعضُهم بعضًا، فادَّعى أهلُ كلِّ دِينٍ منهم، أنَّ دِين الآخَر باطل، ليس فيه شيءٌ من الحقِّ مطلقًا.
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ :أي: والحال أنَّ هؤلاء المدَّعين من اليهود والنصارى، يَقرؤون كتُبَهم ويعلمون ما فيها من الحقِّ، فيقرأ اليهود التوراة، ويقرأ النَّصارى الإنجيل، وكِلا الكِتابينِ شاهدانِ عليهما؛ فهما يقولان بخِلاف ما يقولون؛ فالإنجيل يَتضمَّن صِدقَ موسى وتقريرَ التوراة، والتَّوراة تتضمَّن التبشيرَ بعيسى وصِحَّة نبوَّته، وكِلاهما يتضمَّنان صِدقَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فكيف يدَّعي كلٌّ منهما أنه ليس في دِين الآخر شيءٌ من الحقِّ مطلقًا.
" كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ "أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء قالوا مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، فقال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل كتاب: لستم على شيء ، فاشترك اليهود والنصارى وهم أهلُ كتاب، مع أهلِ الجَهالة في المقالة نفْسها.
" فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"
فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل,أي: إنَّ الحَكَم العدل سبحانه وتعالى، يتوعَّد هؤلاءِ المختلِفين- القائِلِ بعضُهم لبعض: لستُم على شيء من الحقِّ- بأن يقضيَ ويَفصِل بينهم في الآخرة ، وأنَّه سيَجزي كلَّ مبطل على باطله؛ فإنَّه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك.
"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"114.
فالحق جل جلاله بعد أن بين لنا موقف اليهود والنصارى والمشركين من بعضهم البعض ومن الإسلام، وكيف أن هذه الطوائف الثلاث تواجه الإسلام بعداء ويواجه بعضها البعض باتهامات.. فكل طائفة منها تتهم الأخرى أنها على باطل.. أراد أن يحذرهم تبارك وتعالى من الحرب ضد الإسلام ومحاربة هذا الدين فقال" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا"
وَمَنْ: الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي. أَظْلَمُ: والظلم: الاعتداء على حق الغير، بالتصرف فيه بما لا يرضَى به، ويُطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه، والمعنيان واضحان هنا.وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فبمفهوم المخالفة: لا أعظم إيمانًا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, وقد زكى الله سبحانه تعالى مَنْ يعمر مساجد الله "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "التوبة:18.
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: وذكر اسم الله كناية عما يؤدَى فيها من العبادات، إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه- تعالى.
أي: لا أحد أظلم وأشد جُرمًا, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات.
وَسَعَى : أي: اجتهد وبذل وسعه " فِي خَرَابِهَا " الخراب الحسي والخراب المعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لله منها، وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة، فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعًا وقدرًا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرًا, حتى أذن الله له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا "
وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم عنه.
وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.
واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.
" لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ "أى: لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم " وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار. وليس هناك أشقى ممنيعيش دنياه في هوان وذلة، ثم ينتقل إلى أخراه فيجد مصيره العذاب الأليم الذي لا يموت فيه ولا يحيا.
"وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"115.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الذين يخربون مساجد الله ويهدمونها.. ويمنعون أن يذكر فيها اسمه والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أراد أن يذكرنا بأن تنفيذ هذا على مستوى تام وكامل عملية مستحيلة لأن الأرض كلها مساجد. قال صلى الله عليه وسلم" وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ..."صحيح البخاري.

وكأن الآية تومي، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره- تعالى- وتخريبها، لا يمنع من أداء العبادة لله- تعالى-: لأن له المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها

اللام في قوله " وَلِلَّهِ"تفيد معنى الملك.الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ :مكان شروق الشمس وغروبها، والمراد بهما هنا جميع جهات الأرض.
أي: إنَّ لله تبارك وتعالى مُلكَ الجِهة التي تطلُع منها الشَّمس، ومُلك الجِهة التي تَغيب منها، وله مُلك جميع ما بينهما من الجِهات والمخلوقات.
" إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"وذيلت الآية بقوله "إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ" لإفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين. أى: إن الله يسع خلقه جميعًا برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أينما كان وكيفما كان.
ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال تعالى:
"وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ"116.
"وَقَالُوا " أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك.فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله.
قول المشركين"أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى البنات على البنين"الصافات: 151-153.
وقول اليهود "وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله"التوبة: 30.
وقول النصارى"وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله"التوبة: 30.
وَلَدًا :والولد: يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والجمع.
سُبْحانَهُ: أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه. ،قال تعالى في سورة الإخلاص:قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ*
ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال:
"بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ"أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.
والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء، فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.
والقنوت نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق، وخاص: وهو قنوت العبادة. فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في قوله تعالى"وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"البقرة:238.
"بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "117.
بعد أن بين الله تبارك وتعالى أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله أظهر لنا مزيد براهين على تنزيهه وقدرته فقال:
"بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أى: خالقهما ومنشئهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق ولا اقتداء. وبلا آلة ولا مادة، وبديع صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعهما من غير أصل ولا مثال هو الله- تعالى-. وخص السموات والأرض بالإبداع، لأنهما أعظم ما يشاهد من المخلوقات.
" وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أي: إنَّه سبحانه إذا أراد شيئًا، فحسبُه أن يقول له: كن، فيكون ذلك الشيء على وَفقِ ما يُريد الله تبارك وتعالى، فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.
والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء كن فيكون.
"وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"118.
" وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ "أي: قال مُشرِكو العرب وغيرهم: هلَّا أَوحى الله عزَّ وجلَّ إلينا كما أَوحى إلى رُسله؟ أو يكلِّمنا بتصديق رسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؟ أو تأتينا معجزةٌ دالَّة على صِدق ما جاء به؟ وهذا الطَّلب قد صدَر منهم على سبيل التعنُّت والعِناد، وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها القرآن الكريم لم تكن كافية لإقناعهم، مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي ، جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية، وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى.
وإلَّا فقد جاءتْهم آيات كثيرة دالَّة على صِدق بِعثة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومنها القرآن الكريم.
ومما في القرآن من أخبار عن المستقبل والتي وقعت كما أخبر بها الرب عز وجل: انتصار الروم على الفرس / انتصار المسلمين في معركة " بدر " /وموت أبي لهب على الكفر/.....
*انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم من قبَلهم أول الأمر .
قال تعالى " غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ ..." الروم/ 2 – 4 إلى قوله"وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" الروم/ 6.
وكلمة " بِضع " في اللغة تدل على ما بين ثلاث وتسع ، وقد جاء انتصار الروم على الفرس بعد سبع سنين من نزول الآية .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله " وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين ، "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله، ويكذبون آياته " انتهى من " تفسير السعدي " ص 636.
*انتصار المسلمين في معركة بدر:
قال تعالى " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ " القمر/ 45 .
قال القرطبي – رحمه الله " وهذا مِن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر " انتهى من " تفسير القرطبي " 17 / 146.
*موت أبي لهب على الكفر:
قال تعالى" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ " المسد/ 1-3
وفي هذه الآيات إخبارٌ من الله تعالى أن عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا لهب سيموت على الكفر ولن يدخل في الإسلام ، وهو أمر غيبي أوحاه الله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام ، وكان بإمكان أبي لهب أن يعلن إسلامه ليكذِّب هذا الخبر – ولو في الظاهر – لكنه لم يفعل ، رغم أن السورة نزلت قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات ، هذه السورة تقرر أن أبا لهب سوف يذهب إلى النار ، أي بمعنى آخر : أن أبا لهب لن يدخل الإسلام ، عشر سنوات كانت لديه الفرصة أن يكذب القرآن بدقيقة واحدة ! ولكن لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم.
وقد أحدثت هذه الآيات وقعًا عظيمًا على بعض الكفار الذين أرادوا البحث في القرآن عن أخطاء ليشككوا المسلمين بكتاب ربِّهم تعالى ، فأبهرتهم هذه الآية - من ضمن آيات كثيرة – فما كان من هذا الراغب بالتشكيك بالقرآن إلا أن يُعلن إسلامه ويصير من الدعاة للإسلام ،وهو الدكتور " جاري ميلر ".وخلال عشر سنوات كاملة كل ما كان على أبي لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول " محمد يقول إني لن أسلم وسوف أدخل النار ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخل في الاسلام وأصبح مسلمًا ، لكنَّ أبا لهب لم يفعل ذلك تماما ، رغم أن كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنه لم يخالفه في هذا الأمر ؛ لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم.
لَوْلا: كلمة لحضّ الفاعل على الفعل وطلبه منه.
كما قال تعالى"وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ "الأنعام: 124.
"كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"
أي: قولهم ذلِك مطابقٌ لقول مَن قَبلهم من الأُمم السابقة من اليَهود والنصارى وغيرِهم.
أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى"أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"، و"لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ" إلى نحو ذلك، وقالت النصارى "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ"المائدة:112. فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهي واتباع الهوى تعنّتا وعنادًا لا للوصول إلى كشف غامض وجلاء حقيقة كما قال تعالى "وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ". الأنعام:7.
ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال:
"تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد، والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجري على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدي، وتعلّات لا تفيد. تفسير المراغي.
" قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" أي: قد أَظهَرْنا ووضَّحنا العلاماتِ الدالَّاتِ على صِدق الرُّسل عليهم السَّلام- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بما لا يُحتاج معها إلى سؤالٍ آخَر، ولكنْ ذلك لِمَن كان اليقين من خِصالهم الدَّائمة؛ فهم يَتثبَّتون ويستوثقون، ويطلُبون معرفةَ حقائق الأشياء إلى درجة اليقين.فقد بينا للناس الآيات بما لا يدع مجالًا للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-21-2022, 02:23 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Post

