|
#1
|
||||
|
||||
![]() من آية 53 إلى آية 61 " وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"53. " وَإِذْ "اسم للوقت الماضي . و " وَإِذْ"اسم للوقت المستقبل "آتَيْنَا" أعطينا . الله سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل هنا، أنه بعد أن أراهم من المعجزات الكثير. ونجاهم من آل فرعون وشق لهم البحر كان لابد أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا لا يشوبه أي نوع من التردد، ذلك لأنهم رأوا وشهدوا.. وكانت شهادتهم عين يقين. أي شهدوا بأعينهم ماذا حدث. ولكن هل استطاعت هذه المشاهدة أن تمحو من قلوبهم النفاق والكفر؟. لا، لقد ظلوا معاندين طوال تاريخهم. لم يأخذوا أي شيء بسهولة.فذكرهم بمزيد نعمه عليهم لعلهم يهتدوا. أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى، ولكنهم لم يصبروا ،فقبل استكمال الميعاد –الأربعون ليلة- عبدوا العجل من بعد ذهاب موسى للقاء ربه وقبل رجوعه لهم بالتوراة. " الْكِتَابَ" يعني التوراة. "وَالْفُرْقَانَ" وهو ما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. قال الكسائي"الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة، يعني: الكتاب المفرق بين الحلال والحرام" " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" وكأنه قال: واذكروا أيضًا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها. " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"54. بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختم الآية بذكر العفو عنهم. "إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ "لا يقع الظلم على الله سبحانه وتعالى ولكن عليهم. لماذا؟.. لأنهم آمنوا بالله أو لم يؤمنوا. سيظل هو الله القوي القادر العزيز. لن يُنْقِصَ إِيمانُ أحدٍ أو عدم إيمانه من مُلك الله شيئا. ثم يأتوا يوم القيامة فيعذبهم. فكأن الظلم وقع عليهم. " فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " " فَتُوبُوا " التوبة هي أصل المغفرة، وقد كان من الممكن أن يأخذهم الله بهذا الذنب ويهلكهم كما حدث للأمم السابقة.. أما وقد شرع الله لهم أن يتوبوا. فهذا فضل من الله وعفو. "إِلَى بَارِئِكُمْ" أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم- إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوانات وهو البقر. " فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" يعني ليقتل البريء منكم المجرم. لما عبد قوم موسى العجل وسُقِطَ في أيديهم- أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سُقِطَ في يديه ،- ورأوا أنهم قد ضلوا ، وأرادوا التوبة ، قالوا " لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " سورة الأعراف/149، فجعل الله لهم امتحانا شديدًا لقبول توبتهم ، وذلك بأن يقتلوا أنفسهم ، فيُغِير بعضهم على بعض ، ويتقاتلوا بينهم حتى يأتي أمر الله بالكفّ. جاء في تفسير ابن كثير : " قال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة" ...الإسلام سؤال وجواب .كونه يقدم نفسه ليُقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده باطل.. وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة.. وهذا أقسى أنواع الكَفَّارة.. وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه.. بأنه لا إله إلا الله وندمًا على ما فعل وإعلانًا لذلك.. فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان. " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ " أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب. "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "55." فَتَابَ عَلَيْكُمْ" أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم. " إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه. وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"التوبة: 118، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم. وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام. و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قال تعالى" وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُالْغَافِرِينَ"الأعراف:155. بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل ، عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا.. إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار. فقفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرًا وطغيانًا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله جهرًا وأصل الجهر الظهور ،أي عِيانًا حتى يؤمنوا به، أي رؤية واضحة يدركونها بحواسهم. فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين. أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت. "ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" 56. أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه.. فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون. "وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"57. ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة. إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية.. وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء.. فظلل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام.. أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى.. ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى. والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس.. وهي موجودة حتى الآن في العراق.. وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر.. ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات.. فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل.. وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتِهم.. وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة. أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان.. يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها.. ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه. فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومَنّ يعطيهم وقود الحركة. وسَلْوَى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من السماء دونما تعب منهم. " كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أمر إباحة وإرشاد وامتنان. أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب. "وَمَا ظَلَمُونَا" يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، "وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" فيعود ضرره عليهم.أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابي وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة. وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يأمر الله به عبادَه فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم. أمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب " سُجَّدًا"أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا" حِطَّةٌ "أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته. " وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"58. أي : ادخلوا بابَ القريةِ؛ والقريةُ قيل: هي بيتُ الْمَقْدِسِ، وقيل غيرُ ذلك، مُنْحَنِينَ كهيئةِ مَن يريدُ السُّجودَ؛ خُضوعًا للهِ تعالى وشكرًا. وقيل: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم. "نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ"بسؤالكم المغفرة. "وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"بأعمالهم, أي: جزاءً عاجلًا وآجلا. يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن ولم يعص الل " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"59. "قيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ"ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولوا حِطَّةٌ"البقرة: 58. فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا، وقالوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ في شَعَرَةٍ"الراوي : أبو هريرة /صحيح البخاري. فَبدَّل هؤلاءِ اليهودُ الظَّالِمون ما أُمِروا به، ودخَلوا يَزحَفُونَ على مؤَخِّراتِهم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعرَةٍ، وهذا كلامٌ مُهمَلٌ لا معْنى له، وغرَضُهم فيه مُخالَفةُ ما أُمِروا به مِنَ الكلامِ المستلزِمِ لِلاستِغفارِ وطلَبِ حِطَّةِ العُقوبةِ عنهم، فلمَّا عَصَوْا، عاقَبَهمُ اللهُ بالرِّجْزِ؛ وهو العذابُ الأليمُ. وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن اتِّباعِ سُنَّةِ بَني إسرائيلَ في مُخالَفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والخروجِ عن طاعتِه. لم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينِهم. "وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"60.ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته. "وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ" أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة. "فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ "إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، " فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًاوقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة،قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها،، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب. "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ"منهم "مَشْرَبَهُمْ"أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال"كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ"أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، " وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" والعثي: أَشَدُّ الْفَسَادِ، أي ولا تنشروا فسادَكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه. " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"61. وإذ قال أسلافُكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدًا هو المنّ والسلوى. أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها. "لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ"وهو المنُّ والسلوى. أي: جنس من الطعام, وإن كان أنواعًا, لكنها لا تتغير. "فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا"أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، " وَقِثَّائِهَا"وهو الخيار "وَفُومِهَا"أي: ثومها، والعدس والبصل معروف. " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ "فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العَيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع . " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرَ من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقضِ عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممِهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.
