|
#1
|
||||
|
||||
الفصل الثاني قواعد في صفات الله تعالى صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة. أما السمع: فمنه قوله تعالى"لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"سورة النحل، الآية: 60.والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى. وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة. إما صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة؛ ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز. فقال تعالى"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ"سورة الأحقاف، الآية: 5.. وقال تعالى"وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ"سورة النحل، الآيتان: 20، 21.. وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه"يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا"سورة مريم، الآية: 42.، وعلى قومه"أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ"سورة الأنبياء، الآيتان: 66، 67..ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به.وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان، والعجز،والعمى،والصمم ونحوها؛لقوله تعالى"وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ"سورة الفرقان، الآية: 58.. وقوله عن موسى"فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى"سورة طه، الآية: 52. وقوله"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ"سورة فاطر، الآية: 44. . وقوله"أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ" سورة الزخرف، الآية: 80.وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال"إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور"رواه البخاري، كتاب الفتن 7131،. وقال "أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائبًا" رواه البخاري، كتاب المغازي -4202-، ومسلم، كتاب الذكر -2704-.وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى"وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" .سورة المائدة، الآية: 64. وقوله"لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ"سورة آل عمران، الآية: 181.ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال سبحانه "سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" سورة الصافات، الآيات: 180 - 182. وقال تعالى"مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" سورة المؤمنون، الآية: 91.وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتًا مطلقاً، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها. فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصاً في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها،كقوله تعالى"وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"سورة الأنفال، الآية: 30. وقوله"إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْدًا" سورة الطارق، الآيتان: 15، 16. وقوله"وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ"سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183.وقوله"إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ"سورة النساء، الآية: 142. وقوله"قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ"سورة البقرة، الآيتان: 14، 15.ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى"وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"سورة الأنفال، الآية: 71.. فقال"فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ "، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقًا.وبهذا عرف أن قول بعض العوام: "خان الله من يخون" منكر فاحش، يجب النهي عنه. _______________ *"لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"سورة النحل، الآية: 60حاشية غير موجودة بالكتاب للذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون لها, الصفة القبيحة من العجز والحاجة والجهل والكفر, ولله الصفات العليا من الكمال والاستغناء عن خلقه, وهو العزيز في ملكه, الحكيم في تدبيره.التفسير الميسر *"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ "الأحقاف5 لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب دعاءه أبدًا؛ لأنها من الأموات أو الأحجار والأشجار ونحوها, وهي غافلة عن دعاء مَن يعبدها, عاجزة عن نفعه أو ضره. التفسير الميسر |
#2
|
||||
|
||||
القاعدة الثانية من قواعد الصفات باب الصفات أوسع من باب الأسماء ومن أمثلة ذلك:أن من صفات الله تعالى المجيء، والإتيان، والأخذ والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى كما قال تعالى"وَجَاءَ رَبُّك"72." وقال"هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ"73. "وقال"فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ"74." وقال"وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ"75. "وقال"إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ"76. "وقال"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" "77. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا""78. فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به. ______________ (71) سورة لقمان، الآية: 27. (72) سورة الفجر، الآية: 22. (73) سورة البقرة، الآية: 210. (74) سورة آل عمران، الآية: 11. (75) سورة الحج، الآية: 65. (76) سورة البروج، الآية: 12. (77) سورة البقرة، الآية: 185. (78) رواه البخاري، كتاب التهجد (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين (758 *القاعدة الثالثة من قواعد الصفات فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك. فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً"79). فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته. والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله. وكون محمد صلى الله عليه وسلم ؛رسوله ؛يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مُرْسِلِه، وهو الله - عز وجل. وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتي حين يكون الخبر صادراً ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العي بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله - عز وجل - فوجب قبول خبره على ما أخبر به. وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأصدقهم خبراً وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بياناً، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه. والصفات السلبية:ما نفاها الله - سبحانه - عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب. فيجب نفيها عن الله تعالى - لما سبق - مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده، لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالاً كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصاً، كما في قول الشاعر: قبيلة لا يغدرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خردل1 وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي حَسَبٍ ليسوا من الشر في شيء وإنْ هانا * مثال ذلك: قوله تعالى"وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت" (80). فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته. * مثال آخر: قوله تعالى"وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (81).نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله. * مثال ثالث: قوله تعالى"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ"- 82. فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته. ولهذا قال بعده: (إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً). لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال. __________ 1- لايظلمون لضعفهم وعدم قدرتهم على ظلم أحد .80 سورة الفرقان، الآية: 58. (81) سورة الكهف، الآية: 49. (82) سورة فاطر، الآية: 44. |
