العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى القرآن والتفسير > ملتقى القرآن والتفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-22-2023, 12:29 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Arrow

من آية 219 إلى آية 220 .

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "219.
وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور، ويصلح النفوس.
أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن حُكم الخمر- وهي: كلُّ شرابٍ مسكِر يُغطِّي عقل صاحبه- وعن حُكم الْمَيْسِرِ وهوالقِمار. وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.
عن عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّهُ قالَ " اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخَمرِ بيانَ شفاءٍ ، فنزلتِ الَّتي في البقرةِ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ" الآيةَ، فدُعِيَ عمرُ فقرئت علَيهِ قالَ: اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى" ، فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ، ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ بيِّنَ لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في المائدةِ" إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ" إلى قولِهِ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ فقالَ: انتَهَينا انتَهَينا "الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم : 3049 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
كان عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَميلُ إلى أنْ يأتيَ من عِند اللهِ عزَّ وجلَّ ما يُحرِّمُها؛ فنَزلتِ الآيةُ الَّتي في البقرةِ"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"البقرة: 219، أي: إنَّ الخمرَ فيها أضرارٌ ومنافِعُ، وكانت منافِعُها في التِّجارةِ وأمورِ البيعِ والشِّراءِ، فَلَمْ يكُنْ في تِلك الآيةِ نَهْيٌ عنها، بل إظهارُ ما بها من مَضارَّ؛ ليتفكَّرَ النَّاسُ فيها، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه، أي: عُرِضَتْ عليه تلك الآيةُ فَلَمْ تَشْفِهِ؛ فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخَمرِ بيانًا شِفاءً، أي: أَنزِلْ ما يَفْصِلُ فيها ويُوضِّح أكثرَ من تلك الآيةِ، "فنزلَتِ الآيةُ التي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"النساء: 43، أي: كان النَّهْيُ في الصَّلاةِ فقط، والنَّهيُ المُتعلِّقُ بها في الصَّلاةِ هو السُّكْرُ لا الشُّرْبُ، "فكان مُنادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: مُؤذِّنُهُ، "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ يُنادي: ألا لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرانُ، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه"، أي: عُرِضَتْ عليه تِلك الآيةُ فَلَمْ تَشفِهِ، "فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شِفاءً"، أي: بَيِّنْ لنا فيها ما هو أَكْثَرُ من ذلك، "فنزلَتْ هذه الآيةُ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" المائدة: 90، 91، أي: يَنهى اللهُ عزَّ وجلَّ صراحةً في تلك الآيةِ عن شُرْبِ الخمرِ، ويأمُر باجتنابِها؛ "فقال عُمَرُ: انتهيْنا"، أي: كانتْ تلك الآيةُ بمَنزلةِ الفَصْلِ الَّذي كان يُريدُهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ في الخمرِ.
وفي الحديثِ: مَنْقَبَةٌ لِعمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه.الدرر.
وَالْمَيْسِرِ : وأمَّا مفسدة القِمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصَّدِّ عن ذِكر الله وعن الصَّلاة، وهذه مفاسدُ عظيمةٌ لا نسبةَ إلى المنافع المذكورة إليها.
وهذه الآية من أدلة القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وتساويا ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
وذلك لأن وجود المفسدة يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على تحصيل المنفعة ، لذا قالوا " التخلية قبل التحلية " ، أي إزالة العقبات من طريق جلب المصلحة أو المنفعة .
ودفع المفسدة مُقدم على جلب المنفعة لحكمة أخرى حاصلها : أن المفسدة إذا لم تُدفع في أول أمرها ربما تتفاقم وتنتشر وتجر إلى مفاسد أخرى ، وتحُول بين جلب المنافع الدنيوية والأخروية .القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 107 / بتصرف .
فإذا تساوت المصلحة والمفسدة ، ولم ترجح إحداهما ، فدرء المفاسدمقدم على جلب المصالح لأن عناية الشارع بترك المنهيات آكد من عنايته بفعل المأمورات .
* فعن أبي هريرة ، قال خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الناس فقال " ، فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"سنن النسائي تحقيق الشيخ الألباني / 24 -كتاب : مناسك الحج / 1ـ باب : وجوب الحج / حديث رقم : 2619 / ص : 409 / صحيح.
فالمأمورات قال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فخذوا به ما استطعتم " ، فعلقها على الاستطاعة ، وذلك باستفراغ الجهد .
أما المنهيات فقال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فاجتنبوه " . أي ابتعدوا عن المنهيات تمامًا .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
مثال ذلك : يمنع الشخص من الترف في ملكه إذا كان تصرفه يضر بجاره ضررًا فاحشًا ؛ لأن درء المفاسد عن جاره ـ مقدم ـ وأولى من جلب المنافع لنفسه .

الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية ... / جمعة صالح محمد / ص : 47
*أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة ، وجب تقديم دفع المفسدة ، وإن استلزم ذلك تفويت المصلحة ، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات ، كما سبق توضيحه عاليه .
ومن شواهد هذه القاعدة :
قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافعُ لِلناسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِما " .سورة البقرة / آية : 219 .
فحرم الله الخمر والميسر ، لأن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما .
قال الحافظ ابن كثير :
" أما إِثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام ، وإخراج الفضلات ، ولذة الشدة التي فيها ، وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما كان يقمِّشة بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال تعالى : "وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِمَا" .القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 339 / بتصرف .
*أما إذا دار الفعل بين مصلحة ومفسدة ، وكانت المصلحة أرجح من المفسدة ، حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة . وهذا مُفاد القاعدة التالية:

تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة
ومن دلائل هذه القاعدة :
ـ قول الله عز وجل " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .سورة البقرة / آية : 179 .
* قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
" ... فلولا القصاص لفسد العالَم ، وأهلك الناس بعضهم بعضًا استبداءً واتيفاءً ، فكان القصاص دفعًا لمفسدة التَّجَرِّي على الدماء بالجناية أو بالاستيفاء ، وقد قالت العرب في جاهليتها :
" القتال أنفع للقتل" ، وبسفك الدماء تُحقن الدماء" . ا . هـ . 2 / 91 .

القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 343 .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير هذه الآية :
" وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" . أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عَرف أنه مقتول إذا قَتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر سبحانه ـ أي جعلها نكرة ـ " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير .
ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة ، والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه ، من الحِكَم ، والمصالح الدالة على كماله ، وكمال حكمته وحمده ، وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة ، فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا لقوم يعقلون..ا . هـ .

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ :ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نُهُوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم.
قُلِ الْعَفْوَ : وأصل العفو في اللغة الزيادة. يقال : عفا الشيء إذا كثر قال- تعالى" ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا"الأعراف : 95. أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ،زادوا على ما كانوا عليه من العدد.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
والمعنى، ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.الوسيط.
"أعتق رجلٌ من بنى عذرةَ عبدًا له عن دبْرٍ فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مالٌ غيرُه ؟ قال : لا، فقال رسولُ اللهِ : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيمُ بنُ عبد اللهِ العدوي بثمانمائةِ درهمٍ، فجاء بها رسولُ اللهِ فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم : 4666 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
عبدًا له عن دبْرٍ :أي: قرَّرَ هذا الرَّجلُ أنَّه بعْدَ أنْ يَموتَ يُصْبِحُ مَملوكُه حُرًّا، ولَمْ يَكُنْ له مالٌ غَيْرُ هذا العَبدِ، وهذا كنايةٌ عن احتياجِه للمالِ، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يوافِقْه على فِعْلِه ذلك، ثم سأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه" من يشتريه مني؟" فأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيْعَه للرَّجلِ؛ لكَونِه فَقيرًا مُحتاجًا للمالِ؛ فبَيْعُه والانتفاعُ بِمالِه أوْلى مِن عِتْقِه، فاشتراهُ نُعيمُ بنُ عبدِ اللهِ بن النحامِ العَدويُّ بثَمانِمِائةِ دِرْهمٍ، فجاء بها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجلِ. ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الدرر.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : أي: كما فصَّل الله تعالى هذه الأحكامَ كحُكم الخمر وغيره، وأوضحها غايةَ الإيضاح، فكذلك يُوضِّح الله جلَّ وعلا لنا بمِثل ذلك البيان سائر آياته وأحكامه الشرعيَّة؛ كي نتفكَّر من خلالها فيما شرَعه الله تعالى من أحكام تتعلَّق بشؤون الدارينِ، ولأجْل أن يقودَنا ما جاء فيها من وعدٍ ووعيد وثوابٍ وعقاب، إلى التفكُّر في الدنيا وسرعة انقضائها، وفي إقبال الآخِرة وبقائها، فنزهَد في الأولى، ونُعمِّر الثانية؛ عملًا بطاعة الله تعالى، وتركًا لشهوات يسيرة فانية.الدرر السنية موسوعة التفسير.
"فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "220.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى : لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى السؤالَ عن الخمر والميسر، وكان في تَرْكهما إصلاحُ أحوالهم وأنفسهم، أمَر بالنَّظر في حال اليتامى؛ إصلاحًا لغيرهم ممَّن هو عاجزٌ أن يصلح نفْسَه، فيكون قد جمَعوا بين النَّفع لأنفسهم ولغيرهم.
عنِ ابنِ عبَّاسٍ لَمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"الأنعام: 152، و"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"النساء: 10، قال: اجتَنَب النَّاسُ مالَ اليتيمِ وطعامَه، فشَقَّ ذلك على المُسلِمينَ، فشكَوْا ذلكَ إلى النَّبيِّ، فأنزَل اللهُ"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ"البقرة: 220، إلى قوله"لَأَعْنَتَكُمْ"البقرة: 220.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم : 3671 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
أي: يسألُك المؤمنون يا محمَّد، عمَّا اشتدَّ عليهم فعله مع اليتامى؛ إذ كانوا يعزلون لهم طعامَهم؛ خوفًا من تناوله معهم، فإذا فضَل منه شيءٌ حبسوه لهم حتى يأكلوه أو يتغيَّر، فأخبَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبهم بأنَّ المقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموال اليتامى، بحفظها، واستثمارها، والاتِّجار فيها لهم، فإنْ لم تأخذوا أجرًا على قيامكم بذلك فذلك خيرٌ لكم وأعظمُ أجرًا، وإن أصبتم من أموالهم شيئًا في مقابل قيامكم بشؤونهم، كأنْ خالطتموهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فجائز- على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى-؛ لأنَّهم إخوانكم في الدِّين، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ : أي: إنَّ الله تعالى وإنْ أذِن للمؤمنين في مخالطة اليتامى على ما سبق ذِكرُه، إلَّا أنَّه خوَّفهم وحذَّرهم من أن تُسوِّل لهم أنفسُهم شيئًا من الخداع لأكل أموال اليتامى بالباطل، فالمعوَّل في ذلك على النيَّة، فمَن خلط مال اليتيم بماله يريد مصلحته، فالله يعلم نيَّته وسيُثِيبه على ذلك، وإنْ حصَل أنْ دخل عليه شيءٌ من ماله من غير قصْدٍ، ولا طمعٍ، فلا حرج عليه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم نيَّته، وأمَّا مَن قصد بتلك المخالطة التوصُّل بها إلى أكلِ ماله خديعةً، فالله عزَّ وجلَّ يعلم نيَّته، وسيعاقبه على ذلك.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: إنَّ هذا الحُكم إنَّما شُرِع رخصةً من الله تعالى وتوسعةً على عباده؛ وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خلط أموالهم بأموال اليتامى؛ وأمْرِهم بتقدير طعامهم تقديرًا دقيقًا، بحيث لا يَزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها، فيقعوا بذلك في ضيقٍ وحرج؛ ويعاقبهم ربُّهم إنْ تركوا أمره، أو ارتكبوا نهيه؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو قاهرٌ لكلِّ شيء، وَفْق ما تقتضيه حِكمته؛ إذ يضَعُ كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به، فيعاقب مَن يستحقُّ ذلك لعناده، ويشرِّع ما فيه الخير والرحمة لعباده. الدرر السنية موسوعة التفسير.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-05-2023, 02:04 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Post