"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذي ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه. "وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة. "ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ" أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون. "وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ" ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، فهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك. وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون بحق أبدًا ، فلا يوجد حق يسوغ قتل نبي ، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟ فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعًا. "ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ" أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه. |
#2
|
||||
|
||||
![]() من آية 62 إلى 70 " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"62. لما بين الله سبحانه وتعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحل بهم من النكال ، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه.تفسير ابن كثير. وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم. لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذِكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين. تفسير السعدي. " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"63. يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسلِهِ ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق للعمل بما في التوراة رفع الجبل على رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف: 171. الطور هو الجبل ، كما فسره بآية الأعراف.تفسير ابن كثير. " وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ" وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكي يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان ثمّ بين الميثاق فقال: " خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ" أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه. " وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ" أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أُثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"تتقون- عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.تفسير السعدي.والمراغي. المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها. " ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ"64.أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر. " فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ" أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين. ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة. " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ"65. " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ "أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندهم معروفة.. وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها. " الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ "اليهود أمروا بقطع الأعمال الدنيوية يوم السبت ، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافًا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى. وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو امتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك. وكان الابتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها.. وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْۚ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"الأعراف: 163. وَاسْأَلْهُمْ أي: اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: كثيرة طافية على وجه البحر. وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي: إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حُفَرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك. وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم. وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد. فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: لنعذر فيهم. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم. وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي. "فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ" ذهب جمهور العلماء إلى أنهم مُسخت صورهم فصارت صور القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، أي : إنهم مسخوا مسخًا نفسيًا فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها . قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد لا صوري كما قال غيره. "قِرَدَةً خاسِئِينَ "صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء . " فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" 66. وجعل الله هذه العقوبة – وهي المسخ- "نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا" زجرًا وعقابا قويًّا وعبرة، لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم. "وَمَا خَلْفَهَا "أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه. "وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات. لأن المتقي يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءَها . "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" 67. أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلًا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا"أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا" أي قالوا: أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة فقال نبي الله"أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ"فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل،استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"68 .فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي" أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها. أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم . ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم بالسؤال عن صفاتها، فضيق عليهم ، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ "أي لا كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لا تلد، والبكر الصغيرة التي لم تلد. " عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ" وسطبين السنين . "فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال. واتركوا التشديد والتعنت. أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"69. أي سله لأجلنا أن يبين لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضًا تعنت آخر منهم بعد الأول . "إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا "أي: شديدة الصفار. "تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" الناظرين إليها إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70. سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد . |
#3
|
||||
|
||||
![]() من آية 71 إلى 80 "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70. سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد . "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ" 71. "لَّا ذَلُولٌ "البقرة الذلول هي البقرة المروضة الممرنة تؤدي مهمتها بلا تعب.. تماما مثل الخيل المروضة التي لا تتعب راكبها لأنها تم ترويضها. "تُثِيرُ الْأَرْضَ " تثير غبار الأرض في غير العمل مرحًا ونشاطًا، أي لم تستخدم في حراثة الأرض أو فلاحتها. "وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ" أي لم تستخدم في إدارة السواقي لسقي الزرع. "مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا" أي لا شيء فيها ، أي خالية من العيوب لا أذنها مثقوبة. ولا فيها أي علامة من العلامات التي يميز الناس أبقارهم بها.. ولا رجلها عرجاء، خالية من البقع والألوان غير اللون الأصفر الفاقع. والمتأمل في وصف البقرة كما جاء في الآيات يرى الصعوبة والتشدد في اختيار أوصافها،فهم شددوا على أنفسهم بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم .ولم يجد بنو إسرائيل إلا بقرة واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات فقالوا " قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ " أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا. وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة. "فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " فذبحوا البقرة التي وصفت بتلك الصفات. قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها . " وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" 72 "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة، أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله. أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه. " وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" أي مُظْهِر القاتل الذي يكتم قيامه بالقتل ويخفيه. فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"73. " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ "يعني القتيل. "بِبَعْضِهَا " أي ببعض البقرة، وإنما أمرهم موسى عليه السلام بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة. فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، فكما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات ، " وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به. فتنزجرون عن ما يضركم. "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"74. "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم " أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة. " مِّن بَعْدِ ذَلِكَ" أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها. " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ " وصف قسوتها بأنها كَالْحِجَارَةِ التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أُذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار. " أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " أَو : بمعنى " بل "أي: إنها أشد قساوة الأحجار، ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" بل هي أي قلوبهم أشد من الحجارة غلظة؛ لأن من الحجارة ما يتسع وينفرج حتى تنصبَّ منه المياه صبًا، فتصير أنهارًا جاريةً، ومن الحجارة ما يتصدع فينشق، فتخرج منه العيون والينابيع، ومن الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه. "وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها. "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"75. "أَفَتَطْمَعُونَ" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم هذا استفهام فيه معنى الإنكار .الطمع: تعلق النفس بشيء مطلوب تعلقًا قويًّا، فإذا اشتد فهو طمع، وإذا ضعف كان رجاء ورغبة. لما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم . فقد كان النبي ﷺ وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه . أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ: تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به. "وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ" يعني التوراة. " ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ " يغيرون ما فيها من الأحكام.فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! " مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ " أي من بعد ما علموه وفهموه وعرفوه. " وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين. "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"76 . "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا" أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد ﷺ قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به. "وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ" قال أبو جعفر: يعني أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم. "قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يجىء مصدقا لما معهم ،وأنه حق وقوله صدق. " لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ "كي يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم- فالمحاجة هي أن كل طرف يأتي بحجته. " أَفَلَا تَعْقِلُونَ"أي: أفلا يكون لكم عقل، فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض. " أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " 77. فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم، وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين، فإن الله يعلم سرهم وعلنهم. " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"78. " وَمِنْهُمْ"أي: من أهل الكتاب "أُمِّيُّونَ "أي: عوام، ليسوا من أهل العلم، " لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ": عن ابن عباس ، في قوله تعالى" إِلَّا أَمَانِيَّ "يقول : إلا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا .وقيل: والأماني واحدها أمنية وهي التلاوةأي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط – تلاوة لفظية فقط دون التلاوة الحكمية-.أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله تعالى "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".الجمعة:5. "وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ " أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبني على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه. فذكر في هذه الآيات علماءَهم، وعوامَّهم، ومنافقيهم، ومن لم ينافق منهم، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين. " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ"79. والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة . " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ" عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : هم أحبار اليهود . وكذا قال سعيد ، عن قتادة : هم اليهود .توعد تعالى أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها. المحرفين للكتاب . " فَوَيْلٌ"أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم: هذا المحرّف من عند الله في التوراة. " لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " أي ليأخذوا لأنفسهم عرضا من عرض الدنيا؛ في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهي الأموال التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها. والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال " فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ" أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي. وكرر الويل تغليظًا لفعلهم .وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي ﷺ، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة. " وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 80.ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم. المسّ واللمس بمعنى واحد، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة: المحصورة القليلة. يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ" قل لهم أيها الرسول " أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا" أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار ! أم أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده. أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع . " أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح. وخلاصة هذا - إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() من آية 81 إلى 86 أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرًا طويلًا، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب. أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالحالأعمال فأدّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن. وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، قالَ: "قُلْ: آمَنْتُباللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ"صحيح مسلم.والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصى مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذُكر في قوله تعالى "كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ"المطففين:14. "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ" 82. "وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" 83. ذكّر سبحانه في الآيات السابقة بني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة، فحلول عقوبة، فتوبة من الذنب بعد ذلك. الميثاق: العهد الشديد المؤكد، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم،.وفي هذه الآية ذكّرهم بأهمّ ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها، ثم بين هذا الميثاق فقال: إِحْسانًا :معناه زيادة على المفروض. لأنك قد تؤدي الشيء بالقدر المفروض منك.. فالذي يؤدي الصلاة مثلا بقدر الغرض يكون قد أدى.. أما الذي يصلي النوافل ويقوم الليل يكون قد دخل في مجال الإحسان.. أي عطاؤه أكثر من المفروض.. والله تبارك وتعالى يقول"إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم"الذاريات: 15-19."لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره، وبهذا أمر جميع خلقه، هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده. مفهوم العبادة العام ، هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيمًا، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه.قاله :الشيخ العثيمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي " اسم جامع لكل ما يجبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام". وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا :أي ووصيناهم بالوالدين إحسانًا، بِرًا بهما وعطفًا عليهما ونزولًا عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى. أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده. وَذِي الْقُرْبى : والقربى : بمعنى الأرحام. والأرحامُ: هم كلُّ مَن تَربِطُك بهم رَحِمٌ أو قَرابةٌ مِن جِهةِ الأبِ أو الأمِّ، وقد حثَّ القرآنُ الكريمُ على صِلَتِهم، وحَذَّر أشَدَّ التَّحذيرِ مِن قَطْعِهم، قال تعالى" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ " محمد 22.فقطع الرحم من الفساد في الأرض. فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم"أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى".الراوي : سهل بن سعد الساعدي-صحيح البخاري." وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ" واليتيم هو من فقد أباه وهو طفل لم يبلغ مبلغ الرجال.. هذا في الإنسان.. أما في الحيوان فإن اليتيم من فقد أم وقدم اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك. وَالْمَساكِينِ: المسكين هو الذي يملك ما لا يكفيه. والإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم:قال" السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ."الراوي : أبو هريرة –صحيح البخاري.وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: أمر الله أولا بالإحسان بكل صوره المتاحة لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأ "إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ ."الراوي : أبو هريرة -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم- 2661 خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم في الدين والدنيا. أي: كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف.وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا ، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي . ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمعين من ذلك ، وهو الصلاة والزكاة. " أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَاكَثُرَالخَبَثُ." الراوي : زينب أم المؤمنين/ صحيح البخاري.وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: لأن الصلاة هي التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه. ثم الزكاة لما فيها من مجاهدة النفس و إصلاح شئون المجتمع. فالصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ"أ ي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه وفي قوله"وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له، فليس كل من تولّى عن شيء يكون معرضًا عنه. إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ: أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف. " وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"84. "ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"85. "أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ "86 ذكّر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك. أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبًا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدًا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث"تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى."الراوي : النعمان بن بشير/صحيح البخاري.وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم. "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ."عن أنس بن مالك/صحيح البخاري. وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة. فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدي كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟ فأنكر الله عليهم ذلك فقال" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ " وهو فداء الأسير " وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " وهو القتل والإخراج. وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى" فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسولَه عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى. " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ " وعذاب شديد وعظيم آجل في الآخرة . ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ " أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضات هذا الحليف المشرك. توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال" فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ " يوم القيامة بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات، " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعًا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار. |
#5
|
||||
|
||||
![]() من آية 87 إلى 96 " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ "87.