من آية 119 إلى 123

" إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ"119.
يُخاطب الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مؤكِّدًا له بأنَّه قد أرسله بالحقِّ، فبِعثتُه حقٌّ، وما جاء به من عند الله عزَّ وجلَّ حقٌّ، وقد أرسله تعالى لعموم المكلَّفين من الإنس والجن، والحال أنَّه مبشِّر مَن أطاعه بنيل السَّعادة في الدنيا والآخِرة، ومحذِّر ومُخوِّف مَن عصاه بالشَّقاوة في الدُّنيا والآخِرة. بَشِيرًا : أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، نَذِيرًا : لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي.
" وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" أي: لست مسئولًا عنهم,فليس عليك هدايتهم ولا حسابهم ، إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب.
" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" 120.
يُخبر اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّ أهلَ الكتاب من اليهود والنَّصارى لن يرضَوْا عنه حتى يترُكَ دِينَ الإسلام ويَعتنِقَ دِينَهم.
" حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله "" حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" حيث أفرد المِلة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى " لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" الكافرون:6.
" قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى "هم يرَوْن أنَّهم على هُدًى، فأعْلَمه الله تعالى بما يردُّ به على هذا الزَّعم، وهو أنَّ الهُدَى الحقيقيَّ هو هدى الله، الذِي جاء به مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله تعالى:
"وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ"إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية. والأهواء جمع هوى.. والهوى هو ما تريده النفس باطلًا بعيدًا عن الحق. فقد حرَّفُوا في التوارة والإنجيل بما يناسب أهواءَهم وباطلَهم، فأصبحت ملتُهم قائمةً على الهوى والتحريف وليس بالحق الذي جاء به الله تعالى. فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.تفسير السعدي.
" بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ "لذا خاطَب اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّتُه تبعٌ له- محذِّرًا من اتِّباع أهواء أهل الكِتاب، من بعد أنْ آتاه اللهُ من العِلم الذي يدلُّه على الحقِّ، هذا الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. المراد به أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده، وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلى اليهود والنصارى.. أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم.
"ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ". الإنسان إذا اتبع غير شريعة الله ، فلا أحد يحفظه من الله ولا أحد ينصره من دونه حتى لو كثر في الظاهر ناصروه؛ لأن النصر الحقيقي والولاية تكون باتباع هدى الله - تبارك وتعالى- كما دلت عليه هذه الآية.
فإنَّه إنْ فعَل ذلك واتَّبع أهواءَهم، فلن يجدَ حِينها أيَّ أحدٍ يتولَّاه، فيَجلِب له خيرًا، أو أيَّ أَحدٍ ينصُره، فيَدفع عنه شرًّا.
" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" 121.
ثم أخْبَر تعالى أنَّ مَن اتَّبع كتابه حقَّ الاتِّباع مِن أهل الكِتاب- ومِن اتِّباعه أنَّه لا يُحرِّفه ولا يبدِّل شيئًا ممَّا فيه- فإنَّه يعدُّ مؤمنًا به حقَّ الإيمان، والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها, وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم. فهؤلاء, هم المؤمنون حقًا.
وسيؤدِّي به ذلك الاتِّباعُ إلى الإيمان بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ في كتبهم تَصديقًا به، وذِكرًا لصفاته صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
"وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" وأمَّا مَن يكفُر بكتابه منهم- ومِن كُفره به تحريفُه وتبديلُه، وجحْدُ ما ثبَت فيه من نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فأولئك هم الخاسِرون.
" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" 122.
ثمَّ خاطَب الله تعالى بني إسرائيل وذكَّرهم بنِعمه التي أسْبَغها عليهم، ويعني بها النِّعمَ التي أنعم بها على آبائهم، وأنَّه فضَّلهم على سائرِ الأمم من أهل زَمانهم.
موسوعة التفسير/
سورة البقرة/ الدرر السنية.
" وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ" 123.
ثم بعد أنْ ذكَّرهم بنِعمه وفَضْله عليهم، حذَّرهم وخوَّفهم بأن يتقوا عذاب يوم القيامة، الذي لا تَقضي فيه نفْسٌ عن نفس حقًّا وجَب عليها، ولا يُقبل منها فِداء، ولا تُفيدها شفاعةٌ إذا كانت كافِرة، ولا أحَد يُنقذهم من عذابِ الله تعالى.
فقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة ، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته . يحذرهم من كتمان هذا ، وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، من النعم الدنيوية والدينية ، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم . ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه ، والحيدة عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. تفسير ابن كثير.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-23-2022, 05:25 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Arrow

المجلس الثامن عشر

وقفات وتأملات مع سورة البقرة

من آية 124إلى127

"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".124.
بعد أن حاجّ اللهُ سبحانه أهلَ الكتابِ وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فلا فضل إذًا لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم، إذ النسب واحد والملة واحدة.