من آية 221إلى آية 225.
"وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" 221.
قال ابن كثير:هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا من المشركات من عبدة الأوثان، ما دمن على شركهن، ثم إن كان عمومها مرادًا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خُص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله"وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ"المائدة:5.
فالمشركة فيها تفصيل:
*المشركة إن كانت وثنية، مثل مجوسية، مثل شيوعية، مثل وثنية تعبد القبور، هذه الزواج منها باطل، المسلم ما يحل له يتزوج المشركة.
يقول سبحانه في المشركات" لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " الممتحنة:10.
يروي عبد الله بن عمرو بن العاص"أنَّ مِرثدَ بنَ أبي مِرثدٍ الغنَويَّ كانَ يحملُ الأسارى بمَكَّةَ ، وَكانَ بمَكَّةَ بغيٌّ يقالُ لَها : عَناقُ وَكانت صديقتَهُ ، قالَ : جِئتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقُلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ، أنكِحُ عَناقَ ؟ قالَ فسَكَتَ عنِّي ، فنزلت "والزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ"النور:3. فدعاني فقرأَها عليَّ وقالَ : لا تنكِحْها"الراوي : عبد الله بن عمرو بن العاص - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود-الصفحة أو الرقم: 2051 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن زَواجِ البَغايا.
*أما إن كانت المشركةيهودية أو نصرانية أي من أهل الكتاب ، فهذه نكاحها جائز شرعًا صحيح إذا كانت محصنة معروفة بعدم الزنا. والتزوج من الكتابية تَرْكُهُ أولى بكلِّ حالٍ؛ لأنها قد تجره إلى دينِهَا، وقد تجر أولادَهُ إلى دينها وأخلاقِها، وقد تربيهم على الشر والكفر، فينبغي له أن لا يتزوجها وفي المسلمات غُنية وكفاية بحمد الله.ابن باز باختصار.
يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ: لَأَنْ يتزوَّج المؤمن بأمَة مملوكة لكنَّها مؤمنة، خيرٌ له من أن يتزوَّج امرأة حرَّة مشركة، وإن بلَغ الإعجاب بها مبلغًا؛ لشدَّة حُسنِها، أو عِظَم حسَبِها، أو شَرَفِ نَسبِها، أو كثرةِ مالها.
وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ: أي: حرَّم الله تعالى على المؤمنين أن يُزوِّجوا نساءَهم المؤمنات لرجالٍ مشركين، إلَّا إذا آمنوا ووحَّدوا الله تعالى بدخولهم في الإسلام، ولَأَنْ تزوجوهنَّ بعبدٍ مملوكٍ لكنه مؤمنٌ بالله تعالى، خيرٌ من أن تزوجوهنَّ برجلٍ حرٍّ مشرك، ولو بلغ إعجابكم به ما بلغ لحُسنه، أو حسبه، أو نسبه، أو ماله .
وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو يحق للمسلمة الرجوع إليه . فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب. قال الفخر الرازي: لا خلاف هاهنا في أن المراد به- أي بلفظ المشركين- الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة.
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ :أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال - وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل.
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ معطوف على " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ". أي أنه- سبحانه- يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه، وما نهاهم عنه فيتركوه.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة، تظلها السعادة، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ "222.
بعد أن أمر الله- المسلّم بأن يجعل التدين وحسن الخلق محط اختياره في الزواج، اتبع ذلك بإرشاده إلى بعض الآداب التي يجب عليه أن يسلكها مع زوجه حتى تكون علاقتهما قائمة على ما يقتضيه الطبع السليم والخلق القويم وحتى تكون في أعلى درجات التطهر والتنزه والعفاف.
"أنَّ اليَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، ولَمْ يُجَامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ، فَسَأَلَ أصْحَابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هو أذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ"البقرة: 222، إلى آخِرِ الآيَةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ فَبَلَغَ ذلكَ اليَهُودَ، فَقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أمْرِنَا شيئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بشْرٍ فَقالَا يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اليَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وكَذَا، فلا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ظَنَنَّا أنْ قدْ وجَدَ عليهمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُما هَدِيَّةٌ مِن لَبَنٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأرْسَلَ في آثَارِهِما فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أنْ لَمْ يَجِدْ عليهمَا."الراوي : أنس بن مالك- صحيح مسلم .
في هذا الحديثِ يَروي أنسُ بنُ مالِك رَضيَ اللهُ عنه أنَّ اليَهُودَ -وكانوا يَسكُنون المَدينةَ قبلَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانوا إذا حاضَتِ المرأةُ لم يأكُلوا معها ولم يُخالِطوها ولم يُساكِنُوها في بيتٍ واحدٍ، مُعتقِدينَ بنَجاستِها وهي على تلك الحالِ.فلما سأل الصحابة عن ذلك أنزلت هذه الآية.....
ومَعناها: يَسألُك أصحابُك منَ المُسلِمينَ -أيُّها النَّبيُّ- عن حُكمِ الحَيضِ، فقُل مُجيبًا إيَّاهم: الحَيضُ أذًى للرَّجلِ والمرأةِ، فاجتَنِبُوا في وقتِ الحيضِ جِماعَ الزَّوجاتِ وغيرَهنَّ ممَّن يَصِحُّ لكُم جِماعُهنَّ ممَّا ملَكَت أيمانُكم، ولا تَقرَبُوهنَّ بالوَطءِ إلَّا بعدَ أن يَنقطِعَ الدَّمُ عنهنَّ، ويَتطهَّرنَ منه بالغُسلِ الكامِلِ لجَميعِ البَدنِ، فإذا انقطعَ دمُ الحَيضِ وتَطهَّرَت منه الزَّوجاتُ؛ فجَامِعُوهنَّ على الوَجهِ الَّذي أباحَه الشَّرعُ لكُم؛ وهو أن تَكُونَ النِّساءُ طاهِراتٍ، وأن يَكُونَ الوَطءُ في الفَرجِ في القُبُلِ وليسَ في الدُّبُرِ؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ المُكثِرينَ منَ التَّوبةِ منَ المَعاصي، فكُلَّما عصَوا تابوا.
فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ:اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ:
أيِ: افعَلوا كلَّ شَيءٍ منَ المُباشَرةِ والاستمتاعِ ونحوِه دونَ الجِماعِ، فضلًا عن أن يُساكِنوهُنَّ ويُؤاكِلوهُنَّ.
فلمَّا عَلِمَ ذلك اليَهُودُ قالوا"ما يُرِيدُ هذا الرَّجلُ" يَقصِدون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" أنْ يَدَعَ من أمْرِنا شيئًا إلَّا خالَفَنا فيه!" أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعمَّدُ مُخالفَتَهم في كلِّ أمرٍ يَفعَلونَه.
فجاءَ الصَّحابيَّانِ أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ وعَبَّادُ بنُ بِشرٍ رَضيَ اللهُ عنهما إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالا"إنَّ اليَهُودَ تقولُ كذا وكذا" من كلامِهمُ البَذيءِ في حقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
"أفلا نُجامِعُهُنَّ؟" أي: أتَأمُرُنا بمُخالَفةِ اليَهودِ فيهنَّ المُخالَفةَ التَّامَّةَ، فنُجامِعُهنَّ في حالةِ الحَيضِ، وإنَّما حمَلَهما على ما قالا؛ شِدَّةُ بُغضِهما لليَهودِ، فأرادا إدخالَ الغَيظِ عليهم بذلك، فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ظَنَّ المَوجودون عنده أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَضِبَ منهما، وتَغيُّرُ وَجه رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قولِ أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ وعَبَّادِ بنِ بِشرٍ، إنَّما كان ليُبيِّنَ أنَّ الحاملَ على مَشروعيَّةِ الأحكامِ إنَّما هو أمرُ اللهِ ونَهيُه، لا مُخالَفةُ أحدٍ ولا مُوافقتُه كما ظنَّا.
ثُمَّ لَمَّا خرَجَا من عندِه وترَكاه على تلك الحالِ، خافَ عليهما أن يَحزَنَا، وأن يَتكدَّرَ حالُهما، فاستَدرَك ذلك، وأزال عنهما ما أصابهما، بأن أرسَل إليهما فسَقَاهما لَبَنًا قد جاءَه هديَّةً، فَعَرَفَا أنَّه لم يَغضَبْ عليهما.
وفي الحديثِ: رِفقُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأصحابِه وحِلمُه معهم، وأنَّه لا يَغضَبُ إلَّا للهِ.
وفيه: بيانُ أنَّ الشَّرعَ كلَّه وَحيٌ وأمرٌ منَ اللهِ تَعالَى.الدرر السنية.
وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ:
فاجتَنِبُوا في وقتِ الحيضِ جِماعَ الزَّوجاتِ وغيرَهنَّ ممَّن يَصِحُّ لكُم جِماعُهنَّ ممَّا ملَكَت أيمانُكم، ولا تَقرَبُوهنَّ بالوَطءِ إلَّا بعدَ أن يَنقطِعَ الدَّمُ عنهنَّ، ويَتطهَّرنَ منه بالغُسلِ الكامِلِ لجَميعِ البَدنِ، فإذا انقطعَ دمُ الحَيضِ وتَطهَّرَت منه الزَّوجاتُ؛ فجَامِعُوهنَّ على الوَجهِ الَّذي أباحَه الشَّرعُ لكُم؛ وهو أن تَكُونَ النِّساءُ طاهِراتٍ، وأن يَكُونَ الوَطءُ في الفَرجِ في القُبُلِ وليسَ في الدُّبُرِ.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ: قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعي لعقاب الله- تعالى. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ : أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث. ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.
"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "223.
إنَّ مِن عظَمةِ هذا الدِّين ومَحاسِنِه أنَّه ما ترَكَ لنا شيئًا إلَّا وبيَّنه لنا، حتَّى ما يَتعلَّقُ بالمعاشَرةِ الزَّوجيةِ، كما قال تعالَى"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ"النحل: 89، وهذا ممَّا يدُلُّ على شُموليَّةِ هذا الدِّينِ.
سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عنْه قَالَ: كَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إذَا جَامعهَا مِن ورَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أحْوَلَ، فَنَزَلَتْ"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"البقرة: 223."الراوي : محمد بن المنكدر - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 4528.
في هذا الحديثِ يُخبرُ جابرُ بنُ عبد اللهِ رضيَ الله عنهما أنَّ اليهودَ كانت تَقولُ: إذا جامعَ الرَّجُلُ امرأتَه مِن ورائِها في مَوضِعِ الحَرثِ -القُبُل، جاء الولدُ أحوَلَ، فأنزَلَ اللهُ تعالَى قَولَه"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"البقرة: 223؛ تكذيبًا لهم، فأباح للرِّجالِ أن يَتمَتَّعوا بنِسائِهم كيف شاؤوا، أي: فأْتوهنَّ كما تَأتون أرضَكم التي تُريدون أنْ تَحرُثوها مِن أيِّ جِهةٍ شِئتُم، لا يُحظَرُ عليكم جِهةٌ دونَ جِهةٍ، والمعنى: جامِعوهنَّ مِن أيِّ شِقٍّ أردتُم بعْدَ أنْ يكونَ المأتيُّ واحدًا، وهو مَوضِعُ الحَرثِ، وهذا من الكنايات اللَّطيفةِ والتَّعريضات المُستحسَنة، وقيَّد بالحرثِ لِيُشيرَ إلى عدَم تجاوُزِ مَوضِعِ البَذرِ ألبتَّةَ، فلا يجامِعُها في دُبُرِها.
وفي الحَديثِ: عِنايةُ الإسلامِ بالأُمورِ الدَّقيقةِ التي يَحتاجُ إليها كلُّ فرْدٍ.
وفيه: التَّحذيرُ مِن مُجاوَزةِ الجِماعِ في القُبلِ.الدرر السنية.
وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:
أي: عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب بالقيود الشرعية , وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم. " وَاتَّقُوا اللَّهَ" واجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وعذابه حاجزًا يَقِيكم ذلك بتجنُّب الشرور والسيِّئات، وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ : وكونوا على يقين تامٍّ من أنكم ستلاقون الله تعالى يوم القيامة، وأنه مُجازٍ كلًّا منكم بعمله، إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: وبشِّر المؤمنين يا محمَّد بما يسرُّهم فالمؤمنون الذين يحبُّون لقاء الله تعالى، ويُعِدُّون للأمر عُدَّتَه، سيهنَؤون بلقائه سبحانه، وما يُقدِّموا لأنفسهم من خيرٍ سيجدونه عند الله عزَّ وجلَّ، ويُكرِمهم بدخول جنَّته. كما قال تعالى"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا "المزمل: 20
"وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِوَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"224.
عُرْضَةً بمعنى النصبة التي تتعرض للسهام: لا تجعلوا- أيها المؤمنون- اسم الله- تعالى- هدفًا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل.
فبعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره - ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعًا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس. أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعًا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيمًا لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابًا دون الخير، فكثيرًا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرًا، أو أن يفعل كذا ويكون شرًا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحري وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين.
"أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى أَهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قدْ نَامُوا، فأتَاهُ أَهْلُهُ بطَعَامِهِ، فَحَلَفَ لا يَأْكُلُ مِن أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمَّ بَدَا له فأكَلَ، فأتَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ"مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ".الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 1650.
يعني: مَن حَلفَ يمينًا جزْمًا، ثُمَّ ظَهَر له أمرٌ فِعْلُه أفضلُ مِن إبرارِ يَمينِه وظَنَّ الخيْرَ في غيرِ ما حَلَف به، فَلَيَفعَلْ ذلكَ الأمرَ، ويُكفِّرْ بعْدَ فِعلِه.
وقدْ ذُكِرتْ كفَّارةُ اليَمينِ على التَّرتيبِ في قولِ اللهِ تَعالَى"لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ"المائدة: 89، فمَن لم يَستطعِ الإطعامَ أو الكسوةَ أو العِتقَ؛ فلْيَصُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ.الدرر السنية.
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه " إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، ومنه سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده فعليكم أن تراقبوه في السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين.
"لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ"225.
استئناف بياني، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عنِ التسرعِ في الحلفِ، أو عن اتخاذ الأيمان حاجزًا عن عمل الخير، كانت نفوس السامعين مشوقة إلى حكم اليمين التي تجري على الألسنة بدون قصد.
لَّا يُؤَاخِذُكُمُ :والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة أو المعاقبة أو الإلزام بالوفاء بها. بِاللَّغْوِ :واللغو من الكلام: الساقط الذي لا يعتد به ولا يصدر عن فكر وروية.
والمعنى: لا يعاقبكم الله- تعالى- ولا يلزمكم بكفارة ما صدر عنكم من الأيمان اللاغية فضلًا منه- سبحانه- وكرمًا.
واليمين اللغو هي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير قصد.