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل،قال تعالى"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ غ– وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"الحديد:16. من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب، وقد كان الشعب اليهودي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذّبوه، ومنهم من قتلوه. يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر، " وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " أي: قواه الله بروح القدس. قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده. ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم " بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ" عن الإيمان بهم، " فَفَرِيقًا "منهم " كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" أي فبعضا من هؤلاء الرسل تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عُرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم. فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى. " وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ"88. أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه ،وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به. وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ" ليس الأمر كما يدّعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله لعنهم بأن أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرّك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة. "وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ "89. "بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ "90. وَلَمَّا جاءَهُمْ: أي جاء لليهود . كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أي القرآن الكريم. مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ: أي مصدق لما جاء في التوراة . فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ: واللعن الطرد من رحمة الله. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: بئس ونعم: فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق. وقيل: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر. أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد الرسول الكريم وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة، وقد علموا به، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب، استنصروا بهذا النبي، ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.، وتوعدوهم بخروجه، وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا، كفروا به. بغيًا وحسدًا، حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فكتب الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.، فلعنهم الله، واستحقوا غضب الله عليهم غضبًا بعد غضب، قال ابن عباس : فالغضب على الغضب ، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم .فغضب الله عليهم لكثرة كفرهم وتوالي شكهم وشركهم. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله، وهو القرآن استكبروا وعتوا، وقالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل كالتوراة وغيرها. وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ : أي يكفرون بما بعده أو بما سواه من الكتب رغم أنه مصدقًا لما معهم من كتب، وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل .والواجب الإيمان بما أنزل الله مطلقًا، سواء أنزل عليهم، أو على غيرهم، وهذا هو الإيمان النافع، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل الله. وأما التفريق بين الرسل والكتب، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض، فهذا ليس بإيمان، بل هو الكفر . " قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه: إن كنتم صادقين حقا في اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقًا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال. وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين: إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغابرين قتلوا الأنبياء فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجًا من الدين، ولا رفضًا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء. " ولَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ".92. بِالْبَيِّناتِ:أي الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي موسى عليه السلام ، والمعجزات التي تؤيد نبوّته كالعصا واليد، ..... أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟. " وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "93. أخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق للعمل بما في التوراة رفع الجبل على رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف: 171. قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك"خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ" أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أُثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. وهنا قال"خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" أي استجيبوا وأطيعوا. أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، ومعنى اسمعوا أطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه. قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا: أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم "سَمِعْنا وَعَصَيْنا" بل كانوا بمثابة من قال ذلك- أي قالوا بلسان حالهم. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ : أي صار حبّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل ، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف. " قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي قل توبيخًا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان. وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهي حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن. ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال: " قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"94. أي إن صدق قولكم، وَصحَّتْ دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة. "دَنَا المُشْرِكُونَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ، قالَ: يقولُ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأنْصَارِيُّ: يا رَسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما يَحْمِلُكَ علَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قالَ: لا وَاللَّهِ يا رَسولَ اللهِ، إلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِن أَهْلِهَا، قالَ: فإنَّكَ مِن أَهْلِهَا، فأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِن قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ منهنَّ، ثُمَّ قالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتي هذِه إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قالَ: فَرَمَى بما كانَ معهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حتَّى قُتِلَ."