عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 01-17-2022, 07:58 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,213
Arrow

من آية 102 إلى 110
" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"102.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
مَن ترَك ما يَنفعُه مع إمكانيةِ الانتفاعِ به، فإنَّه يُبتُلى بالاشتغال بما يضرُّه، فكذلك هؤلاء اليهودُ؛ فلَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّهم نبَذوا كتابَ الله، ذكَر اشتغالَهم بما يضرُّهم. فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان
" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ" أي: أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلًا منهم بما هم به عالمون اتَّبعوا ما تختلقُه الشياطينُ وتتقوَّلُه، من السِّحر على عهد سليمان، وتَنسُبه إليه، حيث أخرجت الشياطين للناس السِّحر، وزعَموا كذبًا أنَّ سليمان عليه السَّلام كان يستعمله، وأنه حصَل له به المُلك العظيم.
" وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ "
أي: إنَّ سليمانَ عليه السَّلام بريءٌ من تُهمة السِّحر التي أَلْصَقَها به اليهود، فلم يكُن كافرًا يمارس السِّحر، أو يُعلِّمه للآخرين؛ وذلك لأنَّ السِّحر كُفر، بل الذين كفروا بسبب السِّحر في الحقيقة هم الشياطين الذين يُعلِّمونه للناس؛ إضلالًا لهم ، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرًا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك. ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.
" وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ" أي: واتَّبع اليهود أيضًا السِّحرَ، الذي أُنزل على الملَكين: هاروت وماروت، في بابل من أرضِ العِراق.
وكذلك اتبع اليهودُ السحرَ الذي أُنزل على الملَكين هاروت وماروت ، الكائنين بأرض " بابل " ، من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر ؛ امتحانًا وابتلاءً من الله لعباده ، فيعلمانهم السحر .
فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس ، والإضلال ، ونسبته ، وترويجه ، إلى مَن برَّأه الله منه ، وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانًا مع نصحهما : لئلا يكون لهم حجة .
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تُعلِّمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين ، وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه .
قال ابن كثير – رحمه الله :
وقد روي في قصة " هاروت وماروت " عن جماعة من التابعين ، كمجاهد ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وأبي العالية ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين ، من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن : إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن ، على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال . تفسير ابن كثير " 1 / 360 .
" وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ".
أي: وما يعلِّم هذانِ الملَكانِ السِّحرَ لأحدٍ من الناس، حتى يَنصحاه فيقولَا له: إنَّما نحن هنا لتعليم السِّحر؛ اختبارًا وابتلاءً لبني آدم، فلا تَكفُرْ بالله؛ بسبب تعلُّم السِّحر وممارسته.
ثم ذكر مفاسد السحر فقال " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" أي: فيتعلَّم الناسُ السِّحرَ من المَلَكينِ بما يَتصرَّفون به تصرُّفاتٍ مذمومةً، من أعظمِها التفريقُ بين الزَّوجين، مع ما بينهما من المودَّة والرَّحمة.
"وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ"
أي: وما هؤلاء المتعلِّمون السِّحرَ من الملَكيْن، وفاعِلو تلك الأفعال القَبيحة، بضارِّين بذلِك أحدًا من الخَلْق، إلَّا بإذن الله تعالى الكوني، أي: بقُدرته ومشيئته سبحانه .
"وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ."
أي: إنَّ السِّحرَ الذي يتعلَّمه هؤلاء المشتغِلون به ضررٌ محضٌ عليهم في الدنيا، ليس فيه نفْعٌ مطلقًا .
"وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"
أي: قد علِم أولئك اليهودُ أنَّ مَن استبدل السِّحرَ بكتاب الله تعالى ومتابعةِ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، أنَّه ليس له في الآخِرة حظٌّ ولا نصيبٌ من الجَنَّة .
"وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
أي: ولبئس البديلُ السِّحرُ الذي تعلَّموه، بديلًا عن كِتاب الله تعالى، ومتابعة رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام، لو كانوا يَعلمون أنَّهم إنَّما باعُوا أنفسَهم، وحظَّهم من الآخِرة بما يَضرُّهم في الدُّنيا أيضًا، ولا ينفعهم .
"وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "103.
أي: إنَّهم لو اختاروا الإيمانَ والتقوى بدلَ السِّحرِ، لكان اللهُ يثيبُهم على ذلك ما هو خيرٌ لهم ممَّا طلبوه في الدُّنيا لو كانوا يَعلمون، فيَحصُل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير، الذي هو جَلْب المنفعة ودفْع المضرَّة، ما هو أعظمُ ممَّا يُحصِّلونه بالسِّحر من خير الدُّنيا، مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثَّواب في الآخِرة.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ "104.
كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين" رَاعِنَا" راعِنا من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فيقصدون بها معنى صحيحًا، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون " رَاعِنَا" يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم في الحقيقة يريدون بها معنى فاسدًا والإساءة إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة التي هي الحمق والخفة، فنهى الله- تعالى- المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه.
فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن .
" وَقُولُوا انْظُرْنَا " فكلمة " انْظُرْنَا " كافية يحصل بها المقصود من غير محذور ، وتفيد معنى الإنظار والإمهال لحفظ ما تلقيه علينا وفهمه ، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين.
"وَاسْمَعُوا " لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة.
"وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ" الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم، لذا توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع.
" ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"105.
مَا يَوَدُّ :أي: ما يحب، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه. وفي التعبير بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم الذي أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه. وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام- أيضا- يضاهون كفرة أهل الكتاب، في كراهة نزول أي خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم من دين قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف.
مِنْ خَيْرٍ :والخير: النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع.
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم. والمشركون كرهوا ذلك- أيضًا- لأن في انتشار الإسلام، وفي تنزيل الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها.
"وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".
أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يصيره سخط الساخطين، ولا يحوّل مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدًا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه
. وقوله تعالى" وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده- تعالى- يتفضل به عليهم، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنى أصطفي للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأماني، ولكني أهبها لمن هو أهل لها.
"ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 106.
النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل: أي أزالته،النسخ شرعًا: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه.وبتعبير آخر النسخ هو : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولًا،
لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكما بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا.ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب، بل أنزل الله- تعالى- آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور، ليزداد المؤمنون إيمانا، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض.
أَوْ نُنْسِها : والإنساء: أي: أو ما نُزِلْه من الآيات؛ فنَمْحُه من قلبِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنهم. وحكمة النسخ: أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هي للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر.
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها: أي نأتِ بخيرٍ من الذي نسخناه أو محوناه من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أو بمثله في خيريَّته ووجوه نفْعه.
وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتًا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شيء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته، ثم أقام دليلًا آخر فقال:
" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"107.
فإذا كان مالكًا لكم, متصرفًا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه. أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل ملكه وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقدر ما شاء منها بحكمته سبحانه . يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ : الولي هو من يواليك ويحبك.. والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي.. الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم وليٌّ ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم. فهو سبحانه ولي عباده, ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.
ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.
" أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ"108.
ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم.. ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله" أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ"والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى"يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً "النساء:153.
فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم، وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم، بل كانت ظاهرة لهم واضحة، دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته.. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.. أي لم تكفهم هذه المعجزات.. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار.. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنمًا يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ: أي: مَن أخذ الكفر عِوضًا عن الإيمان.
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: الضلال؟.. هو أن تسلك سبيلًا لا يؤدي بك إلى غايتك.. و سَوَاءَ السَّبِيلِ :السواء هو الوسط ، فقد حادَ عن وسَط الطريق، وانحرَف إلى جوانبه التي تُفضِي به إلى طُرق الهلاك.فيشبهه بالطريق الذي أطرافه وعرة لا تصلح للسير.. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات. ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد المستقيم ، في وسط الطريق فهم فيه لن يضلوا يمينًا ولا يسارًا بل يسيروا على الطريق المستقيم طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إلى الكفر.
" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"109.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا:
أي: إنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى يتمنَّون بكلِّ قلوبهم أن يرتدَّ المؤمنون عن دِينهم، فيَكفروا . انظر دقة التعبير القرآني في قوله تعالى" كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ".. فكأن بعضهم فقط ولو كَثر ؛ هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم
وقد سعَوا في ذلك، وأعمَلوا المكايد، كما قال تعالى" وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "آل عمران: 72.
وقال سبحانه عن المنافقين"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً "
النساء: 89.

حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ:
أي: إنَّ تلك الأمنيةَ الصادرة عن كثيرٍ من أهل الكتاب؛ سببُها الحسدُ المتمكِّن والمتأصِّل في نفوسهم، للمؤمنين على ما آتاهم اللهُ تعالى من فَضلِه، بالهداية إلى دِينه القويمِ، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره.،وهذا الحسَد إنَّما صدَر منهم بعدَ أن تبيَّن لهم الحقُّ المبِين، أي بعد ما تأكدوا من التوراة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم.
" فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَاعْفُوا :يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته.. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله.. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء.
وَاصْفَحُوا :والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك. فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه.
حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ: حتى يأتي نصر الله لكم بمعونته وتأييده. وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات. ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله:
"إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته"وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". الحج:40.
ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال:
" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"110.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: لما في الصلاة من توثيق عرى الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم في المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر
وَآتُوا الزَّكاةَ :لما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم له باقي الأعضاء بالحمى والسهر.
وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال:
"وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ" أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم.
ونحو الآية قوله"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ".
ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه.
ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال:
"إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها.
ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب.
رد مع اقتباس