ثم بين- سبحانه- اليمين التي هي موضع المحاسبة والمعاقبة فقال:وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ: أي يعاقبكم في الآخرة بما قصدته قلوبكم وتعمدتم فيه الكذب في اليمين، بأن يحلف أحدُكم على شيء كذب ليعتقد السامع صدقه، وتلك هي اليمين الغموس- أي التي تغمس صاحبها في النار- ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور والكاذبون عند التقاضي ومن يشابههم في تعمد الكذب.
ويرى جمهور العلماء أن هذه اليمين لا كفارة فيها وإنما كفارتها التوبة الصادقة ورد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على اليمين الكاذبة ضياع حق أو حكم بباطل.ويرى الإمام الشافعي أنه يجب فيها فوق ذلك الكفارة.

وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ: تذييل لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو. أي والله غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو ،حليم حيث لم يعاجل المخطئين بالعقوبة.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-14-2023, 09:39 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Post

من آية 226إلى آية 232.
"لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "226. "وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"227.
وبعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة، عَقَّبَ- سبحانه- ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة .
الإيلاءُ لُغةً: اليَمينُ أو الحَلِفُ، يقالُ: آلَى، أي: حَلَف.ومنه قوله تعالى"وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" النور:22.
وَلا يَأْتَلِ : أي: لا يحلف.كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرًا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له.
الإيلاءُ اصطِلاحًا: الحَلِفُ على الامتِناعِ مِن وَطءِ الزَّوجةِ مُطلَقًا أو أكثَرَ مِن أربعةِ أشهُرٍ.
فقدكان الرجل من أهل الجاهلية يحلف على ألا يمس امرأته السنة والسنتين، والأكثر من ذلك يقصد الإضرار بها فيتركها لا هي زوجة ولا هي مطلقة فأراد المولى -عز وجل- أن يضع حدًّا لهذا العمل الضار فوَقَّته بمدة أربعة أشهر، ليتروى فيها الرجل لعل وعسى يرجع إلى رشده فإن رجع في تلك المدة أو في آخرها بأن حنث في اليمين ووطء زوجته وكفر عن يمينه فيها وإلا طلق.
الإيلاء شرعًا:عرفه حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس كما في فتح القدير للشوكاني بقوله: هو الرجل يحلف لامرأته بالله أن لا ينكحها، فتتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفرّ عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره السلطان: إما أن يفيء، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه وتعالى" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ "البقرة:226-227. والله أعلم.
تَرَبُّصُ : والتربص التلبث والانتظار والترقب.
فَاءُوا : و فَاءُوا معناه رجعوا. والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل.
فإذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته، ثم بدا له أن يأتيها قبل مضي الأربعة أشهر، فله ذلك ويُكفِّر عن يمينه؛ روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ، ولْيَفْعَلْ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 1650 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : أي فإن فاؤا إلى زوجاتهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها بالابتعاد عنهن، بأن كفروا عنها وتابوا إلى ربهم فحنثهم مغفور لهم لأنه- سبحانه- غفور لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، رحيم بعباده في كل أوامره وتكاليفه.
والفيئة والرجوع إلى زوجته, أحب إلى الله تعالى, ولهذا قال" فَإِنْ فَاءُوافَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ " يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف, بسبب رجوعهم. " رَحِيمٌ " حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة, ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك, ورحيم بهم أيضًا, حيث فاءوا إلى زوجاتهم, وحنوا عليهن ورحموهن. لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة.
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ: أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة،أي: امتنعوا من الفيئة, فكان ذلك دليلًا على رغبتهم عنهن, وعدم إرادتهم لزوجاتهم, وهذا لا يكون إلا عزمًا على الطلاق.
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: فإن الله سميع لإيلائهم ، عليم بنياتهم، ويعلم ما في قلوبهم من قصد، لا يخفى عليه شيء جلَّ وعلا فليراقبوه فيما يفعلون،فإن قصد الطلاق عازمًا عليه فليبادرْ به فورًا، ولا يقصد الإضرار بها بتعليقها ، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله، والباعث على الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم.
تعليق الإيلاء بالمشيئة:
إذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته مدة أكثر من أربعة أشهر، وقال بعدها مباشرة: إن شاء الله، فإن هذا لا يكون إيلاءً؛ فاليمين المعلقة بالمشيئة لا حنث فيها.للحديث:عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ عليهما السَّلامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بمِئَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا يُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ، فقالَ له المَلَكُ: قُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ ونَسِيَ، فأطافَ بهِنَّ، ولَمْ تَلِدْ منهنَّ إلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إنْسانٍ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وكانَ أرْجَى لِحاجَتِهِ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 5242 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ ..... أيْ: واللهِ لَأُجامِعَنَّ.
الفرق بين الظهار والإيلاء: الظَّهار هو أن يقول الرجل لزوجته : أنتِ عليّ كَظَهر أمي ، ونحو ذلك مما يُحرِّم الزوجة على زوجها ، وهذا القول سماه الله مُنكرًا من القول وزورًا ، فقال تعالى "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ"المجادلة:2 .
ومن قال مثل هذا القول فلا يجوز له أن يَقْرَب أهله إلا بعد أن يُكفِّر كفارة مُغلّظة ، لقوله تعالى "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ"المجادلة: 3/4 .
والإيلاء بِيَدِ صاحبه ، متى ما شاء رَجَع عنه ، فإن رَجَع عنه قبل انتهاء المدّة كَفَّر عن يمينه ، وإن رَجَع بعد انتهاء المدة لم يُكفِّر .
إلا أنه لا يجوز أن يتعدّى الإيلاء أربعة أشهر ، لقوله تعالى "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"البقرة: 226.الشيخ عبد الرحمن السحيم.
يتضح من هذه الآية الكريمة أن مدة الإيلاء تكون أكثر من أربعة أشهر، وهذا قول جمهور العلماء، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لا يكون موليًا؛ الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي، جـ3، ص:108 -المغني؛ لابن قدامة، جزء11، صفحة: 8.
وبهذه الأحكام السامية يكون الإسلام قد شرع للرجل والمرأة ما ينفعهما ويصون كرامتهما، ويحفظ لهما حريتهما وحسن استمتاعهما بالحياة.
ثم ساقت السورة في خمس آيات أحكام الطلاق، وفصلت أحواله، وبينت مَرَّاتَهُ، وذَكَرَتْ ما ينبغي أن يكون عليه من عدل وتسامح حتى لا يقع ظلم أو جور على أحد الزوجين.
"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍوَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "228.
قوله تعالى" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ " معطوف على ما قبله لشدة المناسبة، وللاتحاد في الحكم وهو التربص الذي سبقت الإشارة إليه في قوله "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ".والتربص: التأني والتريث والانتظار.والمعنى: أن على المطلقات أن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء أيينتظرن: ثلاث حيض، أو ثلاثة أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ،بدون نكاح – فترة العِدة- ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت.
والمراد بالمطلقات هنا المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن غيرهن قد بين الله- تعالى- عدتهن في مواضع أخرى.والمتوفى عنها زوجها بيَّنَ اللهُ عدتها بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ."البقرة:234.
ومن لا يحضن ليأس من الحيض، أو لأنهن لم يرين الحيض فقد بين الله- تعالى- عدتهن بقوله" وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ..."الطلاق:4.أي: واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر.
وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ :، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ، منها: العلم ببراءة الرحم، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء، علم أنه ليس في رحمها حمل، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن " مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " وحرم عليهن، كتمان ذلك، من حمل أو حيض، لأن كتمان ذلك، يفضي إلى مفاسد كثيرة.
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ:أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازَى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا :أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة،وهذه حكمة أخرى في هذا التربص، وهي: أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها، فجعلت له هذه المدة، ليتروى بها ويقطع نظره. أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ:أي: وللنساء على بعولتهن أي أزواجهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.والمراد بالمماثلة- كما يقول الآلوسي- المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال .تفسير الآلوسي .
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف، وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال، والأشخاص والعوائد.
ولقد قام السلف الصالح بأداء هذه الحقوق على أحسن وجه فقد روى عن ابن عباس أنه قال: إنى لأحب أن أتزين لامرأتى كما تتزين لي لأن الله. تعالى- يقول" وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ".أي: أن يحب أن يؤنسها وأن يدخل السرور على قلبها كما أنه يحب أن تفعل له ذلك.
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: لهن عليهم مثل الذي لهم عليهن، وللرجال على النساء مزية وزيادة في الحق، بسبب حمايتهم لهن، وقيامهم بشئونهن ونفقتهن وغير ذلك من واجبات وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، فجعل له الرياسة، ولذا قال- سبحانه" الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ..." النساء:34 .هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقًا وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر الآية، فإذا كان للرجل فضل درجة فعليه فضل واجب . وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:أي غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه وسائر ما يكلف به عباده. فعلى الرجل والمرأة أن يطلبا عزهما فيما شرعه الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، وعليهما كذلك أن يتمسكا بما كلفهما به، لأنه ما كلفهما إلا بما تقتضيه الحكمة، ويؤيده العقل السليم.الوسيط.
"الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "229.
كان الطلاق في الجاهلية، واستمر أول الإسلام، يطلق الرجل زوجته عدد بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها، طلقها، فإذا شارفت انقضاء عدتها، راجعها، ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدًا، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم، فأخبر تعالى أن "الطَّلاقَ " أي: الذي تحصل به الرجعة " مَرَّتَانِ" قال الفخر الرازي: والحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أولا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله- تعالى- الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن يظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت- سبحانه- حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك يكون قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة مرتين وعرف حال قلبه في ذلك الباب. فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها – أي طلاقها - سرحها على أحسن الوجوه، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعباده" .ا.هـ.
ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان ، فلهذا أمر تعالى الزوج، أن يمسك زوجته "بِمَعْرُوفٍ " أي: عشرة حسنة، ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم، وهذا هو الأرجح، وإلا يسرحها ويفارقها " بِإِحْسَانٍ " ومن الإحسان، أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها، لأنه ظلم، وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء، فلهذا قال" وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ"ولا يجوز لكم أيها المطلقون أن تأخذوا من زوجاتكم في مقابلة الطلاق شيئًا مما أعطيتموهن من صداق أو من غيره من أموال، لأن هذا الأخذ يكون من باب الظلم الذي نهى الله عنه، وليس من باب العدل الذي أمر الله به.ثم استثنى- سبحانه- صورة يجوز فيها الأخذ فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ " أي: إنَّه لا يحِلُّ لكم- أيُّها الرِّجال- إذا أردتم طلاق زَوجاتكم أنْ تأخذوا ممَّا أعطيتموهنَّ شيئًا من المهر أو غيره، إلَّا في حالة واحدة وهي أن يَخشَى الزَّوجانِ، أو أولياؤهما كأقاربهما، من عدمِ قِيام كلِّ واحدٍ منهما بما له على الآخَر من حقوق، وذلك كأنْ تُبغِضَ الزوجةُ زوجَها، ولا تَقدِرَ على مُعاشرتِه؛ لسوء خُلُقه، أو لغير ذلك من أسباب، فتَخشى هي أو غيرها من عدم القيام بحقوق زوجها على الوجه المأمورِ به شرعًا، ويخشى الزَّوج أو غيره من عدم القيام بحقوق زوجته؛ بسبب نُفورِها منه، وبُغضها له، أو تَقصيرِها نتيجةَ ذلك في حقوقه- فلها حينئذٍ أن تُخالعه، أي: تطلُب منه فراقَها مُقابلَ عِوَض تُقدِّمه له،والجناح: الإثم من جنح بمعنى مال عن القصد- وسمى الآثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل-. يقال جنحت السفينة أى مالت إلى أحد جانبيها. فلا حرجَ ولا إثم عليها في دفْعه، ولا حرجَ ولا إثم عليه في قَبوله وأخْذه. لأنه عِوَض لتحصيل مقصودها من الفُرْقَة، وفي هذا مشروعية الخُلْع، إذا وجدت هذه الحكمة.
أنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ، ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولَا دِينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"الراوي : عبد الله بن عباس -صحيح البخاري.