#3
|
||||
|
||||
القاعدة الرابعة من قواعد الصفات _________________ (83) سورة الشورى، الآية: 11. (84) سورة الإخلاص، الآية: 4. (85) سورة مريم، الآيتان: 91، 92. (86) سورة الأنبياء، الآية: 16. (87) سورة ق، الآية: 38. ____________ القاعدة الخامسة من قواعد الصفات __________ (88) سورة يس، الآية: 82. (89) سورة الإنسان، الآية: 30. _________________ القاعدة السادسةمن قواعد الصفات ____________ (90) سورة الشورى، الآية: 11. (91) سورة النحل، الآية: 17. (92) سورة مريم، الآية: 65. (93) سورة الإخلاص، الآية: 4. (94) سورة الشورى، الآية: 11. (95) سورة طه، الآية: 110. (96) سورة الإسراء، الآية: 36. (97) سورة طه، الآية: 5. (98) سورة فصلت، الآية: 36. |
#4
|
||||
|
||||
القاعدة السابعة صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها _____________ (99) سورة طه، الآية: 5. (100) سبق تخريجه. (101) سورة الفجر، الآية: 22. (102) سورة السجدة، الآية: 22. **************************** الفصل الثالث قواعد في أدلة الأسماء والصفات *القاعدة الأولى وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضده، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه. وأما معناه فيفصل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول. وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده. فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام. ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها "وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"103. ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها. ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي. فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة. ومنه الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها(104. ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك(2 ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ "الجهة" فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به. فالأول باطل لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع. والثاني باطل أيضًا؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته. والثالث حق؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته. ودليل هذه القاعدة السمع والعقل. فأما السمع فمنه قوله تعالى"وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"(105)، وقوله"فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(106)، وقوله"وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"(107)، وقوله"مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا"(108)، وقوله"فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(109"، وقوله"وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ"110). إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة. وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع. والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبرعن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟ وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟ وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟ ولقد قال الله تعالى"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ"111). ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن. وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة. ___________ (103) سورة إبراهيم، الآية: 27. (104) علق فضيلة الشيخ المؤلف هنا بقوله: أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد. (105) سورة الأنعام، الآية: 155. (106) سورة الأعراف، الآية: 158. (107) سورة الحشر، الآية: 7. (108) سورة النساء، الآية: 80. (109) سورة النساء، الآية: 59. (110) سورة المائدة، الآية: 49. ****************** *القاعدة الثانية ودليل ذلك: السمع، والعقل. أما السمع: فقوله تعالى"نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"112). وقوله"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"113). وقوله"إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"114. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي. وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال"أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"115. وقال تعالى" مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا"116. الآية. وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. ___________ (112) سورة الشعراء، الآيات: 193 - 195. (113) سورة يوسف، الآية: 2. (114) سورة الزخرف، الآية: 3. (115) سورة البقرة، الآية: 75. (116) سورة النساء، الآية: 46. *********************** *القاعدة الثالثة وقد دل على ذلك: السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى"كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"-117. وقوله تعالى"إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ""118.وقوله -جل ذكره- "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"119." والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكر الإنسان بما فهمه منه. وكون القرآن عربيًا ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها. وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه. وأما العقل: فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتابًا أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه"كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"120. هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات. وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية،فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات. وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدعون أن هذا مذهب السلف. والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحيانًا وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله - عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ "العقل والنقل" ص116 جـ1 المطبوع على هامش "منهاج السنة: "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله - إلى أن قال ص118 -: وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه. بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته... لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدًا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. أهـ. كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد - رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم. __________ (117) سورة ص، الآية: 29. (118) سورة الزخرف، الآية: 3. (119) سورة النحل، الآية: 44. (120) سورة هود، الآية: 1. |
#5
|
||||
|
||||
*القاعدة الرابعة فلفظ (القرية)، مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى. فمن الأول قوله تعالى"وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا "121. ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم"إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَة"122. وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى"لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ"123؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس. ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فغير المعنى به. إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني. وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: *القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله - عز وجل - وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم. وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" أهـ. وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة" أهـ. نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية ص87-89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن القاسم. وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين: الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف. الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحًا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم. *القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو: التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه: الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"124 الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟ الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً. فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها:أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. "ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أندادًا فقال"فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ"125) وقال"فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"126). وكلامه - تعالى - كله حق يصدق بعضه بعضًا، ولا يتناقض. ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتًا لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض!. ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات. *القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عامًا في الأسماء والصفات، أم خاصًا فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابًا كثيرًا، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف. ومذهبهم باطل من وجوه: أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له. الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله - تعالى - خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله - عز وجل. الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم ؛ لقوله - تعالى – "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"127). ولقوله - سبحانه "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً"128. فالصارف لكلام الله - تعالى - ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم. وقال على الله ما لا يعلم من وجهين: الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله - تعالى - ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام. الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟! مثال ذلك: قوله - تعالى - لإبليس "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَاخَلَقْتُ بِيَدَي"129). فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل - وأنى له ذلك - وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته. الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها. الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم. ثم يقال له: هل تعلم كلامًا أفصح وأبين من كلام الله - تعالى؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل تظن أن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا. هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن. أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا. ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحق صدق وحق؟ فسيقول: نعم. ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أفصح كلامًا، وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول لا ثم يقال له هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله ؟ فسيقول : لا فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله - تعالى - لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟ وماذا يضيرك إذا أثبت لله - تعالى - ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتًا ونفيًا؟ أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة"مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ"130 أوليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل المراد يكون - على تقدير جواز صرفها - غير ما صرفتها إليه. الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. فمن هذه اللوازم: أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله - تعالى - بخلقه، وتشبيه الله - تعالى - بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله - تعالى "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"131. قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري - رحمهما الله -: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا. أهـ. ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهًا وكفرًا أو موهمًا لذلك. ثانيًا: أن كتاب الله - تعالى - الذي أنزله تبياناً لكل شيء، وهدى للناس، وشفاءً لما في الصدور، ونورًا مبينًا، وفرقانًا بين الحق والباطل لم يبين الله - تعالى - فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان. ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله - تعالى - وسموه تأويلاً. وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل!! رابعًا: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعًا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلاههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً، إن لم يتمكنوا من تكذيبه. خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله - تعالى "وَجَاءَ رَبُّكَ"132).إنه لا يجيء،وفي قوله صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا"(133) إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه. ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء - أيضًا - ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه. فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي. مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة. أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها. أما السمع: فمنه قوله تعالى"وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ"134. وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة. ونفوا الرحمة؛ لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى. وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام. فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعًا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"135). والصفة مثل "وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ"136). والفعل مثل"وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ"137. ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل - ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس. وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة؛ فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك. فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق. وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كانت تعطيلاً عامًّا أو خاصًّا. وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك منوجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة. الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليًّا وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليًّا، ونأول دليله السمعي، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم وإتباع الهوى. وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهًا لا تعطيل فيه ولا تحريف، "وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ". "تنبيه" علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل. أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثل أولاً، وعطل ثانيًا، كما أنه بتعطيله مثله بالناقص. وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه: الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالاً على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل. الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه. الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص. ___________ 121) سورة الإسراء، الآية: 58. (122) سورة العنكبوت، الآية: 31. (123) سورة ص، الآية: 75. (124) سورة الشورى، الآية: 11. (125) سورة النحل، الآية: 74. (126) سورة البقرة، الآية: 22. (127) سورة الأعراف، الآية: 33. (128) سورة الإسراء، الآية: 36. (129) سورة ص، الآية: 75. (130) سورة القصص، الآية: 65. (131) سورة الشورى، الآية: 11. (132) سورة الفجر، الآية: 22. (133) سبق تخريجه. (134) سورة البقرة، الآية: 253. (135) سورة الفاتحة، الآية: 3. (136) سورة الكهف، الآية: 58. (137) سورة العنكبوت، الآية: 21. |
#6
|
||||
|
||||
*تلخيص القاعدة الرابعة السياق ،وما يضاف إليه الكلام،وتركيب الكلام. *مثال ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني بحسب "السياق" لفظ القرية معناه يختلف بختلاف السياق قوله تعالى"وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا" 121. قَرْيَةٍ : في هذا السياق يكون المعنى المتبادر للذهن لهذا اللفظ " القوم" ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم"إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَة"122. الْقَرْيَة في هذا السياق يكون المعنى المتبادر للذهن لهذا اللفظ " المساكن وليس القوم . *مثال ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني بحسب "ما يضاف إليه الكلام" تقول: صنعت هذا بيدي- هنا أُضيفت اليد للمخلوق- فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى"لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ"سورة ص، الآية: 75. *مثال ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني بحسب "التركيب" ماعندك إلا زيد، ومازيد إلا عندك، -ماعندك إلا زيد المعنى لايوجد أحد عندك إلا زيد فقط - ومازيد إلا عندك المعنى زيد غير موجود في أي مكان إلا عندك ولكن هذا لا يمنع أن يكون عندك أحد آخر غير زيد في وجود زيد. فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فغير المعنى به. وقد انقسم الناس فيه- أي في ظاهر النصوص -إلى ثلاثة أقسام: @القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله- عز وجل - وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين: الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف. الثاني:أن يُقال: إن الحقَّ إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرُهُم، والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحًا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحًا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده.وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرِهِم. @القسم الثاني:من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو:التشبيه، وأبقوا دلالتَها على ذلك- فقالوا سمع الله مثل سمع المخلوق و...-. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه: الأول:أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"سورة الشورى، الآية: 11 الثاني:أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟ الثالث:أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً. @القسم الثالث:من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه ، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله،- الذي ترتب عليه التأويل الباطل وهو تحريف نسأل الله السلامة ؛ مثل اليد أولوها للنعمة أو القوة ، الاستواء أولوه للاستيلاء ؛نسأل الله العافية- وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات، أم خاصاً فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف. ومذهبهم باطل من وجوه: أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له. الثاني:أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله - تعالى - خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي ؛والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله - عز وجل."وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" سورة الإسراء، الآية: 36 ومذهب أهل التعطيل: يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. فمن هذه اللوازم: أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله - تعالى - بخلقه، وتشبيه الله - تعالى - بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله - تعالى-"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" سورة الشورى، الآية: 11 ثانيًا : أن كتاب الله - تعالى - الذي أنزله تبيانًا لكل شيء، وهدى للناس، لم يبين الله - تعالى - فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون. ثالثًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز؛ قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل!! *********************** الفصـل الرابع شبهات والرد عليها ونحن نجيب - بعون الله - عن هذه الشبهة بجوابين مجمل، ومفصل. أما المجمل فيتلخص في شيئين: أحدهما:أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض. ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرَهم صرفٌ لها عن ظاهرِها، فإن لهم في ذلك دليلاً من الكتاب والسنة، إما متصلاً وإما منفصلاً، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما المُفَصَّل فعلى كل نص ادَّعَى أن السلفَ صرفوه عن ظاهرِه. ولنمثل بالأمثلة التالية فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزَّالي عن بعض الحنبلية أنه قال:إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" و "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن". و "إني أجد نفَسَ الرحمنِ من قِبلِ اليمن". نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيميه ص398 جـ5 من مجموع الفتاوى. وقال: هذه الحكاية كذب على أحمد. *المثال الأول "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". والجواب عنه: أنه حديث باطل، لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح. وقال ابن العربي: حديث باطل فلا يلتفت إليه، وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت أهـ. وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه. لكن قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والمشهور - يعني في هذا الأثر - إنما هو عن ابن عباس قال "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه". ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه، فإنه قال: "يمين الله في الأرض" ولم يطلق فيقول: يمين الله. وحُكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" وهذا صريح في أن المُصافِح لم يُصافِح يمينَ اللهِ أصلاً، ولكن شُبَّهَ بمنْ يصافح اللهَ، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى كما هو معلوم لكل عاقل. أهـ. ص398جـ6 مجموع الفتاوى. المثال الثاني"قلوب العباد بين إصبعين(138) من أصابع الرحمن". والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"(139). وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا: إن لله تعالى أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين إصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره. فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض. ويُقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول. |
#7
|
||||
|
||||
*المثال الثالث - "إنِّي لأجدُ نفَسَ الرَّحمنِ من قِبَلِ اليمنِ""الصحيحة للألباني " رقم : 3367-هنا والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند(140) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفسَ ربِّكُم من قِبلِ اليمن". قال في مجمع الزوائد "رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة". قلت: وكذا قال في التقريب عن شبيب ثقة من الثالثة، وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير. وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفسياً، مثل فرج يفرج تفريجاً وفرجاً، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة. قال في مقاييس اللغة: النفس كل شيء يفرج به عن مكروب. فيكون معنى الحديث: أن تنفيس الله - تعالى - عن المؤمنين يكون من أهل اليمن. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات"أهـ. ص398جـ6 مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم. *المثال الرابع والجواب: أن لأهل السنة في تفسيرها قولين: أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير، قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: "وأولى المعاني بقول الله - جل ثناؤه"ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن". علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات". أهـ. وذكره البغوي في تفسيره: قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف. وذلك تمسكاً بظاهر لفظ اسْتَوَى.وتفويضاً لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله - عز وجل. القول الثاني: إن الاستواء هنا بمعنى القصد التام؛ وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت. قال ابن كثير: "أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عُدي بإلى". وقال البغوي: "أي عمد إلى خلق السماء". وهذا القول ليس صرفاً للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل "اسْتَوَى"اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء. فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترِن به، ألا ترى إلى قوله - تعالى – "عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا"(142). حيث كان معناها يروى بها عباد الله لأن الفعل "يَشْرَبُ" اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام. *المثال الخامس، والسادس والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره. ولكن ما حقيقته وظاهره؟ هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله - تعالى - مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطاً بهم، أو حالاً في أمكنتهم؟ أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله - تعالى - مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم: علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا، وسلطانًا، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه؟ ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله - عز وجل - وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته! ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق مصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه. وتفسير معية الله - تعالى - لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه: الأول: أنه مخالف لإجماع السلف، فما فسرها أحد منهم بذلك؛ بل كانوا مجمعين على إنكاره. الثاني: أنه مناف لعلو الله - تعالى - الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف، وما كان منافياً لما ثبت بدليل كان باطلاً بما ثبت به ذلك المنافي، وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلو والاختلاط باطلاً بالكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف!! الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله - سبحانه وتعالى. ولا يمكن لمن عرف الله - تعالى - وقدره حق قدره، وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن يقول: إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطًا بهم أو حالاً في أمكنتهم، فضلاً عن أن تستلزم ذلك، ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة، جاهل بعظمة الرب - جل وعلا. فإذا تبين بطلان هذا القولتعين أن يكون الحق هو القول الثاني، وهو أن الله - تعالى - مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم، علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا وسلطانًا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه. وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب، لأنهما حق، ولا يكون ظاهر الحق إلا حقاً، ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبدًا. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية ص103 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال"يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا" إلى قوله"وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ"(145). دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، هذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه(146). وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ."إلى قوله"هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا"(147). الآية. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار"لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا"(148). كان هذا - أيضًا - حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الإطلاع والنصر والتأييد. ثم قال: فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر. فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية، فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها. أهـ. ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق أن الله - تعالى - ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"(149. فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه - سبحانه - مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض. أما في آية الحديد فقد ذكرها الله - تعالى - مسبوقة بذكر استوائه على عرشه وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال"هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(150. فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه؛ لا أنه - سبحانه - مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض وإلا لكان آخر الآية مناقضاً لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه. فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه - تعالى - مع عباده أنه يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبر شئونهم، فيحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة، ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة(151. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في "العقيدة الواسطية" ص142 جـ3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم في فصل الكلام على المعية قال: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - سبحانه - من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة". أهـ. وقال في "الفتوى الحموية" ص102، 103 جـ5 من المجموع المذكور: وجماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منها كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته. ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك يناقض بعضه بعضًا البته مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله"وَهُوَ مَعَكُمْ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهِه"(152) ونحو ذلك فإن هذا غلط. وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله - سبحانه وتعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(153. فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: "والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه"(154). أهـ. واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله - تعالى - لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة: الأول: أن الله - تعالى - جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض، وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما. وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبره حتى يتبين لك، قوله تعالى"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا"(155). فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون"آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(156). وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه، واعلم أن القصور في علمك أو في فهمك، وأن القرآن لا تناقض فيه. وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق "كما جمع الله بينهما". وكذلك ابن القيم كما في "مختصر الصواعق" لابن الموصلي ص410 ط الإمام في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل إنه مجاز قال "وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويًا على عرشه، وقرن بين الأمرين كما قال تعالى: - وذكر آية سورة الحديد - ثم قال: فأخبر أنه خلق السموات والأرض، وأنه استوى على عرشه وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في حديث الأوعال: "والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه" فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق". أهـ. الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو، فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا. ولا يعد ذلك تناقضًا ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض، فإذا كان هذا ممكنًا في حق المخلوق، ففي حق الخالق المحيط بكل شيء مع علوه سبحانه من باب أولى، وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان. وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيميه في "الفتوى الحموية" ص103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم حيث قال: "وذلك أن كلمة "مع"في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة". أهـ. وصدق - رحمه الله تعالى - فإن من كان عالماً بك مطلعًا عليك، مهيمنًا عليك، يسمع ما تقول، ويرى ما تفعل، ويدبر جميع أمورك، فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة؛ لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان. الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعاً في حق الخالق الذي جمع لنفسه بينهما؛ لأن الله تعالى لا يماثله شي من مخلوقاته كما قال تعالى"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"(157. وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيميه في "العقيدة الواسطية" ص143 جـ3 من مجموع الفتاوى حيث قال: "وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه - سبحانه - ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو عليّ في دنوه قريب في علوه". أهـ. _____________ (140) مسند أحمد" (2/541. (141) سورة البقرة، الآية: 29. (142) سورة الإنسان، الآية: 6. (143) سورة الحديد، الآية: 4. (144) سورة المجادلة، الآية: 7. (145) سورة الحديد، الآية: 4. (146) علق فضيلة الشيخ المؤلف هنا بقوله: كان هذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه؛ لأنه إذا كان معلومًا أن الله تعالى معنا مع علوه لم يبق إلا أن يكون مقتضى هذه المعية أنه تعالى عالم بنا مطلع شهيد مهيمن لا أنه معنا بذاته في الأرض. (147) سورة المجادلة، الآية: 7. (148) سورة التوبة، الآية: 40. (149) سورة المجادلة، الآية: 7. (150) سورة الحديد، الآية: 4. (151) وقد سبق أن المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان. (152) رواه البخاري، كتاب الصلاة (406)، ومسلم، كتاب المساجد (547. (153) سورة الحديد، الآية: 4. (154) رواه أحمد (1/206)، وأبو داود، كتاب السنة (4723)، وابن ماجة، المقدمة (193. (155) سورة النساء، الآية: 82. (156) سورة آل عمران، الآية: 7. (157) سورة الشورى، الآية: 11. |
|
|