ابْتَلَى :اختبر.الابتلاء هو الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر.
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ:الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، و"إِذِ"منصوب بـ"اذكر" مقدَّرًا.إِذْ إذ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بفعل اذكر المحذوف وهو في محل نصب مبنية على السكون في محل نصب مفعولٌ بِهِ ، وكُسرَ حرف الذال لتفادي التقاء ساكنين ، حيث حرف الذال ساكن وما بعدَهُ ساكن أيضًا. خالد عثمان السبت.
وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ.إسلام ويب.

رَبُّهُ: مرفوعة لأنها فاعل .وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو " الكلمات" التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إمامًا للناسِ يُقتدَى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ" أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون مِلَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي.
"بِكَلِمَاتٍ" قال ابن جرير الطبري"أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات، أنها الأوامر التي كلفه الله بها، فأتى بها - إبراهيم عليه السلام - على أتم وجه.ا.هـ.
كلمات الله نوعان:
كلمات قدرية كونية ، وهي: ما يُكَوِّن به الكائنات.
كلمات شرعية دينية:وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي أمره ونهيه وخبره.الكلمات في هذه الآية هي كلمات شرعية والمعنى أن الله ابتلاه بتكاليف معينة أي بشرائع من أمر ونهي، فقام بها على الوجه المطلوب، وهذا هو المشهور وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري، -رحمه الله- في هذه الآية،
"فَأَتَمَّهُنَّ" أى أتى بهن – أي أتى بهذه الكلمات- على الوجه الأكمل، وأداهنَّ أداء تامًا يليق- به- عليه السلام- ولذا مدحه اللهُ بقولِهِ"وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى" النجم: 37.
وجيء بالفاء في فَأَتَمَّهُنَّ للدلالة على الفور والامتثال. وذلك من شدة العزم، وقوة اليقين.
"قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا"
"إِمَامًا"هو الذي يأتمُّ به الناس، فيتبعونه، ويأخذون عنه، من أَمَّ، وأصله: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين.مقاييس اللغة لابن فارس :1/21.
فأتم – إبراهيم عليه السلام - ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكورًا فقال"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" أي: يقتدون بك في الهُدَى.
أي قال إني جاعلك للناس رسولًا يؤتمّ بك، ويقتدَى بهداكَ إلى يومِ القيامةِ، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهي الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريًا في ذريته، فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
"قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته، لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية.
" قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "

عَهْدِي : قال السدي "نبوتي"، وقيل: الإمامة ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالمًا من ولدك .ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها.أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، فأخبره أنه كائن في ذريته ظلمة لا ينالوا عهده، ولا ينبغي أن يولوا شيئًا من أمره وإن كان من ذرية خليله إذ هم لا يصلحون أن يكونوا أئمة وقدوة للناس.
والدليل على أنه أجيب إلى طَلَبِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت" وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ"سورة العنكبوت:27.فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه.

"وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ125."

" وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا" معطوف على قوله- تعالى-" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ"

ثم ذكر تعالى، نموذجًا باقيًا دالًّا على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركنًا من أركان الإسلام، حاطًّا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته، ما عُرف به إمامته.
" الْبَيْتَ" والبيت المقصود به الكعبة.
" مَثابَةً لِلنَّاسِ" إما أن يكون المراد أنه محلاً للثواب، أو أنهم يثوبون إليه فيكون ذلك موافقًا لما جاء أو روي عن ابن عباس : لا يقضون منه وطرًا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه، بمعنى أنهم لا يكتفون بزيارة واحدة إليه، بل كلما أتوا إليه ورجعوا إلى أهليهم تاقت نفوسهم إليه ثانية.
وابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد جعل ذلك من خصائص مكة، وهذا شيء مشاهد.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كلَّ عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، في قوله"فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ "إبراهيم:37.
" وَأَمْنًا" وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ"العنكبوت:67.
أي جعلنا لهم حرمًا يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم، على حين أن غيرهم تُشَنّ عليهم الغارات، فيُقْتَلون ويُؤْسَرون وتُسْبَى نساؤهم وذراريهم، وتُنْهب أموالهم .يعني العرب ، يسبي بعضهم بعضًا ، وأهل مكة آمنون.
" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" يحتمل أن يكون المراد بذلك، المقام المعروف الذي قد جعل الآن، مقابل باب الكعبة، فمقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار. وأن المراد بهذا، ركعتا الطواف، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم، وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردًا مضافًا، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج.
" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى"بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد. ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ لأنهم كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه.. فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين الكعبة.. وكان المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم.. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون ذلك ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين أراد أن تعم الصلاة على البيت.. فنزلت الآية الكريمة.
قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، وافَقْتُ رَبِّي في ثَلَاثٍ: فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" صحيح البخاري.
وهذا الحَديثُ مِن أجَلِّ مَناقِبِ عُمَرَ بن الخطَّاب رَضيَ اللهُ عنه وفضائِلِه، وفيه يقولُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه"وافقْتُ ربِّي في ثلاثٍ" وما أحسَنَ عبارَتَه وألْطَفَها! حيثُ راعَى فيها حُسْنَ الأدبِ؛ فَلَم يَقُلْ: وافَقَني ربِّي في ثلاثٍ؛ لأنَّ الآياتِ إنَّما نَزَلَت مُوافِقةً لرَأْيِه واجتِهادِه.
الأُولى: أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه قال: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى؟ فنزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" البقرة: 125، أي: فاتَّخِذوا أيُّها الناسُ مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصلًّى تُصَلُّون عِندَه؛ عِبادةً منكم للهِ تَعالى، وتَكرمةً لإبراهيمَ عليه السَّلامُ مِن اللهِ سبحانَه، وذلك عَقِبَ الانتهاءِ مِن الطَّوافِ بالكَعبةِ؛ فيَكون المَقامُ بيْنَ البَيتِ وبيْنَ المُصلِّي، ومَقامُ إبراهيمَ هو مَوضِعُ قيامِه، وهو الحَجَرُ الَّذي كان يَقِفُ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ عندَ بِنائِه لِلكَعبةِ، وفيه أثَرُ قَدَمِه عليه السَّلامُ، ومَكانُه مَعروفٌ الآنَ إلى جانبِ الكعبةِ.الدرر.
"وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"
أي: أوْحَيْنا إليهم بوصيةٍ مؤكَّدة، أمرناهما فيها بتطهير بيت الله تعالى من الشِّرك، والكُفر والأوثان، ومِن الرِّجس والنَّجاسات، وأنْ يَبْنِياه بِنيَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ.
." بَيْتِيَ" هَذِهِ إضافَةُ تَشْرِيفٍ، لا أنَّ مَكانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعالى، ولَكِنْ لَمّا أمَرَ بِبِنائِهِ وتَطْهِيرِهِ وإيفادِ النّاسِ مِن كُلِّ فَجٍّ إلَيْهِ، صارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصاصٌ، فَحَسُنَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ بِذَلِكَ، وصارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ"ناقَةُ اللَّهِ"الأعراف : 73 .
ليكون "لِلطَّائِفِينَ" فيه "وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أي: المصلين، قدم الطواف، لاختصاصه بالمسجد الحرام ، ثم الاعتكاف، لأن من شرطه المسجد مطلقًا، ثم الصلاة، مع أنها أفضل، لهذا المعنى. وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها.
" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"126.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ:أي: واذكُروا دعوة إبراهيم عليه السَّلام بحلول الأمْن الدَّائم للبلد الأمين: مكَّةَ.

