#1
|
||||
|
||||
وقفات مع الجزء الأول من سورة البقرة
وقفات مع الجزء الأول من سورة البقرة الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) "الم" هذه الحروف المقطعة:قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . تفسير البغوي. فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها، القول الراجح: أنه لا يمكن القطع بمعانيها لعدم ورود نص يبين معنى هذه الحروف المقطعة لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنها من قبيل المتشابه قال تعالى"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"آل عمران :7. فهي سر الله في القرآن وهي من المتشابه، الذي انفرد الله بعلمه ولا يجوز أن يُتَكلم فيه، ولكن نؤمن بها ونقرأها كما جاءت. ثم إن العلم بمعانيها لا يفيدنا بشيء ولا يتوقف على العلم بها إقامة العبادة لله وإنها اختبار وامتحان للخلف، فالأولى السكوت عن معانيها كما هو صنيع السلف الصالح .طريق الإسلام. "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ " "ذلك الكتاب" أَي: هذا الكتاب يعنى: القرآن. "لَا رَيْبَ فِيهِ" والمعنى - إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة - وإلى هذا أشار بقوله"وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ" وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدًا لسواهم. "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ. فالمتقى هو الذي يقي نفسه مما يضرها، وهو الذي يتقي عذاب الله بطاعته، وجماع التقوى أن يمتثل العبد الأوامر، ويجتنب النواهي. وفى تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال " وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"فصلت: 44. "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان- بالغيب-، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله،واجبًا أو مندوبًا.يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة امتثالًا واحتسابًا ،وما ندبهم إليه من غير ذلك احتسابًا. وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها. "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ "الغيب ما غاب عن الحواس، وكل شيء مستور فهو غيب، كالجنة، والنار، والحشر والنشر وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لا يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ "الغَيْبِ" فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ. لو أشرق نور اليقين في قلب المؤمن لرأى الآخرة أقرب من أن يرحل إليها، ولرأى بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها. من لم يُرد الحقَّ حُرِمه، تأمَّل" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ "البقرة: 6... فبعدما كفَروه حُرموا هدايته. "ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا."الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري. كلُّ امرِئٍ في ظلِّ صَدقتِهِ، حتَّى يُفصَلَ بينَ النَّاسِ أو قالَ يُحكَمَ بينَ النَّاسِ ."الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الوادعي - المصدر : الصحيح المسند-الصفحة أو الرقم: 943- خلاصة حكم المحدث : صحيح . "كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ . قال يزيد . فكَانَ أبُو مرثدٍ لا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إلَّا تَصَدَّقَ فيهِ بِشيءٍ ، و لَوْ كَعْكَةً أوْ بَصَلَةً"الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب- الصفحة أو الرقم: 872- خلاصة حكم المحدث : صحيح. "إنَّ الصَّدقةَ لتُطفيءُ عَن أهلِها حرَّ القبورِ ، وإنَّما يَستَظلُّ المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقتِهِ"الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 873 - خلاصة حكم المحدث : حسن. أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: قالَ اللَّهُ: أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"الراوي : أبو هريرة - المصدر : صحيح البخاري . "مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، ...."الراوي : أبو هريرة- صحيح مسلم. والصدقة لا تنقص المال، بل تزيده وتبارك فيه؛ فعن أبي هريرة –صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَال"رواه مسلم. عن أبي هُرَيْرةَ ، أنَّهُ قالَ : يا رسولَ اللَّهِ ، أيُّ الصَّدَقةِ أفضلُ ؟ قالَ " جُهْدُ المقلِّ ، وابدأ بِمن تعولُ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود. "جُهْدُ المُقِلِّ"، والجُهدُ الوُسْعُ والطَّاقةُ، أو المشقَّةُ والغايةُ، والمُقِلُّ: الفقيرُ الَّذي معَه شيءٌ قليلٌ مِن المالِ، أي: إنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ هو الَّذي يتَصدَّقُ به الفقيرُ قليلُ المالِ على قدْرِ طاقتِه ووُسْعِه مع مَشقَّةِ ذلك عليه، وإنَّما كانت صدَقةُ المقِلِّ أفضلَ مِن صدَقةِ الغنيِّ؛ لأنَّ الفقيرَ يتصدَّقُ بما هو مُحتاجٌ إليه، بخِلافِ الغنيِّ؛ فإنَّه يتَصدَّق بفُضولِ مالِه. "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ" يعني القرآن، "وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" يعني به التوراة والإنجيل، وما تقدم من كتب الأنبياء، بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى، في إيمانهم ببعضها دون جميعها. "وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال - والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فيها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار. واليقين: هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها في أعمالها. " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" "وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" "والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك. " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ "6. بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله، وبيَّن ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال ألا يجدى فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثّر فيهم العِظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون - أي مائلون-، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه؛ بغضًا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"7. هؤلاء قد تمكن الكفر منهم حتى كأن قلوبهم مختوم عليها بحجاب لا يدخلها غير ما فيها، وكأن أسماعهم مختوم عليها كذلك، فلا تسمع وعده الحق، وكأن أبصارهم قد غشيها غطاء فهى لا تدرك آيات الله الدالة على الإيمان،ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم. ولذلك استحقوا أن ينالهم العذاب الشديد العظيم،وهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم.. |
#2
|
||||
|
||||
ذكر سبحانه أوّلًا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعًا وتمويهًا وتدليسًا وفيهم نزل قوله"إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"النساء:142.
وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ"8. النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار وهو المقصود في هذه الآيات، وعملي وهو من أكبر الذنوب. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يظهرون الإيمان فيقولون: إننا آمنا بالله وبيوم القيامة، وليسوا بصادقين في قولهم.واليوم الآخر - هو من وقت الحشر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. "وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. " يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"9. والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، يظنون بجهلهم وضلالهم أنهم يخادعون الله،أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم،وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، إذ يتوهمون أنه غير مطلع على خفاياهم، مع أنه يعلم السر والنجوى، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم لأن ضررَ عملِهم لا حقٌ بهم، عاجلًا وآجلًا، ولأن من يخدع غيره ويحسبه جاهلًا- وهو ليس كذلك- إنما يخدع نفسه. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"10. والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها، من مرض الشهوات. والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية. . فبعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضًا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدًا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يومًا بعد يوم. آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هى القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى. أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبًا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام. "فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا" فزادهم بجانب الحسد والحقد على أهل الإيمان مع فساد العقيدة ،زادهم ضعفًا عن الانتصار للحق، وعجزًا عن الاقتدار على الاستقامة والامتثال. فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى" وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"مريم:76. "وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ" أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب. "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ"12/11. بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين. "قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح، قلبًا للحقائق، وجمعًا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية، مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه.حصر للإصلاح في جانبهم - فيضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قَلَبَ اللهُ عليهم دعواهم بقوله: " أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ"فإنه لا أعظم فسادًا ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟.وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه. " وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ" أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان، قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبَّحَهُم اللهُ - الصحابة رضي الله عنهم، بزعمهم أن سفههم- أي الصحابة- أوجب لهم الإيمان، وتَرْك الأوطان، ومعاداة الكفار، والعقل عندهم – أي عند المنافقين-يقتضي ضد ذلك، فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحُجَى والنُّهَى. فَرَدَّ اللهُ ذلك عليهم، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحُجا، معرفة الإنسان بمصالح نفسه، والسعي فيما ينفعه، وفيدفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة. "أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ" يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى . "وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ "14. هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، أي وإذا رأى المنافقون المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبًا وبهتانًا: آمنا كإيمانكم وصدَّقْنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالَنا وأولادَنا ونساءَنا من أيديهم ونطَّلع على أسرارهم. "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ"15". أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم ،وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة، وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثةويزيدهم في عتوهم وكفرهم، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع. "أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ"16. أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات "اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى " أي: رغبوا في الضلالة، رغبة المشتري بالسلعة، التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح. وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودًا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال. تفسير المراغي. |
#3
|
||||
|
||||
"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ "17" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ "18. أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارًا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار. فلهذا قال تعالى عنهم" صُمٌّ " أي: عن سماع الخير" بُكْمٌ "أيعن النطق به، " عُمْيٌ " عن رؤية الحق، " فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعًا منهم. ثم قال تعالى" أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ " يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، " فِيهِ ظُلُمَاتٌ " ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، " وَرَعْدٌ " وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، " وَبَرْقٌ " وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب. " كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ " البرق في تلك الظلمات " مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا " أي: وقفوا. فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ " أي: الحسية، ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.تفسير السعدي. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"22/21. العبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود. بعد أن ذكر سبحانه أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك - دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى. ثم عدد بعض نعمِهِ المتظهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب،الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادنها ونباتها،"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا" أي هو الذي مهدّ لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها. ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدى بها الساري في الليل المظلم، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً". "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ".أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذّى به النبات، فأخرج به ثمرا نأكل منه وننتفع به. "فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا" عن عبد الله بن مسعود قال :سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ" أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ ....".صحيح البخاري. والنِّدُّ هو المثيلُ والنَّظيرُ.أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر أي:لا تجعلوا لله نظراء وأشباها من المخلوقين،فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون، مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. " وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك وأن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق، والتدبير، ولا في العبادة . "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23. "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا"وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافِهِ صلى الله عليه وسلم، قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.وهي عبودية تشريف. كما شرفه ووصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ "الإسراء:1. وفي مقام الإنزال، فقال" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ" الفرقان:1. أنواع العبودية: العبودية العامة : فهذه لا يخرج عنها مخلوق وتسمى عبودية القهر فالخلق كلهم بهذا المعنى عبيد لله يجري فيهم حكمه ، و ينفذ فيهم قضاؤه ، لا يملك أحد لنفسه ضرًا ولا نفعًا إلا بإذن ربه ومالكه المتصرف فيه . وهذه العبودية هي التي جاءت في مثل قوله تعالى " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا " مريم/93 ، وهذه العبودية لا تقتضي فضلاً ولا تشريفًا.فمن أعرض عن العبودية الخاصة فهو مأسور مقهور بالعبودية العامة فلا يخرج عنها بحال من الأحوال . فالخلق كلهم عبيد لله فمن لم يعبد الله باختياره فهو عبد له بالقهر والتذليل والغلبة . العبودية الخاصة: عبودية المحبة والانقياد والطاعة التي يشرف بها العبد ويعظم ،وهي التي وردت في مثل قول الله تعالى "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ" الشورى/19 ، وقوله "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا " الفرقان/63 ، وهذه العبودية خاصة بالمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى ، لا يشاركهم فيها الكفار الذين خرجوا عن شرع الله تعالى وأمره ونهيه ، والناس يتفاوتون في هذه العبودية تفاوتًا عظيمًا ؛ فكلما كان العبد محبًّا لله متبعًا لأوامره منقادًا لشرعه كان أكثر عبودية. "فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ" بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: مُتَّقُون يهتدون بهديه، وجاحِدون معانِدون عن سماع حججه وبراهينه، ومُذَبذبون بين ذلك - طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أن القرآن معجزته - أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي، أو هو من عند نفسه كما يدّعون. ها هو صلى الله عليه وسلم بشر مثلكم، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم من دون الله ، فإن هذا أمر يسير عليكم، خاصة وأنتم أهل الفصاحة والخطابة، والعداوة العظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، وبرهان على صدقكم. "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ"28. "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا" وهذه حُجَّة قويةٌ ودليلٌ عقليٌّ وتحدي لعلهم يرجعون ،وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز،وَلَنْ تَفْعَلُوا على التأبيد وعَبْر كل العصور حتى قيام الساعة. وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "الإسراء: 88. وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق. " فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ" اتقوا النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة مبلغها، وقودها الناس والحجارة، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب،قال ابن عباس يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهابًا. وقيل جميع الحجارة وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها. والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله منها. قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى"وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه وقال: على شرط الشيخين. النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها.نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم. " أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ"وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وفي قوله" أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة. |
#4
|
||||
|
||||
" وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" 25.
لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال" وَبَشِّرِ " أي: يا أيها الرسول ومن قام مقامه- بشر" الَّذِينَ آمَنُوا " بقلوبهم " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشرهم " أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ " أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة، والظل المديد، والأغصان والأفنان وبذلك، صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها. " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار. " كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " أي: هذا من جنسه، وعلى وصفه،كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله" وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا " قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال" وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " فلم يقل " مطهرة من العيب الفلاني " ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها، فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.تفسير السعدي.
__________________
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|