صحيح مسلم. " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ "95. أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم. لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. والعرب تسند الفعل إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص. "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد. "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ "96. اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم، تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود..أي أحرص الناس على طول العمر ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة وطول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها. " يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ" وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع بما عنده من العلم . تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة ، يقول الله تعالى: اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك. " وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ" وما يحذرون واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص الناس على طول العمر. أي وما بقاؤه في هذه الدنيا بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له، فإن العمر مهما طال فهو مُنْتَهٍ لا محالة. |
#6
|
||||
|
||||
![]() من آية 97 إلى 101 " قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ"97. " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ "98. ثم ساق القرآن بعد ذلك لونًا عجيبًا من ألوان اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . "أي قل لهم أيها النبي حاكيًا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل . فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك،قل لهم: مَن عادى جبريلَ عليه السَّلام، فليعلمْ أنه هو الذي نزَل بالقرآن على قلبِك، وجبريل لا يَنزل بالأمر من تِلقاء نفْسه، وإنَّما ينزل بأمْر الله تعالى، وهذا يَعني أنَّهم بقولهم ذلك يُعادُون الله تعالى في الحقيقة؛ أمَّا جبريل فهو رسولٌ محضٌ أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها. فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقا من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟ لقد سمعوا أن جبريل- عليه السلام- ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل- أيضا- وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل- عليه السلام- نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم. ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر. "مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم. "وَهُدىً" أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان. "وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ" أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين. " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ "98.وهكذا أعطى الله سبحانه وتعالى الحُكْم.. فقال إن العداوة للرسل.. مثل العداوة للملائكة.. مثل العداوة لجبريل وميكائيل.. مثل العداوة لله. ولقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالملائكة ككل.. ثم ذكر جبريل وميكائيل بالاسم. ومعنى الآيتين الكريمتين، قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيدا لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديا لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير. - سَمِعَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، بقُدُومِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهْوَ في أرْضٍ يَخْتَرِفُ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ: فَما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامِ أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قالَ: أخْبَرَنِي بهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قالَ: جِبْرِيلُ؟: قالَ: نَعَمْ، قالَ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هذِه الآيَةَ"مَن كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنَّه نَزَّلَهُ علَى قَلْبِكَ بإذْنِ اللَّهِ" أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ نَزَعَتْ، قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وإنَّهُمْ إنْ يَعْلَمُوا بإسْلَامِي قَبْلَ أنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي، فَجَاءَتِ اليَهُودُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ عبدُ اللَّهِ فِيكُمْ. قالوا: خَيْرُنَا وابنُ خَيْرِنَا، وسَيِّدُنَا وابنُ سَيِّدِنَا، قالَ: أرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ. فَقالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فَخَرَجَ عبدُ اللَّهِ فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَقالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، وانْتَقَصُوهُ، قالَ: فَهذا الذي كُنْتُ أخَافُ يا رَسولَ اللَّهِ." الراوي: أنس بن مالك /صحيح البخاري. كان عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن يَهودِ المدينةِ، وذلك قبْلَ مَبْعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان حَبْرًا عالِمًا مِن عُلماءِ اليهودِ ويَعلَمُ مِن التَّوراةِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه لَمَّا عَلِمَ بقُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ بعْدَ الهِجرةِ إليها، جاءَه؛ لِيتأكَّدَ مِن كَونِه هو النَّبيَّ المُبشَّرَ به مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه سَيَسْألُه ثَلاثةَ أسئلةٍ لا يَعلَمُها إلَّا نَبيٌّ، وهذا يدُلُّ على عَظيمِ عِلمِ عَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ بالتَّوراةِ الحقيقيَّةِ قبْلَ أنْ تُحرَّفَ، حيث عَلِمَ منها أنَّ هذه الأسئلةَ لا يَعلَمُ الإجابةَ عنْها إلَّا نَبيٌّ حقٌّ، فسَأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أوَّلِ العَلاماتِ الكُبرى ليومِ القِيامةِ الدَّالَّةِ على اقترابِ وُقوعِها، وعن أوَّلِ طَعامٍ يَأكُلُه أهْلُ الجنَّةِ حِين يَدخُلونها، وما الَّذي يَجعَلُ الولدَ يُشبِهُ أباهُ؟ وما الَّذي يَجعَلُه يُشبِهُ أخوالَه؟ فأعْلَمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قدْ أخبَرَه بإجابةِ هذه الأسئلةِ قبْلَ ذلك، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ: جِبريلُ ذاك عدُوُّ اليَهودِ مِنَ الملائكةِ؛ وهذا مِن الأشياءِ الواهيةِ التي كانوا يتَعلَّلونَ بها لعَدَمِ إيمانِهم، وزَعَموا أنَّه يَنزِلُ بالحرْبِ والقِتالِ، وهلْ كان جِبريلُ عليه السَّلامُ إلَّا مَأمورًا مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ؟! وأجابَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أسئلتِه، فبَيَّن أنَّ أوَّلَ أشراطِ السَّاعةِ وعَلاماتِها الكُبرى: نارٌ تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرِقِ إلى المغرِبِ، وهذا هو الحشْرُ الأوَّلُ قبْلَ قِيامِ السَّاعةِ، تُسلَّطُ النَّارُ على النَّاسِ فَيَهرَبونَ منها، ثُمَّ يَموتونَ، ثُمَّ يُحشَرونَ إلى المحشَرِ، وقد جاءَ في صَحيحِ مسلمٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال"وَآخِرُ ذلك نارٌ تَخرجُ مِنَ اليمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إلى مَحشَرِهم"، وفي رِوايةٍ عندَ مُسلمٍ"نارٌ تَخرجُ مِن قَعْرِ عدَنٍ تُرَحِّلُ النَّاسَ"، وكَونُها تَخرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنٍ لا يُنافي حَشْرَها النَّاسَ مِنَ المَشرِقِ إلى المغرِبِ؛ وذلك أنَّ ابتداءَ خُروجِها مِن قَعْرِ عَدَنٍ، فإذا خرَجَتِ انتشرَتْ في الأرضِ كلِّها، والمرادُ بقولِه"تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرقِ إلى المغربِ" إرادةُ تَعميمِ الحَشْرِ لا خُصوصُ المشرِقِ والمغرِبِ، أو أنَّها بعْدَ الانتشارِ أوَّلَ ما تَحشُرُ تَحشُرُ أهلَ المشرِقِ. ثمَّ أخْبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أوَّلَ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجنَّةِ بعْدَ دُخولِها: هو زِيادةُ كَبِدِ الحُوتِ، وهي القِطعةُ المنفرِدةُ المتعلِّقةُ بالكَبدِ، وهي أطيَبُها وأهنأُ الأطعمةِ. وأمَّا الشَّبَهُ في الوَلدِ فأخْبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجلَ إذا جامَعَ المرأةَ، فسَبَقَها ماؤُه؛ كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبَقَ ماؤُها كان الشَّبهُ لها ولأخوالِه؛ وذلك أنَّ لكلٍّ مِن الرَّجلِ والمرأةِ ماءً مُختلفًا في الصِّفاتِ والخصائصِ، فإذا سَبَقَ أحدُهما غَلَبَت صِفاتُه وخَصائصُه، فجاء منه الشَّبهُ، فلمَّا سَمِعَ ذلك عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، شَهِدَ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولُ اللهِ حقًّا، ونَبيُّ اللهِ صِدقًا. ثُمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اليهودَ قَومٌ بُهتٌ، كذَّابونَ مُمارونَ لا يَرجِعونَ إلى الحقِّ، إنْ عَلِموا بإسلامِه قبْلَ أنْ يَسأَلَهم عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كَذَبوا عليه ووَصَفوه بما لَيس فيه، فلمَّا جاءتِ اليَهودُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دخَلَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه البيتَ حتَّى لا يَرَوه، فسَأَلَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رجُلٍ فيكم عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ؟ وما مَكانتُه عِندَكم مِن حيثُ العِلمُ والمنزلةُ؟ فقالوا مادِحِين: هو أعلَمُنا وابنُ أعلَمِنا، وأخْيرُنا وابنُ أخْيَرِنا! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَفرأَيْتم -أخْبروني- إنْ أسلَمَ عَبدُ اللهِ؛ فهل تُسلِمونَ؟ قالوا: أعاذَهُ اللهُ مِن ذلك، فخرَجَ عبدُ اللهِ مِنَ البيتِ إليهم، فقال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ! وعلى الفورِ غَيَّروا كَلامَهم فيه وبدَّلوا رَأْيَهم إلى عكْسِ ما ذَكَروا! فقالوا ذامِّين: هو شَرُّنا وابنُ شرِّنا ووَقَعوا فيه بأنْ قالوا فيه ما لَيسَ مِن صِفاتِه كَذِبًا وزُورًا، ألَا قاتَلَ اللهُ اليهودَ! وفي الحَديثِ: مِن عَلاماتِ نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إخبارُه عَن بَعضِ الأُمورِ الغَيبيَّةِ. وفيه: فَضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعبْدِ اللهِ بنِ سلَامِ رَضيَ اللهُ عنه. وفيه: أنَّ اليهودَ أهلُ كَذِبٍ وفُجورٍ، يَقولونَ ويفتَروَن على غيرِهم ما ليسَ فيه.الدرر. "وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ"90. أي: قد أنزلنا إليك- يا محمَّد- فيما أُوحي إليك من القُرآن، آياتٍ هي دلائل واضحة، دالَّةٍ على صِدق نبوَّتك. أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالاّت على نبوّتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب اللّه من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع اللّه في كتابه الذي أنزله على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. أي: قد أنزلنا إليك- يا محمَّد- فيما أُوحي إليك من القُرآن، آياتٍ هي دلائل واضحة، دالَّةٍ على صِدق نبوَّتك. " وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ " أي: هذه الآيات البيِّنات قد بلَغتْ من الوضوح والدَّلالة على الحقِّ، مَبلَغًا عظيمًا، ووصلتْ إلى حال لا يَجحدها ويمتنع من قَبولها إلَّا مَن خرَج عن دائرة الإيمان، والالتزام بشريعة الرَّحمن. " أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"100. بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الدين الإسلامي، وكتابه القرآن فيه من الآيات الواضحة ما يجعل الإيمان به لا يحتاج إلا إلى وقفة مع العقل مما يجعل موقف العداء الذي يقفه اليهود من الإسلام منافيا لكل العهود التي أخذت عليهم، منافيا للإيمان الفطري، ومنافيا لأنهم عاهدوا الله ألا يكتموا ما جاء في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لعهدهم أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لما طلب منهم موسى أن يؤمنوا بالإسلام عندما يأتي الرسول، مصداقا لقوله تعالى"وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين"آل عمران: 81. وهكذا نعرف أن موسى عليه السلام الذي أُخذ عليه الميثاق قد أبلغه إلى بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانوا يعرفون هذا الميثاق جيداً عند بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عندهم أوصاف دقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام.. ولكنهم نقضوه كما نقضوا كثيرا من المواثيق.. منها عهدهم بعدم العمل في السبت، وكيف تحايلوا على أمر الله بأن صنعوا مصايد للأسماك تدخل فيها ولا تستطيع الخروج وهذا تحايل على أمر الله، ثم كان ميثاقهم في الإيمان بالله إلها واحداً أحدا، ثم عبدوا العجل.. وكان قولهم لموسى عليه السلام بعد أن أمرهم الله بدخول واد فيه زرع.. لأنهم أرادوا أن يأكلوا من نبات الأرض بدلا من المن والسلوى التي كانت تأتيهم من السماء. حتى عندما رفع الله تبارك وتعالى جبل الطور فوقهم ودخل في قلوبهم الرعب وظنوا أنه واقع عليهم،"وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ".. وبمجرد ابتعادهم عن جبل الطور نقضوا الميثاق. ثم نقضوا عهدهم وميثاقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة تفصيلها في كتب السيرة. " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ "ما السبب في نبذ العهود ونقضها؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم لصدقوا الله وأوفوا بالعهود. " وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"101. أي: ولَمَّا أتى اليهودَ رسولٌ مرسَلٌ من قِبل الله عزَّ وجلَّ، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وقد جاءهم بصفته الموافقة لِما في التوراة من صِفاته وإثبات رِسالته، والتي يزعمون أنَّهم متمسِّكون وملتزمون بما فيها. " نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" أي: ترَك طائفةٌ من اليهود أصحابِ التوراة، العملَ بالتوراة التي أنزلها الله تعالى عليهم، بالدُّخول في دِين محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ترَكوا ذلك متجاهلين، وكأنَّهم لا يعلمون ما في التوراة من البشارة بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وذِكر صِفاته، والأمر باتِّباعه. وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب لتكذيب الوحي ويفتح الباب لترك الباقي. وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم. وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره. |
#7
|
||||
|
||||
![]() من آية 102 إلى 110 " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"102.مُناسبة الآية لِمَا قبلها: مَن ترَك ما يَنفعُه مع إمكانيةِ الانتفاعِ به، فإنَّه يُبتُلى بالاشتغال بما يضرُّه، فكذلك هؤلاء اليهودُ؛ فلَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّهم نبَذوا كتابَ الله، ذكَر اشتغالَهم بما يضرُّهم. فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ" أي: أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلًا منهم بما هم به عالمون اتَّبعوا ما تختلقُه الشياطينُ وتتقوَّلُه، من السِّحر على عهد سليمان، وتَنسُبه إليه، حيث أخرجت الشياطين للناس السِّحر، وزعَموا كذبًا أنَّ سليمان عليه السَّلام كان يستعمله، وأنه حصَل له به المُلك العظيم. " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " أي: إنَّ سليمانَ عليه السَّلام بريءٌ من تُهمة السِّحر التي أَلْصَقَها به اليهود، فلم يكُن كافرًا يمارس السِّحر، أو يُعلِّمه للآخرين؛ وذلك لأنَّ السِّحر كُفر، بل الذين كفروا بسبب السِّحر في الحقيقة هم الشياطين الذين يُعلِّمونه للناس؛ إضلالًا لهم ، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرًا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك. ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا. " وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ" أي: واتَّبع اليهود أيضًا السِّحرَ، الذي أُنزل على الملَكين: هاروت وماروت، في بابل من أرضِ العِراق. وكذلك اتبع اليهودُ السحرَ الذي أُنزل على الملَكين هاروت وماروت ، الكائنين بأرض " بابل " ، من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر ؛ امتحانًا وابتلاءً من الله لعباده ، فيعلمانهم السحر . فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس ، والإضلال ، ونسبته ، وترويجه ، إلى مَن برَّأه الله منه ، وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانًا مع نصحهما : لئلا يكون لهم حجة . فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تُعلِّمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين ، وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه . قال ابن كثير – رحمه الله : وقد روي في قصة " هاروت وماروت " عن جماعة من التابعين ، كمجاهد ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وأبي العالية ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين ، من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن : إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن ، على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال . تفسير ابن كثير " 1 / 360 . " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ". أي: وما يعلِّم هذانِ الملَكانِ السِّحرَ لأحدٍ من الناس، حتى يَنصحاه فيقولَا له: إنَّما نحن هنا لتعليم السِّحر؛ اختبارًا وابتلاءً لبني آدم، فلا تَكفُرْ بالله؛ بسبب تعلُّم السِّحر وممارسته. ثم ذكر مفاسد السحر فقال " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" أي: فيتعلَّم الناسُ السِّحرَ من المَلَكينِ بما يَتصرَّفون به تصرُّفاتٍ مذمومةً، من أعظمِها التفريقُ بين الزَّوجين، مع ما بينهما من المودَّة والرَّحمة. "وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ" أي: وما هؤلاء المتعلِّمون السِّحرَ من الملَكيْن، وفاعِلو تلك الأفعال القَبيحة، بضارِّين بذلِك أحدًا من الخَلْق، إلَّا بإذن الله تعالى الكوني، أي: بقُدرته ومشيئته سبحانه . "وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ." أي: إنَّ السِّحرَ الذي يتعلَّمه هؤلاء المشتغِلون به ضررٌ محضٌ عليهم في الدنيا، ليس فيه نفْعٌ مطلقًا . "وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ" أي: قد علِم أولئك اليهودُ أنَّ مَن استبدل السِّحرَ بكتاب الله تعالى ومتابعةِ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، أنَّه ليس له في الآخِرة حظٌّ ولا نصيبٌ من الجَنَّة . "وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ". أي: ولبئس البديلُ السِّحرُ الذي تعلَّموه، بديلًا عن كِتاب الله تعالى، ومتابعة رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام، لو كانوا يَعلمون أنَّهم إنَّما باعُوا أنفسَهم، وحظَّهم من الآخِرة بما يَضرُّهم في الدُّنيا أيضًا، ولا ينفعهم . "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "103. أي: إنَّهم لو اختاروا الإيمانَ والتقوى بدلَ السِّحرِ، لكان اللهُ يثيبُهم على ذلك ما هو خيرٌ لهم ممَّا طلبوه في الدُّنيا لو كانوا يَعلمون، فيَحصُل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير، الذي هو جَلْب المنفعة ودفْع المضرَّة، ما هو أعظمُ ممَّا يُحصِّلونه بالسِّحر من خير الدُّنيا، مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثَّواب في الآخِرة. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ "104. كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين" رَاعِنَا" راعِنا من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فيقصدون بها معنى صحيحًا، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون " رَاعِنَا" يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم في الحقيقة يريدون بها معنى فاسدًا والإساءة إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة التي هي الحمق والخفة، فنهى الله- تعالى- المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه. فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن . " وَقُولُوا انْظُرْنَا " فكلمة " انْظُرْنَا " كافية يحصل بها المقصود من غير محذور ، وتفيد معنى الإنظار والإمهال لحفظ ما تلقيه علينا وفهمه ، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. "وَاسْمَعُوا " لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة. "وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ" الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم، لذا توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع. " ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"105. مَا يَوَدُّ :أي: ما يحب، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه. وفي التعبير بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم الذي أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه. وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام- أيضا- يضاهون كفرة أهل الكتاب، في كراهة نزول أي خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم من دين قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف. مِنْ خَيْرٍ :والخير: النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع. وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم. والمشركون كرهوا ذلك- أيضًا- لأن في انتشار الإسلام، وفي تنزيل الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها. "وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ". أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يصيره سخط الساخطين، ولا يحوّل مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدًا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه . وقوله تعالى" وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده- تعالى- يتفضل به عليهم، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنى أصطفي للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأماني، ولكني أهبها لمن هو أهل لها. "ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 106. النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل: أي أزالته،النسخ شرعًا: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه.وبتعبير آخر النسخ هو : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولًا، لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكما بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا.ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب، بل أنزل الله- تعالى- آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور، ليزداد المؤمنون إيمانا، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض. أَوْ نُنْسِها : والإنساء: أي: أو ما نُزِلْه من الآيات؛ فنَمْحُه من قلبِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنهم. وحكمة النسخ: أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هي للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها: أي نأتِ بخيرٍ من الذي نسخناه أو محوناه من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أو بمثله في خيريَّته ووجوه نفْعه. وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتًا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شيء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته، ثم أقام دليلًا آخر فقال: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"107. فإذا كان مالكًا لكم, متصرفًا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه. أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل ملكه وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقدر ما شاء منها بحكمته سبحانه . يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ : الولي هو من يواليك ويحبك.. والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي.. الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم وليٌّ ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم. فهو سبحانه ولي عباده, ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه. " أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ"108. ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم.. ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله" أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ"والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى"يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً "النساء:153. فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم، وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم، بل كانت ظاهرة لهم واضحة، دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته.. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.. أي لم تكفهم هذه المعجزات.. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار.. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنمًا يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ: أي: مَن أخذ الكفر عِوضًا عن الإيمان. فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: الضلال؟.. هو أن تسلك سبيلًا لا يؤدي بك إلى غايتك.. و سَوَاءَ السَّبِيلِ :السواء هو الوسط ، فقد حادَ عن وسَط الطريق، وانحرَف إلى جوانبه التي تُفضِي به إلى طُرق الهلاك.فيشبهه بالطريق الذي أطرافه وعرة لا تصلح للسير.. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات. ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد المستقيم ، في وسط الطريق فهم فيه لن يضلوا يمينًا ولا يسارًا بل يسيروا على الطريق المستقيم طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إلى الكفر. " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"109. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا: أي: إنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى يتمنَّون بكلِّ قلوبهم أن يرتدَّ المؤمنون عن دِينهم، فيَكفروا . انظر دقة التعبير القرآني في قوله تعالى" كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ".. فكأن بعضهم فقط ولو كَثر ؛ هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم وقد سعَوا في ذلك، وأعمَلوا المكايد، كما قال تعالى" وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "آل عمران: 72. وقال سبحانه عن المنافقين"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً " النساء: 89. حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ: أي: إنَّ تلك الأمنيةَ الصادرة عن كثيرٍ من أهل الكتاب؛ سببُها الحسدُ المتمكِّن والمتأصِّل في نفوسهم، للمؤمنين على ما آتاهم اللهُ تعالى من فَضلِه، بالهداية إلى دِينه القويمِ، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره.،وهذا الحسَد إنَّما صدَر منهم بعدَ أن تبيَّن لهم الحقُّ المبِين، أي بعد ما تأكدوا من التوراة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم. " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَاعْفُوا :يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته.. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله.. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء. وَاصْفَحُوا :والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك. فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه. حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ: حتى يأتي نصر الله لكم بمعونته وتأييده. وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات. ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله: "إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته"وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". الحج:40. ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال: " وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"110. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: لما في الصلاة من توثيق عرى الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم في المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر وَآتُوا الزَّكاةَ :لما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم له باقي الأعضاء بالحمى والسهر. وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته. وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال: "وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ" أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم. ونحو الآية قوله"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ". ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه. ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال: "إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها. ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب. |
![]() |
|
|