أي قال: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش ،أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.

عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال:قال صلى الله عليه وسلم"إنَّ إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ودَعا لَها، وحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كما حَرَّمَ إبْراهِيمُ مَكَّةَ، ودَعَوْتُ لها في مُدِّها وصاعِها مِثْلَ ما دَعا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ لِمَكَّةَ."الراوي : عبد الله بن زيد - المحدث : البخاري- المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 2129-خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حرَّمَ مكَّةَ بِتَحريمِ اللهِ، ودَعا لَها، ومعْنى تَحريمِها: أنْ يَأمَنَ فيها كلُّ شَيءٍ على نفْسِه، حتَّى الحيوانُ فلا يُصادُ، وحتَّى الشَّجرُ فلا يُقطَعُ، إلَّا ما يَزرَعُه الآدميُّ بنفْسِه، وألَّا يُحدِثَ فيها إنسانٌ حَدَثًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ، أو جُرمًا، أو ظُلمًا، أو يَقترِفَ حَدًّا.
وأخذ العلماء من هذه الآية أن من دخل مكة وقد ارتكب حدًا فإنه لا يقام عليه الحد بمكة، وإنما يخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد، أو يُلجأ إلى الخروج ثم يقام عليه الحد، وكان الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أبيه وأخيه، فلا يحرك ساكنًا حتى يخرج من الحرم.
وأما من فعل الجريمة في الحرم كأن يزني في الحرم، أو يسرق، أو يقتل، فيقام عليه الحد في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فالذي يزني في الحرم يقام عليه الحد، والذي يزني في مكة أو يقتل أو يسرق، تقطع يده في مكة، ويجلد في مكة أو يرجم، ويقتل في مكة؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم.وهذا بخلاف الذي يأتي إليه من الخارج وقد فعل جناية خارج مكة ثم دخل مكة، فهذا لجأ إلى مكة عائذًا، فهو مُعظم للحرم، فيخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد.تفسير سورة البقرة للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ: أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص"أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ"القصص:57.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ :ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، تأدبًا مع الله، إذ كان دعاؤه الأول، فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيدًا بغير الظالم.
"قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى"وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا " أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلا
"ثُمَّ أَضْطَرُّهُ"أي: أُلْجِئَهُ وأُخرجه مُكْرَهًا " إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" يسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه.
"وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " 127.
بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام واستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تُجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهلُه، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيتَهُ للطائفين والعاكفين والركّع السجود، تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعِي أنها على مِلة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.
" يَرْفَعُ "فعل مضارع، والمضارع للحاضر، أو للمستقبل، ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال، كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم
" رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم. وتصدير الدعاء بندائِهِ - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميرها مظهر من مظاهر خضوعهما، وإجلالهما لمقامِهِ، والخضوع له - سبحانه -، وإجلال مقامِهِ من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء مستجاب .
"إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالِنا. وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك - فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبًا ولا يضيع سعيه سُدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبّلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.
قال صلى الله عليه وسلم " ............فَجَاءَ فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِن ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا له، فَقالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ له بَيْتًا، قالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قالَ: إنَّه قدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عليه، قالَ: إذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كما قالَ: قالَ فَقَاما فَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. قالَ: حتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ، وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ، فَقَامَ علَى حَجَرِ المَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح البخاري.
وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ : شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه، جاءَ بِهذا الحَجَرِ، فَقامَ ووَقَفَ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِلُه الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 08-23-2022, 07:42 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Arrow

المجلس التاسع عشر
من آية 128إلى 129
" رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "128.
أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم.دعوا لأنفسهما، وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته، خضوع القلب، وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألَّا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة.
" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ " أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين.
ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.
"وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا " يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا" وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وقيل لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما. هذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.
" إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.فأنت وحْدَك سبحانك التوَّاب؛ بتوفيقِ عبدك للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وأنت وحْدَك الرَّحِيم؛ فتختصُّ برحمتك عبادَك المؤمنين.
الفرق بين التوبة والاستغفار: التوبة: تتضمن أمرًا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا ، فالندم على الماضي والإقلاع عن الذنب في الحاضر والعزم على عدم العودة في المستقبل .
والاستغفار : طلب المغفرة ، وأصله : ستر العبد فلا ينفضح ، ووقايته من شر الذنب فلا يًعاقب عليه ، فمغفرة الله لعبده تتضمن أمرين : ستره فلا يفضحه ، ووقايته أثر معصيته فلا يؤاخذ عليها ، وبهذا يعلم أن بين الاستغفار والتوبة فرقًا ، فقد يستغفر العبد ولم يتب كما هو حال كثير من الناس ، لكن التوبة تتضمن الاستغفار