تَكْرَهُ الكُفرَ في الإسْلامِ. والمَعنى: أنَّها تُبغِضُه لِدَمامَتِه، وَقُبْحِ صُورَتِه، وتَخْشى أنْ يُؤَدِّيَ بها هَذا النُّفورُ الطَّبيعِيُّ مِنهُ إلى كُفرانِ العَشيرِ، والتَّقصيرِ في حَقِّ الزَّوجِ، والإساءةِ إلَيه، وارتِكابِ الأفْعالِ الَّتي تُنافي الإسلامَ مِنَ الشِّقاقِ والخُصومةِ والنُّشوزِ وَنَحوِها ممَّا يُتَوَقَّعُ مِثلُه مِن الشَّابَّةِ الجَميلةِ المُبغِضةِ لِزَوْجِها أنْ تَفعَلَه. فسألها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"أتَرُدِّينَ عليه حَديقَتَه؟" والمعنى: إذا كُنتِ تَكْرَهينَهُ، وَتَخشَينَ أنْ يُؤَدِّيَ بَقاؤُكِ في عِصمَتِه إلى أمرٍ مُخالِفٍ لِدينِ الإسلامِ، فَهَل تَفتَدينَ مِنهُ نَفْسَكِ بِمالٍ، فَتَرُدِّينَ عَلَيهِ بُستانَه الَّذي دَفَعَه لَكِ مَهْرًا؟ قالَتْ: نَعِمَ، أفعَلُ ذلك. فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزَوْجِها ثابتِ بنِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه"اقْبَلِ الحَديقةَ وَطَلِّقْها تَطْليقةً".
وفي الحَديثِ: تَسميةُ المُعامَلةِ السَّيِّئةِ لِلزَّوجِ كُفرًا؛ لِما فيها مِن الِاستِهانةِ بِالعَلاقةِ الزَّوجِيَّةِ، وَجُحودِ حُقوقِها المَشْروعةِ، وَهَذا يَدخُلُ في كُفرانِ العَشيرِ، وَيُنافي ما يَقتَضيهِ الإسلامُ.
وفيه: مشروعيَّةُ خَلعِ المرأةِ لِزَوجِها. الدرر السنية.
"تِلْكَ " أي ما تقدم من الأحكام الشرعية " حُدُودُ اللَّهِ "وحدود الله هي ما أوجبه- سبحانه للرجل على زوجته.ولها عليه. أي: أحكامه التي شرعها لكم، وأمر بالوقوف معها، " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " ومن يتعد هذه الحدود فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه.
"فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ "230.
لَمَّا كانت الرَّجعةُ والخُلع لا يصحَّانِ إلَّا قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها فلا يبقى شيءٌ من ذلك، ذكَرَ اللهُ حُكمَ الرَّجعةِ، ثم أتْبعه بحُكم الخُلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حُكمَ الطلقة الثالثة؛ لأنَّها كالخاتمة لهذا الأمر.أي: إذا طلَّق الرَّجُل امرأتَه الطلقة الثالثة، فإنَّها تحرُم عليه، وليس في مقدوره إرجاعُها، إلَّا أنَّها لو تزوَّجت بآخر، بعقدِ نكاحٍ صحيح، وجامعها الزوج الثاني وكان هذا الزواج واقعًا عن رغبةٍ حقيقية- قال ابن كثير: والمقصود أن الزوج الثاني يكون راغبًا في المرأة قاصدًا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج.ا.هـ، لا بقصد تحليل المرأة إلى زوجها الأوَّل، فلو طلَّقها زوجُها الثاني – بعد ذلك- وانقضَتْ عِدَّتُها، فلا حرجَ حينئذٍ أن يُنشِئَا- الزَّوج الأوَّل والمرأة- عَقْدَ نِكاحٍ جديدًا بينهما، شريطةَ أن يُوقِنا أو يغلب على ظنِّهما أن يتعاشرَا بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بحقوق الآخَر كما ينبغي.موسوعة التفسير بالدرر السنية.
"أنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ جَاءَتْ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وإنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ القُرَظِيَّ، وإنَّما معهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لَا، حتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ."الراوي : عائشة أم المؤمنين - صحيح البخاري
وإنَّما معهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ : تعني غير قادر على جماعها لضعفه كذبًا لأنها تريد زوجها الأول.ففي رواية أخري: فَقالَ زَوجُها – الثاني - عَبدُ الرَّحمنِ رضِيَ اللهُ عنه مُدافِعًا عن نَفْسِه"كَذَبَتْ واللهِ يا رَسولَ اللهِ كَذَبَتْ واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، ......، ولَكِنَّهَا نَاشِزٌ، تُرِيدُ رِفَاعَةَ..."صحيح البخاري.
والمراد بالعُسَيلة الجماع.
من حكم هذا التشريع الحكيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق زوجاتهم، وزجرهم عن التساهل في إيقاع الطلاق، فإن الرجل الشريف الطبع، العزيز النفس إذا علم أن زوجته لن تحل له بعد الطلقة الثالثة إلا إذا افترشها شخص آخر توقف عن إيقاع الطلاق، وتباعد عن التسرع والاندفاع وحاول أن يصلح ما بينه وبين أهله بالمعالجة الحكيمة التي تتميز بسعة الصدر وضبط النفس.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ:أي: وتلك الأحكام المذكورة عن الطلاق وعن غيره مما كلف الله به عباده يبينها ويوضحها بتلك الطرق الحكيمة لقوم يعلمون الحق، ويعملون بمقتضى علمهم.الوسيط.
وفي هذا من فضيلة أهل العلم، ما لا يخفى، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده، خاصًا بهم، وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده، معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.تفسير السعدي.
" وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "231.
وبعد أن بين- سبحانه- أن الزوج مخير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة، وذلك لتذكيره بأن الإمساك أفضل من التسريح، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سُدت طرق الإصلاح والمعالجة، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور.
أي: إذا طلَّقتم- أيُّها الرِّجال- نِساءَكم، طلاقًا لكم عليهنَّ فيه رجعةٌ- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْنَ انقضاء عدتهنَّ، وأشرفْنَ على بلوغ أجلهن ، قال القرطبي: معنى فَبَلَغْنَ قاربن بإجماع من العلماء،
أي فشارفت عدتهن على الانتهاء، وقاربت الانقضاء، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف. أى بما هو المعروف من شرع الله الحكيم، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة. وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أى فأمضوا الطلاق، وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق- سبحانه- بأن تؤدوا لهن حقوقهن ، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار.
ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم، لم طلقت امرأتك؟ فقال: إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله. وغير ذلك، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار.
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ:أي: لا يكُن إرجاعُكم لنسائكم مع قُرب انقضاء عِدَّتهن لأجْل المضارَّة بهنَّ؛ لئلَّا يتزوَّجْنَ بغيركم، أو لتطوِّلوا عليهنَّ مدَّة العِدَّة، أو لدفعها إلى ابتغاء طلب الخُلع منكم؛ كي تنالوا منهنَّ فدية في سبيل الخَلاص منكم، فكلُّ ذلك تجاوزٌ لما أمر الله تعالى به من إمساكهنَّ بمعروفٍ أو مفارقتهنَّ بإحسان، ومَن يَقُمْ بتلك الاعتداءات، فالضررُ عائدٌ عليه حقًّا، فبذلك يُكسب نفسه آثامًا، ويستحقُّ عقاب الله تعالى
وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا: أي: لا تَجعلوا ما أَنزل اللهُ تعالى لكم في كتابه، من تلك الأحكام العِظام، في موضع السُّخرية والاستهزاء واللَّعب بها، بحيث تتركون العمل بها تجرُّؤًا واستخفافًا؛ فالله تعالى لم يُنزلها عبثًا، بل أنزلها بالحقِّ والصِّدق والحكمة؛ لأجْل العمل على وَفْقها.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ : أي: اذكروا نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى عليكم، ومن ذلك نِعمة الإسلام وما يَحويه من أحكامٍ عِظام، فيها ما يدعو الزَّوجين لتجديد الوئام، أو المفارقة الحَسَنة بعد تَعذُّر الالتئام، فاذكروه سبحانه باللِّسان حمدًا وشكرًا، وبالقلب اعترافًا وتفكُّرًا، وبالجوارح سعيًا وعملًا- بطاعته، ومن تلك النِّعم ما أنزله الله تعالى من الوحي إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا يَشمل كتابَ الله عزَّ وجلَّ، وسُنَّةَ رسوله عليه الصَّلاة والسلام المشتملة على الحِكمة، - والضمير في بِهِ يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور. وجعل ضميرهما واحدًا لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها-الوسيط. والله تعالى يُذكِّركم بما أنزله، ترغيبًا بما يُليِّن قلوبَكم للخير، وترهيبًا بما يحذِّركم ويزجركم عن الشرِّ.موسوعة التفسير. الدرر السنية.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:أي: اتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في جميع أموركم، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالتزموا بأحكامه، ولا تتجاوزوا حدوده، وليكن معلومًا لديكم علمًا يقينيًّا أنَّ الله تعالى محيطٌ بكل شيء علمًا، لا يخفى عليه شيءٌ مطلقًا، فيعلم ما تأتون وما تذرون، ويُجازيكم على ذلك بحسَبه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ومِن كمال عِلمِه سبحانه أيضًا أنْ شرَع تلك الأحكامَ التي هي في غاية الإحكام، وصالحة في كلِّ زمان ومكان.
"وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"232.
هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العِدة، وأراد زوجها أن ينكحها، ورضيت بذلك، فلا يجوز لوليها، من أب وغيره - ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة-; أن يعضلها; أي: يمنعها من التزوج به حنقًا عليه; وغضبًا; واشمئزازًا لمِا فعلَ مِنَ الطلاقِ الأولِ.تفسير الشيخ السعدي.
وورد في تفسير المراغي: إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك، فلا تمنعوهنَّ من الزواج، إذا رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجًا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعًا وعادة، بألا يكون هناك محرّم ولا شيء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.ا.هـ.
وورد في تفسير الوسيط: والمعنى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي: انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين، وتقره العقول السليمة، ويجري به العرف الحسن.ا.هـ.
سبب نزول الآية:
عَنِ الحَسَنِ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ"البقرة: 232، قَالَ: حدَّثَني مَعْقِلُ بنُ يَسَارٍ أنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ؛ قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لي مِن رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حتَّى إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلتُ له: زَوَّجْتُكَ وفَرَشْتُكَ وأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا! لا واللَّهِ لا تَعُودُ إلَيْكَ أبَدًا، وكانَ رَجُلًا لا بَأْسَ به، وكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذِه الآيَةَ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ"البقرة: 232، فَقُلتُ: الآنَ أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ."الراوي : معقل بن يسار - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 5130 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
شرح الحديث: في هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ الحَسَنُ البَصرِيُّ عن سَبَبِ نُزولِ قَولِهِ تَعالى"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ" الوارِدُ في الآيةِ الكريمةِ.....؛ فذكر أنَّ الصَّحابيَّ مَعْقِلَ بنَ يَسارٍ المُزنيَّ -وكان من أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ رَضِيَ اللهُ عنه- أخبره أنَّها نزلت فيه؛ وذلك أنَّه زوَّج أُختًا له -واسمهُا جُمَيْل بنت يَسارٍ، وقيل: ليلى- مِن رَجُلٍ -اسمُه أبو البَدَّاح بنُ عاصمٍ-، فَطَلَّقَها طلاقًا رجعيًّا، فلَمَّا انتَهَتْ عِدَّتُها، وبانَتْ مِنه، جاءَ يَطلُبُ خِطبَتَها وتزوَّجَها مرةً أخرى، فرفض مَعقِلُ بنُ يَسارٍ رَضِيَ اللهُ عنه أن يُرجِعَها، وقال له مُتعجِّبًا مُستنكِرًا: زَوَّجْتُكَ وفَرَشْتُكَ، يعني: جَعَلْتُ أختي لك فِراشًا، وَأكرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَها، ثُمَّ جِئتَ تَخطُبُها! لا وَاللَّهِ لا تَعودُ إلَيكَ أبَدًا.
وَأخبر أنَّ زَوجَها كانَ رَجُلًا لا بَأسَ به، أي: حَسَن السُّمْعةِ، لا عَيبَ في دِينِه أو خُلُقِهِ، وَكانَت أُختُ مَعقِلٍ تَرغَبُ في العَودةِ إلَيهِ؛ لِأنَّها تُحِبُّهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ..."، أي: لا تَمنَعوهُنَّ مِن العَودةِ إلى أزواجِهِنَّ عِندَ انقِضاءِ عِدَّتِهنَّ، إذا رَغِبنَ في ذلك، فقال مَعقِلٌ رَضِيَ اللهُ عنه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الآنَ أَفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأعادَها إلَيهِ بِعَقْدٍ جَديدٍ.
وفي الحَديثِ: اعتبارُ قَولِ الوَليِّ بالنِّسبةِ للمَرأةِ في الزَّواجِ.
وفيه: النَّهيُ عن مَنعِ المرأةِ مِن أن تتزوَّجَ كُفْأً تُريدُه وترضى به.
وفيه: سُرعةُ استجابةِ الصَّحابةِ لأمرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.الدرر السنية.
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: أي: ذلك القول الحكيم، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به، ويستجيب له من كان منكم عميق الإيمان بالله- تبارك وتعالى- وبثوابه وبعقابه يوم القيامة.
ذلكم الذي شرعه الله لكم- أيها المؤمنون- من ترك عضل النساء والإضرار بهن وغير ذلك من الأحكام أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي أعظم بركة ونفعًا، وأكثر تطهيرًا من دنس الآثام، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة، ولم تُظلم في رغباتها المشروعة، التزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه.والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا.
وأتى- سبحانه - بضمير الجمع ذلِكُمْ بعد أن قال في صدر الجملة ذلِكَ للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعًا ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإسلام.
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ : رد على كل معترض على تطبيق شريعة الله، أو متهاون في ذلك بدعوى أنها ليست صالحة للظروف التي يعيش ذلك المعترض أو هذا المتهاون فيها، لأن شرع الله فيه النفع الدائم والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئًا، ويعلم ما هو الأنفع والأصلح للناس في كل زمان ومكان، ولم يشرع لهم- سبحانه - إلا ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم، وما دام عِلْم اللهِ- تبارك وتعالى- هو الكامل، وعِلم الإنسان عِلم قاصر، فعلينا أن نتبع شرع الله في كل شئوننا، ولْنَقُل لأولئك المعترضين أو المتهاونين: سيروا معنا في طريق الحق فذلكم أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.الوسيط.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 05-22-2023, 03:36 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Post

من آية 233إلى آية 235.

"وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "233.
بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة، وبين حرمة العضل على الأولياء - ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين.تفسير المراغي.
والمراد بالوالدات الأمهات سواء أكن في عصمة أزواجهن أم مطلقات لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضي تخصيصه بنوع من الأمهات. ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق، ولأن المطلقة عُرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه.الوسيط.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" الواجب على المرأة أن تحافظ على إرضاع أولادها وأسباب صحتهم ، وليس لها الاكتفاء بالحليب المستورد أو غيره إلا برضى زوجها بعد التشاور في ذلك ، وعدم وجود ضرر على الأولاد " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" 21/ 7 .
"بَينا أنا نائمٌ أتاني رجلانِ ، فأخذا بِضَبْعَيَّ فأتَيا بي جبلًا وعْرًا ، فقالا : اصعدْ . فقلتُ : إنِّي لا أُطيقُهُ . فقال : إنَّا سَنُسَهِّلُهُ لكَ ....... ثمَّ انطلقَ بي فإذا أنا بنساءٍ تنهشُ ثديَهُنَّ الحيَّاتُ . قلتُ : ما بالُ هؤلاءِ ؟ قيلَ : هؤلاءِ يمنعَنَ أولادَهنَّ ألبانَهنَّ ....."الراوي : أبو أمامة الباهلي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم : 2393 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.المحدث : الوادعي - المصدر : الصحيح المسند-
الصفحة أو الرقم : 1/412 .
شرح الحديث:رُؤيا الأنبياءِ حَقٌّ، وما يَراهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَنامِهِ يكونُ تعليمًا وإخْبارًا مِنَ اللهِ بأُمورٍ وأحْكامٍ خَفيَّةٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم"ثم انْطَلَقَ بي، فإذا أنا بنِساءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الحياتُ"، أي: تَلْسَعُ تَلْدَغُها بالسُّمِّ، "قلتُ: ما بالُ هؤلاءِ؟ قيل: هؤلاءِ يَمْنَعْنَ أوْلادَهُنَّ ألْبانَهُنَّ"، أي: لا يُرضِعْنَ أوْلادَهُنَّ بغيرِ عُذرٍ يَمْنَعْهُنَّ، وفيه: بيانُ خُطورَةِ امْتِناعِ الأُمَّهاتِ عن إرْضاعِ أوْلادِهِنَّ الرَّضاعةَ الطبيعيَّةَ، والزجرُ عنه إذا تَضرَّرَ الطفلُ بذلك، أو لم يَكُنْ له مُرضِعٌ، أو اكتفَى بالحليبِ الصِّناعيِّ دون أن يَتضرَّرَ به. الدرر السنية.
وعبر عن الأمهات بالوالدات، للإشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن، وأنهن الوعاء الذي خرجوا منه إلى الحياة، ومنهن يكون الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود الذي جاء عن طريقهن.
وعبر عن الطلب بصيغة الخبر، للإشعار بأن إرضاع الأم لطفلها عمل توجبه الفطرة، وتنادي به طبيعة الأمومة.
قال الجمل" وهذا الأمر للندب وللوجوب، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة، قدرة الأب على استئجار المرضع، ووجود من يرضعه غير الأم، وقبول الولد للبن الغير. ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط"حاشية الجمل على الجلالين
وبعد مضي أربعة عشر قرنًا من نزول الآية الكريمة نادت المنظمات الدولية والهيئات العالمية ، مثل هيئة الصحة العالمية التي تصدر البيان تلو البيان تنادي الأمهات أن يرضعن أولادهن ، بينما أمر الإسلام به منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان .الإسلام سؤال وجواب.
وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع. فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعًا وطمعًا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد.تفسير المراغي.
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ: الحول والعام يقعان على صيفة وشتوة كاملتين، والسنة تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله من العام التالي .وقوله كاملين تأكيد لذلك إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال: أقمت عند فلان حولين بمكان كذا، ويكون قد أقام حولًا وبعض الحول. وليس التحديد بالحولين للوجوب، لأنه يجوز الفطام قبل ذلك، بدليل قوله" لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ" وإنما المقصود بهذا التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فإذا اتفق الأب والأم على أن يفطما ولدهما قبل تمام الحولين كان لهما ذلك إذا لم يتضرر الولد بهذا الفطام، وإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترضَ الأم أو العكس لم يكن لأحدهما ذلك. الوسيط.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا:الْمَوْلُودِ لَهُ : يعني الأب , قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم قيل الْمَوْلُودِ لَهُ دون الوالد؟ قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات .
وعلى الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهن من نفقة وكسوة بالمعروف أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء بدون إسراف أو تقتير، لتقوم بخدمته حق القيام. فالإنفاق على المرضعة في الحقيقة نفقةٌ له ، جاء في شرح منتهى الإرادات " وعلى من تلزمه نفقة صغيرٍ ذكرًا كان أو أنثى نفقة مُرْضِعَتِهِ ؛ لأن الطفل إنما يتغذى بما يتولد في المُرْضِعَة من اللبن وذلك إنما يحصل بالغذاء ، فوجبت النفقة للمرضعة لأنها في الحقيقة له " المفصل في أحكام المرأة 9/464.
وقوله: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا :تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف.
ثم بين العلة في تشريع الأحكام السابقة بقوله تعالى :
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ:والمعنى: لا ينبغي أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها، بأن يستغل الأب حنوها على وليدها فيمنعها شيئًا من نفقتها، أو يأخذ منها طفلها وهي تريد إرضاعه، أو يكلفها بما ليس في مقدورها أو ما يخالف وظيفتها، ولا ينبغي كذلك أن يقع ضرر على الأب بسبب ولده، بأن تكلفه الأم بما لا تتسع له قدرته مستغلة محبته لولده وعنايته بتنشئته تنشئة حسنة.الجملة الكريمة توجيه سديد، وإرشاد حكيم، للآباء والأمهات إلى أن يقوم كل فريق منهم بواجبه نحو صاحبه ونحو الأولاد الذين هم ثمار لهم.
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ: أي: على وارث الطفل إذا عُدِمَ الأب, وكان الطفل ليس له مال, مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين, على القريب الوارث الموسر.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال. وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة.. وخلق كثير. وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي ... وقال الشافعي المراد وارث الأب- يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبًا على الأب- وقيل المراد بالوارث الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم اللهم متعني بسمعي وبصرى واجعلهما الوارث مني" تفسير الآلوسى .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة، فالقادر ينفق على العاجز، والغني يمد الفقير بحاجته، وبذلك تسعد الأسرة، وتسودها روح المحبة والمودة.
فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا :معطوف على قوله" يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ " لأنه متفرع عنه. والضمير في قوله " فَإِنْ أَرَادَا" يعود على الوالدين.قال القرطبي: والفصال والفصل. الفطام وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي.والمعنى: فإن أراد الأبوان فطامًا لولدهما قبل الحولين، وكانت هذه الإرادة عن تراضٍ منهما وتشاور في شأن الصبي وتفحص لأحواله، ورأيَا أن هذا الفطام قبل بلوغه الحولين لن يضره فلا إثم عليهما في ذلك.فدلت الآية بمفهومها, على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر, أو لم يكن مصلحة للطفل, أنه لا يجوز فطامه.
وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ :أي: وإن أردتم- أيها الآباء- أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، ورضي الأمهات بذلك، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن بالطريقة التي يقرها الشرع، وتستحسنها العقول السليمة، والأخلاق القويمة.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ :أي: اتقوا الله في كل شؤونكم والتزموا ما بيَّنَهُ لكم من أحكام، واعلموا أن الله- تعالى- لا تخفى عليه أعمالكم، فهو محصيها عليكم، وسيجزي المحسن إحسانًا والمسيء سوءًا.
"وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" 234.
والمعنى: والذين يتوفاهم الله- تعالى- منكم- أيها المسلمون- ويتركون من خلفهم أزواجًا-والزوج يطلق على الذكر والأنثى كما قال تعالى" وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ" - فعلى هؤلاء الأزواج اللائي ارتبطن برجالهم ارتباطا قويا متينا ثم فرق الموت بينهم وبينهن، عليهن أن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أي: عليهن أن ينتظرن انقضاء عدتهن فيحبسن أنفسهن عن الخروج من منزل الزوجية إلا للأعذار المبيحة لذلك ، وعن الزواج وعن التزين وعن التعرض للخطاب مدة أربعة أشهر وعشر ليال، وفاء لحق الزوج المتوفى، واستبراء للرحم.وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة من الحيض .قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: هذا أمر من الله- تعالى- للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال. وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بالإجماع.ا.هـ.
ولقد ألغى الإسلام بهذا التشريع عادات جاهلية ظالمة للمرأة فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها تغلق على نفسها مكانا ضيقا في بيتها وتقضى فيه عاما كاملا حدادا على زوجها فأبطل الإسلام ذلك.الوسيط.
"جاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ ابْنَتي تُوُفِّيَ عَنْها زَوْجُها، وقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُها، أفَنَكْحُلُها؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لا، مَرَّتَيْنِ، أوْ ثَلاثًا، كُلَّ ذلكَ يقولُ: لا، ثُمَّ قالَ: إنَّما هي أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ، وقدْ كانَتْ إحْداكُنَّ في الجاهِلِيَّةِ تَرْمِي بالبَعْرَةِ علَى رَأْسِ الحَوْلِ".
الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم : 1488 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
تَرْمِي بالبَعْرَةِ علَى رَأْسِ الحَوْلِ: بِبَعرةٍ -وهي مخلَّفاتُ البهائِمِ بعد أن تَيبَسَ وتَجِفَّ-؛ لِتُعلِنَ أنَّ إحْدادَ سَنةٍ عَلى زَوجِها أهوَنُ عَلَيها مِن رَميِ تِلكَ البَعْرةِ، ثم تَخرُجُ مِن إحْدادِها. وقيل: فيه إشارةٌ إلى أنها رمت العِدَّةَ رَميَ البَعرةِ.الدرر السنية.
وقد حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام.قال الشيخ العثيمين : الحداد المشروع الواجب هو حداد المرأة على زوجها، أما حدادها على غير الزوج فهذا لا يجوز إلا لثلاثة أيام فأقل، وما زاد عن الأيام الثلاثة فإنه حرام، ولا يحل لها أن تفعل ذلك.ا.هـ.
"لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ، دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بصُفْرَةٍ في اليَومِ الثَّالِثِ، فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا، وذِرَاعَيْهَا، وقالَتْ: إنِّي كُنْتُ عن هذا لَغَنِيَّةً، لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، فإنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا."الراوي : أم حبيبة أم المؤمنين - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 1280 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وهذا الحكم خاص بغير الحوامل، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى" وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ "الطلاق:4. سواء كنَّ مطلقات أو مُتوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ.
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ : أي: إذا انقضت مدَّة عدَّة المرأة المتوفَّى عنها زوجها، فلا حرج على أوليائها فيما تفعله في نفسها من تزيُّن وتطيُّب ونِكاح حلال، والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفًا. وغير ذلك ممَّا أباحه الله تعالى لها.وفي قوله تعالى " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ" دليل على أن الولي ينظر على المرأة, ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب, وأنه مخاطب بذلك, واجب عليه.تفسير السعدي.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ :أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى عالِمٌ ببواطنكم، ومطَّلعٌ على حقائق أعمالكم؛ فأقِيمُوا أحكامه ولا تخالفوها، فإنَّه مجازيكم عليها.فإذا وقفتم أنتم ونساؤكم عند حدوده أسعدكم في الدنيا وأجزل مثوبتكم في الآخرة، وإن تجاوزتم حدوده عاقبكم بما تستحقون "يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".الشعراء:88.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت للناس أفضل وسائل الحياة الشريفة، فأرشدت المرأة التي مات عنها زوجها إلى ما يحفظ لها كرامتها، ويدفع عنها ما يتنافى مع العفة والشرف والوفاء.ثم بيَّن- سبحانه- حكم الخطبة للنساء المعتدات بيانًا يقوم على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال- تعالى في الآية التالية:
"وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" 235.
هذا حكم المعتدة من وفاة, أو المبانة في الحياة، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة.وأما التعريض, فقد أسقط تعالى فيه الجناح. ومن أمثلة التعريض عمومًا أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلّم عليك.. وهو يقصد عطاءه.والفرق بين التصريح والتعريض: أن التصريح, لا يحتمل غير النكاح, فلهذا حرم, خوفًا من استعجالها, وكذبها في انقضاء عدتها, رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم, وقضاء لحق زوجها الأول, بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها. وأما التعريض, وهو الذي يحتمل النكاح وغيره, فهو جائز للمرأة البائن.كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة، لأن مثل هذا مما يتعسر الاحتراز منه، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله:
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ : أي سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهنَّ بما انطوت عليه جوانحكم، ومِنْ ثَمَّ رخص لكم في التعريض دون التصريح، فعليكم أن تقفوا عند حدّ الرخصة ولا تتجاوزوها.
يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة ، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة ـ المطلقة ثلاثا ـ يجوز التعريض لها كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها
"فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ له أنَّ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فلا يَضَعُ عَصَاهُ عن عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ له، انْكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فيه خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بهِ."الراوي : فاطمة بنت قيس - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم .
فأما المطلقة غير المبتوتة – أي المطلقة طلقة رجعية- فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها.
وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا :أي لا تواعدوهن وعدا سريا بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع. و لا تواعدوهن على الزواج في السر، فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنّة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عُقباه.
والخلاصة - إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة - والمعتدة من طلاق بائن - في أمر الزواج سرّا، أو يتواعدوا معهنَّ عليه، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن، ولا يعدّونه خارجا من الاحتشام مَعَهُنَّ.
وفائدة ذلك - أن يكون تمهيدًا لهن، حتى إذا أتمت إحداهن العِدة كانت عالمة بمن يرغب فيها، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل.
وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ :
العزم: القطع والتصميم، يقال عزم على الشيء إذا صمم وعقد القلب على فعله.والنهي عن العزم على عقد النكاح نهي بالأولى عن إبرامه وتنفيذه، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى، فهو كالنهي عن الاقتراب من حدود الله في قوله" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها" سورة البقرة:187. لأن النهي عن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين، ونهت عن شيئين: أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها.ونهت عن المواعدة سرًا. ونهت عن العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ :أي: اعلموا أيها الناس أن الله- تعالى- يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر، أو تفعلوا ما هو منكر، واعلموا أنه- تعالى- غفور لمن تاب وعمل صالحًا، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا.فالجملة الكريمة تحذير وتبشير، وترغيب وترهيب، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهى الله عنه، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا.الوسيط.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 05-25-2023, 05:00 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Arrow

من آية 236 إلى آية 239 .


"لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ"236.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها: لَمَّا جرَى الكلامُ في الآيات السَّابقةِ على الطلاقِ الذي تجِب فيه العِدَّة، وهو طلاقُ المدخول بهنَّ، عرَّج هنا على الطَّلاق الواقِع قبل الدُّخول.
لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً:أي: لا حرجَ عليكم في طلاقِكم النساءَ بعد العقدِ عليهنَّ لأسباب مشروعة، وبطريقة مُرضية ، وقبل أن تُجامعوهنَّ، وقبل أن تُوجِبوا لهنَّ مهرًا محدَّدًا.
والمس في أصل معناه: اللمس، ويقال فيما معه إدراك بحاسة اللمس، ثم أطلق على سبيل الكناية على ما يكون بين المرء وزوجه من جماع ومباشرة وعلى غير ذلك مما يكون فيه إصابة حسية أو معنوية.وهذه الكناية من ألطف الكنايات التي تربي في الإنسان حُسن الأدب، وسلامة التعبير، وتجنبه النطق بالألفاظ الفاحشة. وقد تكرر هذا التعبير المهذب في القرآن الكريم ومن ذلك قوله- تعالى- حكاية عن مريم" قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ." آل عمران :47 . الوسيط.
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً: فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز. فالمهر ليس شرطاً من شروط النكاح ولا ركنًا من أركانه فيصح عقد النكاح بدون تسميته، أو استلامه، هذا مذهب الجمهور، جاء في الموسوعة الفقهية: والمهر ليس شرطًا في عقد الزواج ولا ركنًا عند جمهور الفقهاء، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، فإذا تم العقد بدون ذكر مهر صح باتفاق الجمهور. وبالرغم من عدم اشتراط المهر لصحة النكاح إلا أنه حق خالص للمرأة فرضه الله لها على الزوج، وليس لأحد من أهلها أن يسقطه، والمطالبة به حق للمرأة. ومتى تزوج إنسان على غير مهر وجب للمرأة مهر المثل .
ويجوز أن يتزوج على تعليم المرأة شيئًا من القرآن أو الحديث أو شيئًا معلومًا من العلوم النافعة.للحديث الآتي:
"جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَتْ: إنِّي وهَبْتُ مِن نَفْسِي، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا إنْ لَمْ تَكُنْ لكَ بهَا حَاجَةٌ، قَالَ: هلْ عِنْدَكَ مِن شيءٍ تُصْدِقُهَا؟ قَالَ: ما عِندِي إلَّا إزَارِي، فَقَالَ: إنْ أعْطَيْتَهَا إيَّاهُ جَلَسْتَ لا إزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شيئًا فَقَالَ: ما أجِدُ شيئًا، فَقَالَ: التَمِسْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ فَلَمْ يَجِدْ، فَقَالَ: أمعكَ مِنَ القُرْآنِ شيءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا، وسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ: قدْ زَوَّجْنَاكَهَا بما معكَ مِنَ القُرْآنِ."الراوي : سهل بن سعد الساعدي - صحيح البخاري
ففيه:إكرامُ حاملِ القرآنِ، حيث زوَّج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المرأةَ للرَّجلِ؛ لأجْلِ كونِه حافظًا للقرآنِ أو لبَعضِه. ليعلِّم المرأةَ ما حفِظه من القرآن، ويكون تعلِيمُه ما حفظه من القرآن مهرًا لها.الدرر السنية.
وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم طلب المهرَ مِن طُرُقٍ؛ فهذا يدُلُّ على تعيُّنِه وإلزامِه، حتى طلَبَ سُوَرًا مِنَ القُرآنِ يُعَلِّمُها إيَّاها.الموسوعة الفقهية/الدرر السنية/مبحث حكم الصداق.
ثم بيَّنَ- سبحانه- ما للمرأة على الرجل في هذه الحالة فقال:
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ: فليس من حقهن عليكم في هذه الحالة أن يطالبنكم بالصداق، وإنما من حقهن عليكم أن تمتعوهن بأن تدفعوا لهن ما ينتفعن به كل على حسب حاله وطاقته، فالأغنياء يدفعون ما يناسب غناهم وسعتهم، والفقراء يدفعون ما يناسب حالهم. وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به الإنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك، ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه لتنتفع به، جبرًا لخاطرها، وتعويضًا لما نالها بسبب هذا الفراق.
مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ : أي أعطوهن ما يتمتعن وينتفعن به بالقدر المتعارف عليه بين العقلاء، فلا يعطي الغني ما لا يتناسب مع غناه ولا مع حال المرأة التي طلقها، ولا يعطي الفقير شيئًا تافهًا لا يسمى في عرف العقلاء متاعًا كما أنه لا يكلف فوق استطاعته، لأن المتاع ما سمي بهذا الاسم إلا لأنه يتمتع به وينتفع به لفترة من الزمان.تفسير الوسيط.
حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ: أي: هذا التمتيع حق ثابت على المحسنين الذين يحسنون إلى أنفسهم بامتثالهم لأوامر الله، وبترضيتهم لنفوس هؤلاء المطلقات اللاتي تأثرن بسبب هذا الفراق. فالآية الكريمة ترفع الإثم عن الرجال الذين يُطَلِّقُون النساءَ قبل الدخولِ بِهِنَّ وقبل تسمية المهر لهن، متى كانت المصلحة تستدعي ذلك، وتبين الحقوق التي للمرأة على الرجل في هذه الحالة.
ولا شك أن إنهاء الحياة الزوجية قبل الدخول فيها، لضرورات اقتضاها هذا الإنهاء، أخف وأيسر من إنهائها بعد الدخول فيها.
تعقيب: هذا، ويرى بعض العلماء أن المتعة واجبة للمرأة على الرجل في حال مفارقتها قبل الدخول بها وقبل تسمية المهر، لأن الآية الكريمة قد أكدت ذلك وجعلته حقا ثابتًا لا يجوز التحلل منه قال- تعالى"مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ".
ويرى بعضهم أنها مستحبة، لأن التعبير بالمحسنين يدل على أن المتعة غير واجبة وقد رجح المحققون من العلماء الرأي الأول وقالوا: إن الإحسان لا ينافي الوجوب الذي دل عليه الأمر يؤيد هذا قوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فقد جعل الله المتعة على الفريقين كل فريق على حسب طاقته وقدرته.تفسير الوسيط.
والحكمة في مشروعية المتعة: أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شيء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعًا حسنًا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَلِهِ لا من قِبَلِها ولا عِلَّة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانًا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبًا، أو رابه من أمرها شيء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.تفسير المراغي.
ثم بيَّن- سبحانه- حق المرأة فيما لو طُلِّقَتْ قبل الدخول بها وبعد تسمية مهر لها فقال- تعالى:
" وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "237.
أي: وإن طلقتم يا معشر الرجال النساء من قبل أن تدخلوا بهن وتباشروهن، ومن بعد أن قدَّرتم لهن صداقًا معلومًا، فالواجب عليكم في هذه الحالة أن تدفعوا لهن نصف ما قدرتم لهنَّ من صداق.
إِلَّا أَن يَعْفُونَ :أي إلا أن يعفو المطلقات أي تتنازل المرأة عن حقها فتتركه لمطلقها بسماحة ، فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئًا؟ خاصة إذا كانت هي الراغبة في الطلاق، فيسقط حينئذ ما وجب عليه، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة.
أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ : أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج -عند الأحناف والشافعية لأنه الذي بيده حل عقدته؛ ولأن الولي لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة, لكونه غير مالك ولا وكيل- أي: أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرمًا منه، وحينئذ تأخذ هي الصداق كاملا، النصف الواجب عليه، والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف. خاصة إذا كان هو الراغب في الطلاق.
ويرى المالكية أن الذي بيده عقدة النكاح هو ولي المرأة، لأنه هو الذي بيده عقدة النكاح ثابتة، وأما الزوج فله ذلك حالة العقد المتقدم فقط.
وبكون المعنى على هذا القول: عليكم يا معشر الرجال أن تدفعوا للنساء نصف المهر إذا طلقتموهن بعد أن قدرتم لهن مهرًا وقبل أن تمسوهن إلا أن يتنازل النساء عن هذا الحق، إذا كُنَّ يملكن ذلك، أو يتنازل أولياؤهن إن كن لا يملكن حق التنازل، كأن تكون البنت صغيرة، أو غير جائزة التصرف.وقد دل كل فريق على مذهبه بما هو مبسوط في كتب الفقه.
ثم حبب- سبحانه- إلى الناس التسامح والتعاطف فقال سبحانه:
وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى :
أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقي، والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابًا وأجرًا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب، وهذا ما بينه سبحانه بقوله: وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ : أي ينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة. وإذا حدث طلاق - كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوي الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شيء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطته بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضًا، ترغيبًا في المحاسنة والفضل، وترهيبًا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّي الإيمان وتبعث على الامتثال.
فالجملة الكريمة توجيه حكيم للناس إلى ما يدفع عنهم التشاحن والتباغض والتخاصم.
" حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ "238.
ولعل السر في توسط هاتين الآيتين بين آيات الأحكام التي تحدثت عن الطلاق، والعدة والرضاع والخطبة ... إلخ، لعل السر في ذلك أن هذه الأمور كثيرًا ما تكون مثار تنازع وتخاصم وتقاطع بين الناس، فأراد القرآن بطريقته الحكيمة، وبأسلوبه المؤثر أن يقول للناس:إن محافظتكم على الصلاة، ومداومتكم على طاعة الله وذكره كل ذلك سيعرض في نفوسكم المراقبة له- سبحانه، والخشية من عقابه، وسيعينكم على أن تحلوا قضاياكم التي تتعلق بالطلاق وغيره بالعدل والإحسان والتسامح والتعاطف، لأن من حافظ على فرائض الله وأوامره، انصرفت نفسه عن ظلم الناس، وعاملهم معاملة كريمة حسنة. وقد بيَّن القرآنُ في كثير من آياته أن المحافظة على الصلاة بخشوع وخضوع لله- تعالى- وأن المداومة على ذكره، والملازمة لطاعته كل ذلك من شأنه أن يمنع الإنسان من الوقوع فيما نهى الله عنه، قال- تعالى" اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " العنكبوت :45.
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ: تنبيه إلى أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس ثمين تجب المحافظة عليه، لأن هذه الكلمة تدل على الصيانة والضبط بجانب دلالتها على الأداء والإقامة والمداومة. والصلوات: هي الخمس المعروفة بالبيان العملي من النبي صلى الله عليه وسلم، والتي أجمع عليها المسلمون. والمحافظة عليها أداؤها بوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها وجميع ما لها من واجب ومستحب .
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى :أكثر العلماء على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، لأنها تقع في وسط الصلوات الخمس، إذ قبلها اثنتان وبعدها اثنتان، ولأنها وسط بين صلاتي النهار، وصلاتي الليل، فمعنى التوسط فيها واضح، ولأنها مظنة التقصير لمجيئها بعد وقت الظهيرة الذي يكون في الغالب وقت كسل. وفضلا عن ذلك فقد صرحت بعض الأحاديث بأنها صلاة العصر.الوسيط.
قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الأحْزَابِ" شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى، صَلَاةِ العَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" ثُمَّ صَلَّاهَا بيْنَ العِشَاءَيْنِ، بيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ."الراوي : علي بن أبي طالب - صحيح مسلم.
وفي الحَديثِ: بيانُ أهمِّيَّةِ صلاةِ العَصرِ وأنَّها هي الصَّلاةُ الوُسطى.الدرر السنية.
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ: والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع والخشوع والاطمئنان. أي قوموا في الصلاة مطيعين لله- تعالى- مؤدين لها على وجهها الكامل خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته مطمئنين، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه.
"فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ"239.
للتفريع لَمَّا أمَرَ الله تعالى عبادَه بالمحافظة على الصَّلوات، والقيام بحدودِها، والمداومة عليها، ذَكَر الحال التي يَنشغلُ فيها المرءُ عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال الخوف ، ولم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع، والخوف من عدو في حال المقاتلة في الحرب ، وغير ذلك من أنواع المخاوف، أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة فصلوا راجلين أي ماشين على الأقدام، أو راكبين على ركائبكم بإيماء، ويلزم من ذلك أن تكونوا مستقبلي القِبلة وغير مستقبليها. وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنًا خارج الوقت .
وقد بسط هذا المعنى الأستاذ الإمام محمد عبده فقال ما ملخصه: وقوله- تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْبانًا: هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة، وبيان أنها لا تسقط بحال، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال هو مظنة العذر في الترك كما يكون السفر عذرًا في ترك الصيام.. والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي، وإنما فرضت تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، وهو تذكر سلطان الله- تعالى- علينا وعلى العالم كله، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملًا قلبيًّا يجتمع فيه الذكر أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل.
قال الإمام ابن العربي: بالمحافظة على الصلاة في كل حال من صحة ومرض، وحضر وسفر، وقدرة وعجز، وخوف وأمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. والمقصود من ذلك أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، لا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين للزم فعلها كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح، وبهذا المعنى تميزت عن سائر العبادات، فإن العبادات كلها تسقط بالأعذار.الوسيط.
فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: أي فإذا زال خوفكم وصرتم آمنين مطمئنين،فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، قيل : معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ، ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه .
فالكاف في قوله : كَمَا: بمعنى الشكر ، تقول : افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرًا .تفسير القرطبي.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ : قيل : وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها مثل ما علمكم إياها ربكم على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وقد مَنَّ اللهُ- تعالى- عليكم بهذا التعليم الذي كنتم تجهلونه فضلًا منه وكرمًا.الوسيط.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-14-2023, 01:59 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Post

المجلس الحادي والأربعون
وقفات وتأملات مع سورة البقرة
من آية 240 إلى آية 242 .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "240.
لقد شرع الله لكم فيما شرع من أحكام، أن على المسلّم قبل أن يحضره الموت أن يوصِي لزوجته التي على قيد الحياة بما تنتفع به انتفاعًا مستمرًا لمدة حول من وفاته، ولا يصح أن يخرجها أحد من مسكن الزوجية.المراد بقوله: مَّتَاعًا ما تتمتع به الزوجة من السكن والنفقة بعد وفاة زوجها بوصية منه.إِلَى الْحَوْلِ :للتنصيص على أن هذه المدة تمتد حولًا كاملًا منذ وفاة زوجها، إذ كلمة حول تدل على التحول أي حتى تعود الأيام التي حدثت فيها الوفاة.وقوله " غَيْرَ إِخْرَاجٍ "حال من أزواجهم أي غير مخرجات من مسكن الزوجية، فلا يصح لورثة الميت أن يخرجوهن من مسكن الزوجية بغير رضاهن، لأن بقاءهن في مسكن الزوجية حق شرعه الله لهنَّ، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منهن بغير رضاهن.
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ: فَإِنْ خَرَجْنَ من منزل الزوجية برضاهن ورغبتهن فَلا إثم عليكم أيها المسلمون فيما فعلن في أنفسهن من أمور لا ينكرها الشرع كالتزين والتطيب والتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:أي: عزيز في انتقامه ممن تعدى حدوده، إذ هو القاهر فوق عباده، حكيم فيما شرع لهم من آداب وأحكام فينبغي أن يمتثل الناس أوامره ويجتنبوا ما نهاهم عنه. الوسيط.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان مشهوران:أما الاتجاه الأول: فيرى أصحابه أن هذه الآية منسوخة لأنها توجب على الزوج حين مشارفة الموت أنْ يوصِي لزوجته بالنفقة والسكنى حولًا، ويجب عليها الاعتداد حولًا، وهي مُخَيَّرة بين السُّكنى في بيته حولًا ولها النفقة، وبين أن تخرج منه ولا نفقة لها، ولم يكن لها ميراث من زوجها.
قالوا: وكان هذا الحكم في ابتداء الإسلام. وقد نُسخ وجوب الوصية بالنفقة والسكنى بآية المواريث وبحديث " لا وصية لوارث"
قال أبو أمامة الباهلي :سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ في خُطبتِهِ عامَ حجَّةِ الوداعِ "إنَّ اللَّهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ"الراوي : أبو أمامة الباهلي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه-الصفحة أو الرقم : 2210 - خلاصة حكم المحدث : صحيح ,
حيث جعل لها الربع أو الثمن عوضًا عن النفقة والسكنى .لقوله تعالى" وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ..." النساء:12.
ونسخ وجوب العدة حولًا بقوله- تعالى- قبل ذلك وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"البقرة:234. .الآية.قالوا: ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي: عن ابنِ عبَّاسٍ، في قولِه" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ "نُسِخَ ذلِكَ بآيةِ الميراثِ مِمَّا فرضَ لَها منَ الرُّبعِ والثُّمن، ونسخَ أجلَ الحولِ، أن جُعِلَ أجلُها أربعةَ أشْهرٍ وعشرًا"الراوي : عكرمة مولى ابن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم : 3545 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح .الدرر السنية.
وجمهور المفسِّرين على أنَّ هذه الآية منسوخةٌ حكمًا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وقيل النفقة كذلك منسوخةٌ بآية المواريث.يُنظر: الناسخ والمنسوخ:للنحاس :ص: 239، والناسخ والمنسوخ: لابن حزم (ص: 29)، والوجيز: للواحدي :ص: 176، وتفسير ابن كثير:1/658-659.
أما الاتجاه الثاني: فيرى أصحابه أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة وممن ذهب إلى هذا الاتجاه التَّابعيُّ الجليلُ مُجاهدُ بنُ جَبرٍ فقد قال ما ملخصه: دلت الآية الأولى وهي " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها. ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، وأن ذلك من باب الوصية للزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولًا كاملًا ولا يُمْنَعْنَ من ذلك لقوله تعالى " غَيْرَ إِخْراجٍ" فإذا انقضت عدتُهُنَّ بالأربعة أشهر والعشر- أو بوضع الحمل- واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يُمْنَعْنَ من ذلك لقوله تعالى " فَإِنْ خَرَجْنَ" .ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الاتجاه الإمام ابن كثير ،كما أيده أيضًا الإمام الفخر الرازي في تفسيره.الوسيط.
وجُمهورُ أهلِ العِلمِ إلى أنَّه يجِبُ على المرأةِ أن تعتَدَّ في البيتِ الذي كانت تَسكُنُ فيه عند مَوتِ زَوجِها.الدرر السنية.
"وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ" 241.
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ :وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات.
فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن -الحقوق اللازمة للمطلقات غير المدخول بهن في المتعة، قد بينها الله تعالى ذكره في الآيات قبلها, فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.
وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة, إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت, وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.
.تفسير الطبري.
حكم المتعة:
اختلف العلماء هل المتعة في الآية على الوجوب أم على الندب؟
فمنهم من قال:إن كان الطلاق بعد الدخول ، لم تجب المتعة عند جمهور الفقهاء ، بل تستحب .
المتعة تجب للمطلقة قبل الدخول، إذا لم يكن لها مهر محدد عند العقد. لقوله تعالى " لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ " البقرة/236 .
وذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، وهو أحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، ومذهب الظاهرية، وأبي ثور، وقال به من السلف سعيد بن جُبير، والزُّهْرِي وقَتَادة والضَّحَّاك، واختاره ابن جرير الطبري، وابن تيمية، والحافظ ابن حجر.ا.هـ.في موقع الإسلام سؤال وجواب-وينظر: تفسير ابن كثير :1/ 660, الإنصاف :8/ 302، المحلى :10/3 ، تفسير الطبري :4/ 301، مصنف عبد الرزاق 7/70، مجموع الفتاوى :32/ 27.
وقيل: إن المتعة مستحبة للجميع وليست واجبة لأحد من النساء وهو مذهب المالكية. كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم.
وسبب الخلاف بين الفقهاء في وجوب المتعة أو استحبابها هو أنه قد ورد في القرآن الكريم آيات كريمة ظاهرها التعارض، فمنها ما يوجب المتعة على الإطلاق، ومنها ما يوجب المتعة عند عدم ذكر المهر المفروض لها، ومنها ما لم ينص على المتعة أصلا فلهذا وقع الخلاف بين الفقهاء.كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم.
"كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" 242.
ختم- سبحانه - هذه الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أي: مثل هذا البيان الحكيم الواضح الذي بيَّنَ الله لكم به الأحكام السابقة، يبين لكم جميع آياته. الآيات أي العلامات الهادية إلى الحق . وأحكامه التي أنتم في حاجة إليها. تعقلون: أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحِكم والمصالح إذعانًا يكون له الأثر في الأعمال.


وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدر قدرا لا يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر كما هو مبين في الآية التالية.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-17-2023, 03:29 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,243
Post

من آية 243إلى آية251 .

"أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ"243.
والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعًا على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعًا وجبنًا، فحين يقدر الله قدرًا لا يمكن لمخلوق أن يفر من هذا القدر.
أَلَمْ تَرَ : أي ألم تعلم يا محمد أو أيها السامع أو لم ينته علمك إلى خبر هؤلاء.إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ: يُخبر تعالى عن قصَّة الذين فرُّوا مِن دِيارهم وهم جموعٌ مكوَّنةٌ من آلاف الأشخاص، وقد كان فرارُهم خوفًا من نزول الموت بهم، إما لوباءٍ حلَّ في موطنِهم، أو لعدوٍّ هاجَمَهم في أرضهم.
فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ: فأَماتَهم الله عزَّ وجلَّ جميعًا؛ معاملةً لهم بنَقيض قصدِهم، ثم أحياهم بعدَ مُدَّة من الزَّمن تفضلًا منه سبحانه وتعالى عليهم و رحمة بهم ولطفًا وحلمًا، وبيانًا لآياته لخلقه بإحياء الموتى ؛ فالله جلَّ جلاله صاحب الإحسان والإنعام على النَّاس كافَّةً، لكنَّ أكثرهم لا يُقابِلون ذلك الفضلَ بما يستحقُّه من شُكرٍ. فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم. وفي قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ إنصاف للقلة الشاكرة منهم، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم.
"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"244.
والسبيل: الطريق.
وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله لأن الإنسان يسلكها فيصل إلى ما يرضي الله، ويعلى والسبيل: الطريق.
وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله لأن الإنسان يسلكها فيصل إلى ما يرضي الله، ويعلي كلمته.ويعز دينه.
أي، قاتلوا أيها المسلمون في سبيل إعلاء كلمة الله، والدفاع عن دينه، واعلموا أنه- سبحانه - عليم بكل أقوالكم صالحها وطالحها، عليم بكل ما يدور في نفوسكم وخواطركم، وسيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
فأمر تعالى بالقتال في سبيله، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه، فقال: وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم - أي: فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئًا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك. كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يباعده ، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى "الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " آل عمران : 168.
"مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "245.
ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه وسماه قرضا - والاستفهام في قوله:مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ.. للحض على البذل والعطاء- من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى، فيضاعفه له أضعافًا كثيرة الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفِقِ، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ - أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملًا موفرا مضاعفًا، فلهذا قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: فيجازيكم بأعمالكم.
ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله.
وفيها: الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار.
وفيها: الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه، من تسميته قرضا، ومضاعفته، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.تفسير السعدي.
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ"246.
أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ - والملأ : اسم للجمع كالقوم والرهط ، والملأ في هذه الآية القوم ؛ لأن المعنى يقتضيه.-من بني إسرائيل من بعد موسى في عصر داود عليه السلام، وكان بينهما زمان طويل. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو لهم وأُخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر،لذا احتاج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم ، فقالوا لنبي لهم بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة: أبعث لنا ملكًا يقودنا للقتال في سبيل الله، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة قال لهم نبيهم :قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا : أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تفوا بما تقولون ولا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا- أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أُخْرِجنا من أوطاننا وسُبِيَت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ :لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم فلما كتب عليهم القتال تولوا فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن إلا قليلا منهم فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال: والله عليم بالظالمين. أي عليم بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى.
"وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"247.
ثم بيَّن القرآنُ ما أخبرهم به نبيُّهم ليحملهم على الطاعة والامتثال فقال-تبارك وتعالى:وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا:
أي وقال لهم نبيهم بعد أن أوحي إليه بما يوحَى: إن الله-تبارك وتعالى- وهو العليم الخبير بأحوال عبادِه قد بعث لكم ومن أجل مصلحتكم طالوت ليكون ملكًا عليكم، وقائدًا لكم في قتالكم لأعدائكم، فأطيعوه واتبعوا ما يأمركم به.
قَالُواأَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ : أَنَّىأداة استفهام بمعنى كيف، والاستفهام هنا للتعجب من جعل طالوت ملكًا عليهم.
أي قالوا لنبيهم منكرين ومتعجبين من اختيار طالوت ملكا عليهم: كيف يكون له الملك علينا والحال أننا أحق بالملك منه لأننا أشرف منه نسبًا، إذ منا من هو نسل الملوك أما طالوت فليس من نسلهم، وفضلا عن ذلك فهو لا يملك من المال ما يملكه بعضنا فكيف يكون هذا الشخص مَلِكًا علينا؟فأنت تراهم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم ظنوا أن المؤهلات الحقيقة لاستحقاق الملك والقيادة إنما تكون بالنسب وكثرة المال أما الكفاءة العقلية، والقوة البدنية، والقدرة الشخصية فلا قيمة لها عندهم لانطماس بصيرتهم، وسوء تفكيرهم.
قَالَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ: أي قال لهم نبيهم مُدللا على أحقية طالوت بالقيادة: إن الله-تبارك وتعالى- اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ:أي اختاره وفضله عليكم واختياره يجب أن يقابل بالإذعان والتسليم.
وثانيا: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ : أي أن الله-تبارك وتعالى- منحه سعة في العلم والمعرفة والعقل والإحكام في التفكير المستقيم لم يمنحها لكم، السعة في العلم الذي يكون به التدبير، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شئونها. وثالثا: في الْجِسْمِ بأن أعطاه جسمًا قويًّا ضخمًا مهيبًا – يعين على الشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار. وهذه الصفات ما وجدت في شخص إلا وكان أهلًا للقيادة والريادة ، وفضلا عن كل ذلك فمَالك المُلْك هو الذي اختاره فكيف تعترضون يا من تدَّعُون أنكم تريدون القتال في سبيل الله؟ لذا نراه- سبحانه - يضيف المُلك الحقيقي إليه فيقول: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُأي: يعطي ملكه لمن يشاء من عباده لحكمة يعلمها سبحانه.
فلا يجوز لأحد أن يعترض على اختياره، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ : والله واسع الفضل والعطاء. عليم ببواطن وعواقب الأمور.
"وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " 248.
ثم حكى القرآن أن نبيهم لم يكتف بهذه الدلائل السابقة الدالة على صلاحية طالوت للقيادة، وإنما ساق لهم بعد ذلك من العلامات التي تشهد بحقيقته بهذا المنصب ما يثبت قلوبهم، ويزيل شكهم ويشرح نفوسهم . ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانًا طويلا .والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم.والمعنى: وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أي علامة مُلكه وأنه من الله-تبارك وتعالى- أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي أن يرد عليكم التابوت الذي سُلب منكم فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ: أي في إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة " وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ " من آثار تعتزون بها، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم . فأتت به الملائكة حاملة له وهم يرونه عيانًا.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ : الآية: العلامة. أي: إن في ذلك الذي أتاكم به طالوت لآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالمُلك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذي جاء به أنبياؤه.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بني إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحُجج، وأوضح الأدلة، وأثبت البراهين التي تؤيده فيما يدعوهم إليه.
"فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" 249.
أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل أي خرج طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا ، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته ومن لم يطعمه - أي: لم يشرب منه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعًا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى: فلما جاوزه - أي: النهر هو - أي: طالوت والذين آمنوا معه وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا- أي: قال كثير منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده لكثرتهم وعَددهم وعُددهم قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله - أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله - أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، والله مع الصابرين بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.تفسير السعدي.
"وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ".250.
وقوله: بَرَزُوا أى صاروا إلى براز الأرض وهو ما انكشف منها بحيث يصير كل فريق من المتقاتلين يرى صاحبه، ومنه سميت المبارزة في الحرب لظهور كل قرن إلى قرنه.
أي: وحين برز طالوت ومن معه لقتال جالوت وجنوده، وأصبح الفريقان في مكان متسع من الأرض بحيث يرى كلُّ فريقٍ خصمَهُ اتجه المؤمنون إلى الله-تبارك وتعالى- بالدعاء قائلين بإخلاص وخشوع:رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا أي: أنزل وأصبب وأفض علينا أتم الصبر ليعمنا، ويملأ قلوبنَا ثقة بنصرك، ويحبس نفوسَنا على طاعتك.
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ:أىي هب لنا من كمال القوة والرسوخ عند القتال ما يجعلنا نثبت أمام أعدائِنا، ونتمكن من رقابهم دون أن يتمكنوا منا.
فهذا الدعاء كناية عن أن يمنحهم- سبحانه - الثبات عند الزحف، وعدم الفرار عند القتال.
وفي قوله: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا: تعبير بالجزء عن الكل، لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد عن الفرار، ومتى حصل الثبات كان النصر متوقعًا، والصبر متحققًا.
ثم ختموا دعاءهم بأن قالوا:وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ: أي اجعل الغلبة لنا عليهم، لأننا مؤمنون بأنك المعبود المستحق للعبادة وهم يكفرون بذلك.
والمتأمل في هذه الدعوات الثلاث يراها قد جمعت أسمى ألوان الأدب وحسن الترتيب، فهم قد صدروا دعاءهم بالتوسل بوصف الربوبية فقالوا رَبَّنا أى يا خالقنا ويا منشئنا ويا مربينا ويا مميتنا، وفي ذلك إشعار أنهم يلجئون إلى من بيده وحده النفع والضر، والنصر والهزيمة.
ثم افتتحوا دعاءهم بطلب الصبر عند المخاوف لأنه هو عُدة القتال الأُولى، وركنُه الأعلى، إذ به يكون ضبط النفس فلا تفزع، وبه يسكن القلب فلا يجزع.
ثم التمسوا منه- سبحانه - أن يثبت أقدامهم عند اللقاء لأن هذا الثبات هو مظهر الصبر، ووسيلة النصر، وعنوان القوة.
ثم ختموا دعاءهم بما هو ثمرة ونتيجة للصبر والثبات وهو النصر على الأعداء.
"فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"251.
أي : فغلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم. والفاء هنا فصيحة أو سببية أي أنهم بسبب دعائهم المخلص، وإيمانهم القوي، واستجابتهم لما أمرهم الله به، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم ويهزموهم، وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ :أي بتوفيقه وتيسيره وتأييده.
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوت:وقتل داوود بن إيشا - وكان في جيش طالوت- جالوت الذي كان يقود جيش الكفر، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة.
ثم بيَّنَ- سبحانه - ما منحه لداوود من نعم فقال: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ: والحكمة المراد بها هنا النبوة، ولم يجتمع المُلك والنبوة لأحد قبله في بنى إسرائيل، وورثه فيهما ابنه سليمان- عليه السلام-.
أي: وأعطى الله-تبارك وتعالى- عبده داوود مُلك بني إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من المُلْك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال، وعلمه- سبحانه - مما يشاء من فنون العلم، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور، وكلام الدواب، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته.
قال تعالى "وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَعِلِينَ " الأنبياء: 79.
"وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "سبأ: 10، 11.
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ: أي: ولولا أن الله-تبارك وتعالى- يدفع أهل الباطل بأهل الحق، لفسدت الأرض، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة، وتعطلت مصالح الناس، وانتشر الفساد في الأرض.
فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود.
أى: امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض.
فالجملة الكريمة تأمر الأخيار في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان.
ثم ختم- سبحانه - الآية بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
أي: ولكن الله-تبارك وتعالى- صاحب فضل عظيم، وإنعام كبير على الناس أجمعين، لأنه وضع لهم هذا التنظيم الحكيم الذي أوجب فيه على المصلحين أن يدافعوا المفسدين، وأن يقاوموهم بالطريقة التي تمنع فسادَهم حتى ولو أدى ذلك إلى رفع السلاح في وجوهِهم، لأن السكوت عن فساد المفسدين سيؤدي إلى العقاب الذي يعمهم ويصيب معهم المصلحين.
"اسْتَيْقَظَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وجْهُهُ يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه وعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أوْ مِئَةً قيلَ: أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ."الراوي : زينب أم المؤمنين - صحيح البخاري .
والخَبَثُ: هو الفُسوقُ والفجورُ والمعاصي، مِن نَحوِ الزِّنا، والخُمورِ، وغَيرِها، وإذا كَثُرَ المُجترِئونَ على مَعاصي اللهِ دونَ رادعٍ ولا وازعٍ؛ عَمَّ الهلاكُ الجَميعَ، ثُمَّ يُبعَثُ كلٌّ على نيَّتِه.
قال تعالَى " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" الأنفال: 25.
وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يُمَكَّنُوا من المعاصي والظلم مهما أمكن‏.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 10:04 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر