#1
|
||||
|
||||
وقفات مع الربع السادس لسورة البقرة
إضاءات على الربع السادس من سورة البقرة "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"92/93. " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ" أي : بالآيات الواضحات والدلائل القاطعة على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله . والبينات هي : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، وفلق البحر ، وتظليلهم بالغمام ، والمن والسلوى ، وضرب الحجر وانفجار الماء منه ، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها. " ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ" أي : معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته . وقوله " مِنْ بَعْدِهِ"أي : من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى" وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ"الأعراف : 148"وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ " أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله ، "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ "واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمرِي, وتنتهوا عما نهيتكم فيها – بقوة وبجد منكم في ذلك ونشاط, فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم,وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَخُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ: إذ رفعنا فوقكم الجبل. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حين امتنعوا من قبول ما في التوراة، والتهديد بالعذاب إن لم يأخذوا ما أُوتوا بقوة فألزمهم اللّه العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل . الله جعل الجبل فوق رؤوسهم . "وَاسْمَعُوا" أي: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة. "أي: سماع قبول وطاعة واستجابة. "قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" أمرك، وقيل: سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا وتلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعًا. "وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ"اشربوا حُبَّهُ حتى خَلُصَ ذلك إلى قلوبِهم. وإنما عُبِّرَ عن حبِ العجلِ بالشربِ دونَ الأكلِ، لأن شربَ الماءِ يتغلغلُ في الأعضاءِ حتى يصلَ إلى باطنِهَا. " قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" المراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم. "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "دليل على أنهم ليسوا بمؤمنين.. ولكن لازال في قلوبهم الشرك والكفر أو العجل الذي عبدوه. ""قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّأَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ"94: 96. ""قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ "وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم " وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ":80البقرة، " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى "البقرة :111، وقولهم " نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ " المائدة :18. فكذَّبَهم اللهُ عز وجل ،وألزمهم الحُجَّة فقال: قل لهم يا محمد"قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ " يعني الجنة عند الله،قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر " الدار "، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطَبين بالآية معناها. وميزها بقوله"عِنْدَ اللَّهِ "الذي له الكمال كله . خَالِصَةً :خاصة لكم."مِنْ دُونِ النَّاسِ"أي سائرهم لا يشرككم فيها أحد منهم. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: أي ادعوا بالموت واسألوه لأن من عَلِمَ أن الجنة مأواه حَنَّ إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني إن كنتم صادقين في قولكم.. "وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ" وقوله"وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا"من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله"وَلَن تَفْعَلُواْ" بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ"أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار. "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" أي أنه عليم أنهم لن يتمنوه أبدًا، تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم. " وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ" يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود.أي حريصين على طول العمر ، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ; لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وما يحذرون واقع بهم لا محالة حتى لو عمروا ألف سنة ، حتى وهم أحرص الناسمن المشركين الذين لا كتاب لهم. "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ "97. "مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ "98. أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدَّقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض. مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله. فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله, والذي أُرْسِلَ به, والذي أُرسِلَ إليه. "وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ "99. أي : أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دلالاتعلى نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائِلُهم وأواخرُهم وبدَّلوه من أحكامهم ، التي كانت في التوراة . فأطْلَع اللهُ في كتابه الذي أنزلَه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ; فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يدعه إلى هلاكها الحسد والبغي . "أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ "100. استفهام مستعمل في التوبيخ ،وهذا فيه التعجب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها. فـ " كُلَّمَا " تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانُهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"الأحزاب :23. وكذلك اليهود عاهدوا لئن خرج أي بُعِثَ محمدٌ ليومنن به، فلما خرج كفروا به. "وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ "101. أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به. "سُحِرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى إنَّه لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَومٍ وهو عِندِي، دَعَا اللَّهَ ودَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أشَعَرْتِ يا عَائِشَةُ أنَّ اللَّهَ قدْ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فيه قُلتُ: وما ذَاكَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَجَلَسَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِهِ: ما وجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: ومَن طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ اليَهُودِيُّ مِن بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَ: فِيما ذَا؟ قَالَ: في مُشْطٍومُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: فأيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بئْرِ ذِي أرْوَانَ قَالَ: فَذَهَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أُنَاسٍ مِن أصْحَابِهِ إلى البِئْرِ، فَنَظَرَ إلَيْهَا وعَلَيْهَا نَخْلٌ، ثُمَّ رَجَعَ إلى عَائِشَةَ فَقَالَ: واللَّهِ لَكَأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، ولَكَأنَّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ أفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا، أمَّا أنَا فقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وشَفَانِي، وخَشِيتُ أنْ أُثَوِّرَ علَى النَّاسِ منه شَرًّا وأَمَرَ بهَا فَدُفِنَتْ."الراوي : عائشة أم المؤمنين- المحدث : البخاري -المصدر : صحيح البخاري. أفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا، أمَّا أنَا فقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وشَفَانِي، وخَشِيتُ أنْ أُثَوِّرَ علَى النَّاسِ منه شَرًّا "أي: مِنه، شَرًّا مِن تَذْكيرِ المُنافِقينَ السِّحْرَ وتَعَلُّمِه ونَحوِ ذَلِكَ فَيُؤْذونَ المُؤمِنينَ. فَأَمَرَ صَلَّى الله عليه وسلَّم بِالبِئْرِ فَدُفِنَتْ. وَفيه: دَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصالِحِ. وَفيه: الصَّبْرُ على الابتِلاءِ والامتِحانِ. وفيه: الإلْحاحُ في الدُّعاءِ وتَكْرارُه. وَفيه: بَيانُ أَهَمِّيَّةِ الأَخذِ بِالأَسبابِ، وأَنَّها لا تُنافي التَّوَكُّلَ. وَفيه: أنَّ مِن صِفاتِ اليَهودِ الخيانةَ لِلهِ ولِرَسولِه صَلَّى الله عليه وسلَّم. الدرر. "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "102. ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن،ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفَهُ ورجاءَهُ, ابتُلِيَ بمحبةِ غيرِ اللهِ وخوفِهِ ورجائِهِ, ومن لم ينفقْ مالَهُ في طاعةِ اللهِ أنفقَهُ في طاعةِ الشيطانِ،ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم. وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادقُ في قيله"وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ"أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، "وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا"بذلك" يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ"من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر". وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى"ينصحاه, و "يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ"أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته،فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة. فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين،والسحر الذي يُعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر فقال"فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ"مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما"وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً"وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة"فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ"وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير..... ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر"قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة،أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها. "وَلَقَدْ عَلِمُوا"أي: اليهود "لَمَنِ اشْتَرَاهُ"أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة "مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. "وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"علما يثمر العمل ما فعلوه. الملكان الكريمان ينبهان الناس بأن هذا التعليم لهذا السحر فتنة، أي اختبار، وأن الواضح من الأمر أن هناك تحذيرا من الملكين للناس بأن هذا يكشف الصالح من الطالح، والطائع من العاصي لله، فمن يبتعد هو في معية الله، ومن يتعلم منهما السحر هو في معية الشيطان، ومن معاني الفتنة الاختبار فيه من ينجح وفيه من يرسب. "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "103. أي : ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم و اتقوا السحر، لكان ثواب الله إياهم خيرًا لهم مما اختاروا لأنفسهم ورضوا به . "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ "104. كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين"رَاعِنَا"راعنا يا رسول الله، وأرعنا سمعك، يعنون المراعاة، فيقصدون بها معنى صحيحًا ، وكانت هذه اللفظة سبًّا قبيحًا بلغة اليهود، فلما سمعتها اليهود من المسلمين اغتنموها وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدًا ،وقالوا فيما بينهم: كنا نسُب محمدًا سِرًّا، فأعلِنوا له الآن بالشتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفُحْش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال"وَقُولُوا انْظُرْنَا"فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، "وَاسْمَعُوا"ما تؤمرون به وأطيعوا. لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة. "مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ "105. وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين ، ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود. أن ينزل عليكم من خير من ربكمْ أي خير ونبوة ، لا قليلا ولا كثيرا "مِنْ رَبِّكُمْ"حسدًا منهم, وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه "ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"ومن فضله عليكم, إنزال الكتاب على رسولكم, ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.
__________________
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|