من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار:
قال تعالى في آيات الحجِّ" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "البقرة : 199، والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى يوم العاشر من ذي الحجة ، حيث يقوم الحاجُّ بإكمال أعمال حجهم التي هي خاتمة أعماله .
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية مبينًا أنَّ الحكمة من ذلك ليكون جابرًا لما حصل من العبد من نقص، ولما وقع منه من خلل أو تقصير : فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومَنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر. اهـ.
من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال : أشهد أن لا إله َ الا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه . اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ" الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي .
والحكمة من الاستغفار بعد الوضوء، أشار إليها ابن قاسم الحنبلي في حاشيته على الروض المربع: ...... والتوابون جمع تواب، صيغة مبالغة وهو كثير التوبة، والمتطهر الذي لا ذنب له،لما كان الوضوء طهارة الظاهر، ناسب ذكر طهارة الباطن بالتوحيد والتوبة، وهما أعظم المطهرات، وإذا اجتمع له الطهوران، صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه، ومناجاته.انتهى.
وقد ثبت في صحيح مسلم:
"كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا انْصَرَفَ مِن صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. قالَ الوَلِيدُ: فَقُلتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كيفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ."الراوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار:
كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ ، يقولُ : بآخِرٍ إذا أرادَ أن يقومَ منَ المَجلسِ : سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ ، أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا أنتَ ، أستَغفِرُكَ وأَتوبُ إليكَ فقالَ رَجلٌ : يا رسولَ اللَّهِ ، إنَّكَ لَتقولُ قولًا ما كُنتَ تقولُهُ فيما مَضى . قالَ : كفَّارةٌ لما يَكونُ في المَجلسِ" .الراوي : أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد - المحدث : الوادعي.
بل لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَه يقول :
" كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يتعَوَّذُ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ أذهبِ البأسَ ربَّ النَّاسِ واشفِ أنتَ الشَّافي لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادِرُ سَقمًا فلمَّا ثقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في مَرضِهِ الَّذي ماتَ فيهِ أخَذتُ بيدِهِ فجعَلتُ أمسَحُهُ وأقولُها فنَزَعَ يدَهُ مِن يدي ثمَّ قالَ اللَّهُمَّ اغفِر لي وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى قالَت فَكانَ هذا آخرَ ما سَمِعْتُ مِن كلامِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ " الراوي : عائشة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
قال صلى الله عليه وسلم "طوبَى لِمَن وجَدَ في صَحيفَتِه استِغفارًا كثيرًا"الراوي : عبدالله بن بسر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ، ولا سيما في ختام الطاعات جبرا لما فيه من نقص ، وتتميما لطاعته وعبادته ، وليفوز بثواب المستغفرين وكريم مآبهم ، ونسأل اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلنا من عباده التوابين الأوّابين المستغفرين ، وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم
الشيخ عبد الرزاق البدر.
"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 129.
دعاء إبراهيم عليه السلام الله سبحانه وتعالى ليتم نعمته على ذريته ويزيد رحمته على عباده.. بأن يرسل لهم رسولًا يبلغهم منهج السماء حتى لا تحدث فترة ظلام في الأرض تنتشر فيها المعصية والفساد والكفر ويعبد الناس فيها الأصنام كما حدث قبل إبراهيم.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ:أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما، بأنْ يبعث رسولًا من ذُريتهما، أي: من العرَب. وَهَذِهِ دَعْوَة إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة.
قال تعالى"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"الجمعة:2.
استجاب الله تعالى دُعاءَهما، فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَعْرِفُونَ وَجْهه وَنَسَبه ، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي. يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إلَى النُّور ، وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاط الْعَزِيز الْحَمِيد .فرسولنا الكريم هو استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبشرى عيسى عليه السلام . قال تعالى " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" الصف: 6.
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من الآيات التي تنزلها سبحانك عليه، لفظًا، وحفظًا، وتحفيظًا.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ: .. يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معنى الآيات وما جاءت به لتطبقه وتعرف من أين جاءت.. وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم فإن الحكمة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النبي"واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة"الأحزاب: 34.
وقوله تعالى"وَيُزَكِّيهِمْ" ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان.
وقوله جل جلاله" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته وقوته الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك.
فالعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى، والعزّة التي هي صفة لله لها ثلاث معان: عزة القوة والامتناع ، فممتنع أن يناله أحد من المخلوقات لقوته سبحانه . وعزة القهر ؛ أي قَهَرَ جميع الموجودات ، وعزة الغلبة ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته. ،. وكلها لله تعالى على أتم وجه وأكمله.
الْحَكِيمُ :الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة.فلا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
معنى الحِكْمَة اصطلاحًا:
قال أبو إسماعيل الهروي: الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه. منازل السائرين: للهروي :ص 78.
وقال ابن القيِّم: الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي. مدارج السالكين: لابن القيم :2/449.
فحكمة الله من الغيبيات وقد تكون ظاهرة في بعض الأشياء إلا أنها تغيب عنا في أشياء أخر ونحن مأمورون أن نؤمن بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ومن أسمائه الحكيم، ومن صفاته الحكمة
فما من شئ خلقه إلا لحكمة وما من عطاء يعطيه إلا لحكمة وما من منع منعه إلا لحكمة وما من تأخير مصلحة ظاهرة أو تفويتها إلا لحكمة وما من تعجيل شر ظاهر إلا لحكمة.
وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه. وقد أجاب الله دعاءه وجعل منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقي والحضارة.
قال تعالى" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ "110.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-14-2022, 12:47 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Post

من آية 130إلى 136

"وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ"130.
ما ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له . بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدَعَ بما أُمر، أردَفَ ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها.
"وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ " رغب في الشيء: أحبه وأراده ، ورغب عن كذا أي كرهه وأعرض عنه وصَدَّ عنه ، سَفِهَ نَفْسَهُ: أذلّها واحتقرها، والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء الجهلة، فلا يرغب عنها إلا سفيه يُعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.
لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى"إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ".. دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالًا وهم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تُنقل قوامته على ماله إلى ولي أو وصي؛ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن ينفق المال فيما ينفع.
وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ: أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهي خالصه.أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة.وَالصَّالِح مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ , وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ ، المشهود لهم بالخير والصلاح الذين لهم أعلى الدرجات.
" إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"131.
ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ : أي: أمَر الله تعالى خليلَه إبراهيمَ عليه السَّلام حين اصطفاه، بأن يُخلص دِينَه وتوحيدَه له سبحانه، وينقادَ إليه بكل ذلٍّ وخضوعٍ ومَحبَّة، فأجاب إبراهيمُ إلى ذلك على الفوروقال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي:استجاب إخلاصًا وتوحيدًا, ومحبة, وإنابة لله فكان التوحيد لله نعته. فأجاب إبراهيم إلى ذلك شرعًا وقدرًا .فلم يَدْعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه.
فإرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية قدرية، وهي التي بمعنى المشيئة، وضابط هذا القسم أمران :
1. أنها لابد أن تقع.
2. أنها قد تكون مما يحبه الله تعالى، وقد تكون مما لا يحبه الله.
ومثال هذا القسم: قوله تعالى عن نوح عليه السلام"وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"هود:34.
القسم الثاني : إرادة دينية شرعية : وهي التي بمعنى المحبة . وضابط هذا القسم أمران أيضًا:
1. أنها قد تقع وقد لا تقع.
2. أنها لا تكون إلا مما يحبه الله تعالى ويرضاه.
"وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"132.
وبعد أن بين الله- تعالى- أن إبراهيم- عليه السلام- كان كاملا في نفسه، أتبع ذلك ببيان أنه كان- أيضًا- يعمل على تكميل غيره، ودعوته إلى توحيد الله تعالى. فوصى إبراهيم بنيه باتباع ملته،وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام فوصى بها بنيه. ويعقوب كذلك أوصى بنيه باتباعها، فقال كل منهما لأبنائه:
"يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ " أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانًا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, فاثبتوا على الإسلام. واستقيموا على أمره حتى يدرككم الموت وأنتم مقيمون على هذا الدين الحنيف.
"يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه."الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم.
فإنَّ الكَريمَ قدْ أجْرى سُنَّتَه بكَرَمِه أنَّه مَن عاشَ على شَيءٍ ماتَ عليه، ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه،والحاج يبعث ملبيًّا ، هل يتعدى الحكم هذا إلى غيره مثلا من مات مصليًّا أو من مات مثلًا في الراتبة؟
الشيخ العثيمين : والله يرجى له ذلك لكن ما نجزم بهذا الشيء،لأن القياس في العبادات أو في الثواب فيه نظر.ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه :يعني من التوحيد والإخلاص ولا يلزم منه أنه إذا مات مصليا فإنه يبعث مصليًا وإذا مات طالب علم فإنه يبعث طالب علم لكن يرجى ذلك إن شاء الله. العثيمين.

" فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه بُرهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.
وفي هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفًا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني وفي هذا حثٌّ على دَوامِ عَملِ الصَّالحاتِ والخيراتِ؛ فإنَّه لا يَدْري أحدٌ متَى يموتُ.
ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرًا، وأقام الْحُجَّةَ على أهلِ الكتابِ فوجَّهَ إليهمُ الخطابَ وقالَ:
"أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"133.
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ " أي: هل كنتم يا معشرَ اليهود، المكَذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، شهودًا حاضرين -يريد ما كنتم شهداء حضورًا. -حين أتتْ أباكم يعقوبَ عليه السَّلام مقدِّماتُ الموت فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به" مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي " ؟ فأجابوه بما قرت به عينُه فقالوا"نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا "أي: أجاب أبناءُ يعقوبَ عليه السَّلام أباهم بأنَّهم يعبُدون معبودَه ومعبودَ آبائه- وهم: جَدُّه إبراهيم، وعمُّه إسماعيل - والعرب تُسمِّي العمَّ أبًا كما تُسمِّي الخالةَ أمًّا ، وأبوه إسحاق- وهو الذي لا مَعبودَبحقٍّ سواه، لا يُشرِكون به في عبادته أحدًا من دونه.
فلا نشرك به شيئًا, ولا نعدل به أحدًا، " وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " أي: مُستسلِمون ومنقادون لأمْره، خاضِعون لعبادتِه .
فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يُوجَدُوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.تفسير السعدي.
"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 134.
ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالًا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين .
تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، ولا تُسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستُسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هو دعوة إبراهيم- عليه السلام- وعلى دينه وملته.
"وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "135.
دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال.
أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، وأنتم جميعًا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم" هُودًا أَوْ نَصَارَى: أَوْ: للتنويع، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" أي قل يا محمد : بل نتبع ملة إبراهيم ، حَنِيفًا: أي: مائلًا عن الدِّين الباطل إلى الدِّين الحقِّ، أي: مسلمًا مستقيمًا، وأصل الحنف: الميل.
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال:
" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" 136.
أي قولوا آمنا بالله ، وبماأنزل إلينا بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلًا ،وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملًا، ونص على أعيان من الرسل :إبراهيم عليه السلام وابناه: إسماعيل وإسحاق ، ويعقوب ابن إسحاق ، والأسباط: وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط: هم حفدة يعقوب وذراري أبنائه الاثنى عشر، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات المؤيدة له والتوراةغير المحرفة. وَعِيسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات المؤيدة له والإنجيل غير المحرف. وأَجْمَلَ ذكرَ بقية الأنبياء بقوله" وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ " دخل فيها كل النبييبن لأنه ما أوتوا من وحي هو إيتاء .
يلاحظ أنهذه الآية فيها إنزالوإيتاء ، الإنزال يأتي من السماء ويستعمل للكتب ، أما الإيتاء فهو يستعمل للكتب وغيرها مثل إعطاء النبوة أو الملك أو المعجزات أو غيرها من العطايا الإلهية. .وبالعودة إلى قصة موسى بالقرآن عمومًا نجد أن حُجَجَ موسى - عليه السلام - لم تكن في الكتاب وإنما جاءه الكتاب بعدما أوتي المعجزات ، وللعلم فإنه لم يرد في القرآن كلمة "أُنْزِلَ" مطلقًا لموسى في القرآن كله وإنما استعملت كلمة "أُوتِي" لموسى. أما بالنسبة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في القرآن "وَلَقَدْآتَيْنَاكَسَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"الحجر: 87 . وجاء أيضًا "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَاأُنزِلَ إِلَيْكَ"البقرة : 4 . د.فاضل السامرائي بتصرف.
وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ، ولا نعمل بما فيهما .تفسير ابن كثير.
"مِنْ رَبِّهِمْ " إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سُدى ولا هَمْلًا. والرسل كلهم على منهاج واحد في الدعوة إلى توحيد الله، والعمل بطاعته ، والرسل لا يدعون إلا إلى الخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم, يصدق الآخر, ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم ، بل يؤمنوا بهم كلهم ، وبنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذّب أحدًا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقًا جمليًا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ."صحيح البخاري.
رَسولُ اللهِ مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو خاتَمُ الأنْبياءِ والمُرسَلينَ، صَلَواتُ اللهِ عليهم أجمَعينَ، بعَثَه اللهُ سُبحانَه ليُتِمَّ به البِناءَ الإيمانيَّ، والهَدْيَ الرَّبَّانيَّ؛ فبِه اكتمَلَ للإنْسانيَّةِ النُّورُ الَّذي يُضيءُ لها طَريقَ السَّعادةِ، واكتمَلَتْ مَكارِمُ الأخْلاقِ ودَعائِمُ الحَقِّ والعَدلِ، وخُتِمتْ به النُّبوَّةُ. فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً، وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها مبشرة به عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ والأتَمُّ الناسخة لما سبق ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ، أي: لا نَبيَّ بعْدَه. الدرر السنية بتصرف.
عن أبي هريرة قال:كانَ أهْلُ الكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَهَا بالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا"البقرة: 136. الآيَةَ.صحيح البخاري.
أَنزَلَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى القُرآنَ حاكِمًا على ما سبَقَه مِن كُتبٍ وشَرائعَ؛ فشَريعتُه وأحْكامُه قاضيةٌ على كلِّ ما سبَقَه مِن شَرائعَ، وقدْ طالَت أيْدي التَّحْريفِ ما سبَقَه مِن كتُبٍ سَماويَّةٍ، فحرَّفَ اليَهودُ التَّوراةَ، وحرَّفَ النَّصارى الإنْجيلَ وزادوا التَّوْراةَ تَحريفًا.
وفي هذا الحَديثِ يُحذِّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه مِن الاغْتِرارِ بما يَرْويه أهلُ الكِتابِ مِن كتُبِهم، فيُخبِرُ أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ اليَهودَ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا يَقرَؤونَ التَّوْراةَ بالعِبْرانيَّةِ، يَعني اللُّغةَ العِبْريَّةَ، وهي لُغةُ اليَهودِ، ويُفسِّرونَها ويُتَرجِمونَها لأهلِ الإسْلامِ بالعَربيَّةِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"لا تُصدِّقوا أهلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبوهم"، وهذا فيما لا يُعرَفُ صِدقُه مِن كَذِبِه؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالَى أمَرَنا أنْ نؤمِنَ بما أنزَلَ إلينا منَ القُرآنِ، وما أنزَلَ إليهم مِن الكِتابِ، إلَّا أنَّه لا سَبيلَ لنا إلى أنْ نَعلَمَ صَحيحَ ما يَحْكونَه عن تلك الكتُبِ مِن سَقيمِه إذا لم يَرِدْ في شَريعَتِنا ما يوَضِّحُ صِدْقَه مِن كَذِبِه، فنتَوقَّفُ؛ فلا نُصدِّقُهم؛ لئلَّا نَكونَ شُركاءَ معَهم فيما حَرَّفوه منه، ولا نُكَذِّبُهم؛ فلعَلَّه يكونُ صَحيحًا، فنَكونُ مُنكِرينَ لمَا أُمِرْنا أنْ نُؤمِنَ به، وأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نَقولَ "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"البقرة: 136.
وأمَّا ما عُلِمَ كَذِبُه ممَّا أخبَرَ به اليَهودُ والنَّصارى -كافْتِرائِهم على اللهِ ورَسولِه- فلا يَسَعُ المُسلِمَ إلَّا أنْ يُكَذِّبَهم فيما قالوا.
وفي الحَديثِ: أنَّ المُسلِمَ مِن حيث الإجْمالُ يُؤمِنُ بما جاء به أنْبياءُ اللهِ جَميعًا، ولا يُصدِّقُ إلَّا ما جاء موافِقًا للقُرآنِ الكَريمِ، وسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.الدرر السنية.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ:أي لا نفرق بين جماعة النبيين، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا معشر اليهود، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وفعلكم هذا في حقيقته كفر بالأنبياء جميعًا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ : أي: خاضعون لعظمته سبحانه, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-19-2022, 12:59 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Arrow


من آية 137إلى 141

"فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"137.
أي: فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مماثلًا من كلِّ الوجوه لإيمانكم- أيُّها المسلمون- ومِن ذلك الإيمانُ بجميعِ كتُب الله تعالى، وبجميع رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام- فقد رَشَدوا ووُفِّقوا للحقِّ والخير.واهتدوا للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم. و والهُدَى هو العلم بالحق, والعمل به.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ:أي: فإنْ أعرَض أولئك اليهودُ والنَّصارى عن الحقِّ بعد إقامة الحُجَّة عليهم، فلم يُؤمِنوا بمِثل إيمانكم، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّهم يَقصِدون المخالفةَ والمنازعةَ والعداوةَ لكم.الدرر موسوعة التفسير .
فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم أي يكفيه شرهم . وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.تفسير السعدي.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : فهو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بأحوالهم و بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
"صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"138.
صِبْغَةَ اللَّهِ : الصبغة في الآية بمعنى الإيمان . وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان ،لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً : والاستفهام هنا للإنكار والنفي ، والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد سخطة له.
بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصبغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ :عابدون أي مطيعون . والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
"قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ"139.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ :المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحُجة على ذلك. والمعنى أتجادلوننا في شأن الله، وتقولون أنكم الأقرب إلى الله، وتزعمون أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. وإن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيًّا لكنتَ منَّا.
وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ: يعنى ليس أحد منا أولى بالله من الآخر، لأنه تعالى "رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" وعطاء الربوبية عام لكل الناس ، المتصرف فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له !
"وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ" نحن لَنَا أَعْمَالُنَا التى سنحاسب عليها، وأنتم لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ التى ستحاسبون عليها، والعمل وحده هو الذي يقرب لله تعالى، وليس كما تزعمون أنكم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وأن آبائكم الأنبياء سيشفعون لكم.
فشُبْهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَهُمْ بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ .
"وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" ونحن مخلصون في أعمالنا، والْإِخْلَاصُ هو رُوحُ الْأَعْمَالِ، والإخلاص, هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِينَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا يُشْرِكَ بِهِ فِي دِينِهِ وَلَا يُرَائِيَ بِعَمَلِهِ، قَالَ الفضيل: ترك العمل من أجل النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ الله منهما.الألوكة.
"أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " 140.
وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين.
فرد الله عليهم بقوله" أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " وقال سبحانه في موضع آخر " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "آل عمران : 67.وهم يقولون: بل كان يهوديًا أو نصرانيًا. فإما أن يكونوا، هم الصادقين العالمين، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم، وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك، لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور، أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك. وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ " ولا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كِتمان الشَّهادة؛ ممَّن يَكتُم ما أنزل الله في كُتبه . فهي شهادة عندهم، مودعة من الله، لا من الخلق، فيقتضي الاهتمام بإقامتها، فكتموها، وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل، والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال سبحانه " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " فيه تهديد ووعيد شديد، فالله سبحانه وتعالى ليس بسَاهٍ عن هؤلاء اليهودِ والنَّصارى، بل هو على عِلمٍ بجميع أعمالِهم محيط بها ، ولا يَخفَى عليه منها شيء.فقد أحصى أعمالهم، وعدها وادخر لهم جزاءها، فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار، مثوى للظالمين.تفسير السعدي.وموسوعة التفسير .
"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"141.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ : أي : تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت،. لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ، من غير متابعة منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله ، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء ، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .من تفسير ابن كثير.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-07-2022, 02:38 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,382
Post

من آية 142إلى 144
" سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 142.
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلامًا، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس.وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيستقبلهما معًا كما يفيده حديث ابن عباس:
"كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّى نحوَ بَيتِ المقدِسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ وبعدَما هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شَهرًا ، ثمَّ تَوجَّه إلى الكعبةِ"الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : موافقة الخبر الخبر-الصفحة أو الرقم : 2/279 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
بقى المسلمون يجمعون فى الصلاة بين القبلتين ما شاء الله ،ثم أُذن لهم فى الهجرة من مكة فخرجوا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفى المدينة تعذر على النبي والذين آمنوا معه الجمع بين القبلتين .. فكان المسلمون يصلون مع رسول الله ويستقبلون بيت المقدس حتى نزل الوحي بتحويل القِبْلَة إلى الكعبة.
عن البراء بن عازب " كانَ أوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ علَى أجْدَادِهِ، أوْ قالَ أخْوَالِهِ مِنَ الأنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وصَلَّى معهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى معهُ، فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَتِ اليَهُودُ قدْ أعْجَبَهُمْ إذْ كانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا ولَّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أنْكَرُوا ذلكَ."صحيح البخاري.
شَرائِعُ الدِّينِ مَبنيَّةٌ على الوحْيِ وما أمَرَ به اللهُ سُبحانه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّبِعًا لذلك، وإنْ مالَتْ نفْسُه إلى أمرٍ فإنَّه لا يَفعَلُه ما لم يُؤمَرْ به.وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءِ بْنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا قدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ نزَلَ على بني النَّجَّارِ؛ لأنَّهم هم أخوالُه أو أجدادُه مِن جِهةِ جَدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ. وفي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ، وظلَّ يتَّجِهُ إليه سِتَّةَ عشَرَ شَهرًا، أو سَبعةَ عشَر شَهرًا، وكان يُعجِبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تكونَ قِبلتُه قِبَلَ الكعبةِ؛ وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانه عن حالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه في قولِه تعالى"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"البقرة: 144، فوَعَدَه أنْ يُوجِّهَه إلى القِبلةِ التي يَرْضاها، وكانت أوَّلُ صَلاةٍ صلَّاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ هي صَلاةَ العصرِ، ولا خِلافَ أنَّ ذلك كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، وصلَّى معه بَعضُ أصحابِه، فخرَجَ رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمَرَّ على أهلِ مَسجدٍ، فوجَدَهم يُصَلُّون، وكانوا راكعينَ، فقال لهم: أحْلِفُ باللهِ، لقدْ صلَّيتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ في الصَّلاةِ، فلمَّا سَمِعوه صدَّقوه وَدارُوا ناحيةَ المسجدِ الحرامِ، ولم يَقطَعوا الصَّلاةَ، بلْ أتمُّوها إلى جِهةِ الكعبةِ، فصلَّوا صَلاةً واحدةً إلى جِهتينِ: جِهةِ المسجدِ الأقْصى، وجِهةِ المسجدِ الحرامِ.وكان اليهودُ يُعجِبُهم تَوجُّهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بَيتِ المقدِسِ؛ لأنَّه قِبْلَتُهم، فلمَّا تَوجَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى البيتِ الحرام، أنكَروا ذلك، فنَزَل قولُه تعالى"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"البقرة: 142. الآياتِ، كما جاء مُصرَّحًا به في رِواياتٍ أُخرى.وكان بعضُ الصَّحابةِ ممَّن صلَّى إلى بَيتِ المقدِسِ مات أو قُتِل قَبلَ أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ إلى البيتِ الحرام، فسُئِل صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ فأنزَلَ اللهُ"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ"البقرة: 143، أي: صَلاتَكم.وفي الحديثِ: ما كان عندَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم مِن سُرعةِ تَلبيةِ واستجابةِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ على الشَّيءِ لتَأكيدِه.وفيه: الحضُّ على حُسنِ الاستِجابةِ لِداعي اللهِ ورَسولِه.الدرر السنية.
أخبَر اللهُ تعالى أنَّ السفهاء : وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس في صلاتهم.
قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ :أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه
يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ : الله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
وإذا سأل سائل ما الحكمة من تغيير القبلة؟
إذا أتانا الأمر من الله وجب علينا قبوله والتسليم له - وإن لم تظهر لنا حكمته - كما قال تعالى"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا "الأحزاب 36 .
والله سبحانه وتعالى لا يحكم بحكم إلا لحكمة عظيمة - وإن لم نعلمها - كما قال تعالى"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"الممتحنة 10.
والله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكمًا إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله ، كما قال تبارك وتعالى "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"سورة البقرة 106 .الإسلام سؤال وجواب.
ومن الحكم العظيمة التي تظهر لنا من تحويل القبلة تنقية الصف المسلموامتحان المؤمن الصادق واختباره ، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا ، بخلاف غيره.كما ستوضحه الآية التالية.
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ". 143.
وَكَذَلِكَ : أي: وكما هديناكم صراطًا مستقيمًا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: أيعدولًا خيارًا، لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: تشهد هذه الأمة لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم.وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا :أي شهيدًا على صدقكم.
ونقل البغوي في تفسيره :1/122، عن الكلبي أنه قال : وَسَطًا " يعني : أهل دين وسط ، بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في الدين "
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولًا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بَلَّغَتْ ما أُمِرَتْ ببلاغِهِ من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي " انتهى ."جامع البيان " 2/8 .
جعل الله هذه الأمة، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بكل الأنبياء على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا فِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ – الَّتِي اهتمت بالروح وقَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ بِالْحَيَاةِ، وَانْقَطَعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَجَالِ الْمَادِّيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّوَاحِي الْحِسِّيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ وَالطُّغْيَانِ الْمَالِيِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيَةِ النَّفْسِ.
فجاء الإسلام جامعًا بين الحقّين حق الروح وحق الجسد، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسد وروح..ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا " أُمَّةً وَسَطًا " كاملين، ليكونوا " شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم. تشهد هذه الأمة يومَ القِيامةِ لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهمإذا كذَّبوا وأنكَرُوا أنَّ اللهَ بَعَثَ إليهم الأنبياءَ.وهي لا يَشْهَدُ عَلَيْها إلّا رَسُولُها صلى الله عليه وسلم.والأُمَّة لا تَشْهَدُ عَلى النَّبِي ولِهَذا كانَ يَقُولُ في حَجَّةِ الوَداعِ "ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟، قالوا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ " الحديث..... الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث - المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 1741 . فَجَعَلَ اللَّهَ هو الشّاهِدَ عَلى تَبْلِيغِهِ.
يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فيَقولُ اللَّهُ تَعالَى: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فيَقولُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: لا ما جاءَنا مِن نَبِيٍّ، فيَقولُ لِنُوحٍ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أنَّه قدْ بَلَّغَ، وهو قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"البقرة: 143. والوَسَطُ: العَدْلُ."الراوي : أبو سعيد الخدري - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 3339 .
يَجِيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعه الرجلُ ، والنبيُّ ومعه الرجلانِ ، والنبيُّ ومعه الثلاثةُ ، وأكثرُ من ذلك ، فيُقالُ له : هل بَلَّغْتَ قومَك ؟ فيقولُ : نعم ، فيُدْعَى قومُه ، فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَكم هذا ؟ فيقولونَ : لا ، فيُقالُ له : مَن يَشْهَدُ لك ؟ فيقولُ : مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ ، فيُدْعَى مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَ هذا قومَه ؟ فيقولونَ : نعم ، فيُقالُ : وما عِلْمُكُم بذلك ؟ فيقولونَ : جاءنا نبيُّنا ، فأَخْبَرَنا أنَّ الرُّسُلَ قد بَلَّغُوا فصَدَّقْناه ، فذلك قولُه : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" الراوي : أبو سعيد الخدري -المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 8033 -خلاصة حكم المحدث : صحيح .
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: والجَعْلُ هُنا جَعْلُ التَّشْرِيعِ،جَعَلْنَا: أي شَرَعْنا وهي استقبال بيت المقدس أولًا، ففي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ كما سبق وبيناه في تفسير الآية السابقة.خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية.
إِلَّا لِنَعْلَمَ :أي: علمًا يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن"مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " من يؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور.فالمؤمن المنصف نسخ استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة والتوجُّه إلى الكعبة يزيده إيمانًا وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من انقلب على عقبيه- مثنى عقب وهو مؤخر القدم، وهي كناية عن الارتداد وعن الرجوع إلى الأمر الأول، وهو الكفر -، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحُجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها.
"وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " " وَإِنْ كَانَتْ " أي: وإن كان صرفك عن استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة " لَكَبِيرَةً " أي: شاقة " إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ "يسيرة على الذين هداهم الله للحق ، فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنًا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه عزَّ وجلَّ لن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها. ، وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.فقد سمى التوجه للقبلة إيمان وهو عمل من أعمال الجوارح.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ :والرأفة شدَّة الرَّحْمَة ومنتهاها، فالرَّؤُوف بِمَعْنى الرَّحِيم مَعَ الْمُبَالغَة فِيهِ.
الفرق بين الرأفة والرحمة "والرَّأْفَةُ أَخصُّ وأَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا تَكاد تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، والرحمةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ للمَصْلحةِ" لسان العرب:9:112.
وقوله" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ " أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها.
"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"144.
"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" تَقَلُّبَ :تردده المرة بعد المرة في السماء، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء.كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قِبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادًا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارًا ومطافًا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فَكَرِهَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قبلتهم.تفسير المراغي.
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال : كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، .... صحيح البخاري.
أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة.
"فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا "أي فلنوجهنَّك ولنجعلنّك تلي جهة عظيمةٍ تحبها وتتشوف لها وتطمئنُّ إليها في صلاتك غير جهة بيت المقدس.وتَرْضاها معناه تحبها وتقر بها عينك. تَرْضَاهَا: أي : تحبها وتقر بها عينك.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :أي اصرف وجهك - والمراد بالوجه هو الذات كلها- وَحوِّله بحيث يلي جهة المسجد الحرام " الشطر "، النحوَ والقصدَ والتّلقاء.. وفي ذكر "الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدًا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ :ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها.أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ :أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى.
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ: فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.ولا يخفَى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 09:46 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر