العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى المعتقد الصحيح > ملتقى المعتقد الصحيح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-08-2017, 04:11 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

الحَكَمُ العدل
أي هو تعالى الملك الحكمُ الذي له الحكم في الدنيا والآخرة.
ففي هذه الدار لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية، بل ما حكم به قدرًا نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يخرج المكلفون عن أحكامه الشرعية التي هي أحسن الأحكام، والتي هي صلاح الأمور وكمالها، ولا يستقيم لهم دين ورشد إلا باتباع هذه الأحكام
التي شرعها على ألسنة رسله "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "
المائدة: 50 ، "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا "الأنعام: 114 .
وفي الآخرة لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعاتُ كلُّها منطويةٌ تحت إرادته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا حكم بالشفاعة.
وهذه الأحكام كلُّها بالحكمة والعدل، فهو الحكم العدل الذي تمت كلماته صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فأوامره كلُّها عدل لأنَّها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلُّها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار. وهي أيضًا مقرونة برحمته وحكمته، ومجازاته للعباد بأعمالهم، عدلٌ لا يهضم أحدًا من حسناته، ولا يزيد في سيئاتهم أو يعذبهم بغير جرم اجترحوه، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "الإسراء: 15 .
وحكمه بين العباد كلُّه مربوطٌ بالعدل، فلا يمنع أحدًا حقه، ولا يغفل عن الظالمين، ولا يضيع حقوق المظلومين، فعدله تعالى شاملٌ للخليقة كلِّها حتى الحيوانات غير المكلفة فإنَّه يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء من كمال عدله.
ومن كمال عدله: أنَّه أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا "الإسراء: 15 .
ومن كمال عدله: أنَّه أعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقدرة على أفعالهم والإرادة، ومكنهم من جميع ما يريدون ولم يجبرهم على أفعالهم.
فَعَدْلُهُ وحكمته ورحمته يبطل بها مذهبُ الجبرية، كما أنَّ كمال قدرته ومشيئته وشمولَها لكلِّ شيء حتى أفعال العباد تُبطل مذهب القدرية الذين يزعمون أنَّهم أهل العدل وهم في الحقيقة أهل الظلم.
فالحق هو ما ذهب إليه أهل السنة، وهو ما دلت عليه البراهين العقلية والبراهين النقلية ودلت عليه أسماؤه الحسنى، كما نبّهنا عليه أنَّ أفعال العباد واقعةٌ تحت اختيارهم وإراداتهم خيرَها وشرَها، ومع ذلك فلا خروج لها عن قضائه وقدره.
الفـتّـاح
للفتَّاح معنيان:
أحدهما: يرجع إلى معنى الحَكَم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه، ويحكم بينهم بإثابة الطائعين وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى"قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ "26:سبأ ، "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ "الأعراف: 89 . فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات.
المعنى الثاني: فتحه لعباده جميع أبواب الخيرات. قال تعالى"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا "فاطر: 2: الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويُدِرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، وأخص من ذلك أنَّه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علومًا ربانية، وأحوالاً روحانية، وأنوارًا ساطعة، وفهومًا وأذواقًا صادقة.
ويفتح أيضًا لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة.
الـرزّاق
الذي تكفل بأرزاق المخلوقات كلِّها، وأوصل إليها أرزاقها ومعائشها، وعلم أحوالها وأماكنها، "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "6:هود. يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وقد هيأ لعباده في الأرض جميع الأرزاق.
قال تعالى"أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) "عبس .
والله تعالى هو الرزاق الذي يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان، ما تتغذى به وتنمو وتكمل، ويرزق الحيوانات كلَّها من أصناف الأغذية ما تتغذى به وتنمو نموها اللائق بها. فينبغي للعبد إذا سأل الله الرزق أن يستحضر الأمرين بأن يرزقه رزقًا حلالاً واسعًا، ويرزق قلبه العلم والإيمان والعرفان.
ورزقه لعباده أيضًا نوعان:
نوع له سبب، كما جعل الله الحراثة والتجارة والصناعة وتنمية المواشي والخدمة ونحوها طرقاً يرتزق بها جمهور الناس. قال تعالى"وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ "الحجر: 20. أي أسبابًا ترتزقون بها.
ونوع يرزق الله به عبده بغير سبب منه، كأن يقيض الله له رزقاً قدرياً سماوياً محضاً، أو على يد غيره من غير أن يكون من المرتزق سعيٌ في ذلك، لأجل الاحتراز عن السؤال فإنَّه من جملة الحرف، ولأجل الاحتراز عمن تجب نفقته عليه من زوج أو قريب أو سيد أو مالك، فإنَّ هذه إما من عمل الإنسان ـ يعني من آثار عمله ـ وإما أن يكون تابعًا لغيره.
ولكن نريد أنَّه يوجد بعض المخلوقات لا شيء عندها، ولا عمل لها ولا سعي منها، إما عاجزة عجزًا كليًا، أو كسلانة عن طلب معيشتها. والله تعالى قد قدّر لها من ألطاف رزقه ما تستغني به من وجوه لا تحتسبها وطرق لا ترتقبها، "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "60"العنكبوت .
ومن لطائف رزقه أنَّه قد يرد على الإنسان العاجز عن إدراك رزقه قوةُ حال وقوة توكل، ييسّر الله له بسببها رزقاً عاجلاً، وقد يأتيه ذلك بدعوة مستجابة وخصوصاً عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ "النمل: 62 .
فكما أنَّ الباري إذا رأى عبده مضطرًا إلى كفايته، منقطعًا تعلقه بغيره أجاب دعوته وفرّج كربته، فكذلك المضطر إلى طعام أو شراب متى وصل إلى حالة ييأس فيها من كلِّ أحد ويوقن بالهلاك، أتاه من رزق ربه وألطافه ما به يعرف غاية المعرفة أنَّ الله هو المرجو وحده لكشف الشدائد والكروب، فكم من الوقائع الكثيرة في هذا الباب الدالة على لطف الملك الوهاب.
ومن ألطاف رزقه أنَّ كثيرًا من المرضى يبقون مدة طويلة لا يتناولون طعامًا ولا شرابًا، والله تعالى يعينهم على تماسك أبدانهم فضلاً منه وكرمًا، ولو بقي الصحيح بعض هذه المدة عن الطعام والشراب لهلك.
ومن لطائف رزقه أنَّ الأجنَّةَ في بطون الأمهات جعل غذاءها في أرحام الأمهات بالدم الذي يجري مع عروقها، لأنَّها لا تحتمل غذاء تأكله وتشربه، ولو فرض ذلك لأضرّ به في الرحم، وأضرّ بأمه بما يخرج منه من الفضلات، ثم لما وضعت الحوامل أولادها وكان من ضعفه لا يحتمل الأغذية العادية، أجرى له الباري من ثديي أمه لبنًا لطيفًا خالصًا سائغًا للشاربين، فيه الغذاء الطعامي والغذاء الشرابي، فلم يزل كذلك حتى قوي على تناول الأطعمة الغليظة.
وكذلك لما كان في حال وضعه غير مقتدر على مباشرة ذلك بنفسه، حنّن اللّهُ الأمهاتِ من الآدميين والحيوانات، وأوقع في قلوبها الرحمة العظيمة والرقة على أولادها، فأعانت أولادها على تناول الأرزاق والأغذية. فتبارك الله اللطيف الخبير.
وتنوعُ الأرزاق وكثرة فنونها لا يحصيها وصف الواصفين، ولا تحيط بها عبارات المعبِّرين.

الواحد الأحد الفرد
أي هو الواحد المتفرِّد بصفات المجد والجلال، المتوحِّد بنعوت العظمة والكبرياء والجمال، فهو واحد في ذاته، وواحد في أسمائه لا سمي له، وواحد في صفاته لا مثيل له، وواحد في أفعاله لا شريك له ولا ظهير ولا عوين، وواحد في ألوهيته فليس له ندّ في المحبة والتعظيم، ولا له مثيل في التعبد له والتأله، وإخلاص الدين له، وهو الذي عظمت صفاته ونعوته حتى تفرد بكلِّ كمال، وتعذر على جميع الخلق أن يحيطوا بشيء من صفاته أو يدركوا شيئًا من نعوته، فضلاً عن أن يماثله أحد في شيء منها.
فأحديته تعالى تدل على ثلاثة أمور عظيمة:
ـ نفي المثل والندّ والكفؤ من جميع الوجوه.
ـ وإثبات جميع صفات الكمال بحيث لا يفوته منها صفة ولا نعت دال على الجلال والجمال.
ـ وأنّ له من كلِّ صفة من تلك الصفات أعظمَها وغايتها ومنتهاها "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى "النجم .

الصـمـد
أي السيد العظيم الذي قد كمل في علمه وحكمته وحلمه وقدرته وعزَّته وعظمته وجميع صفاته، فهو واسع الصفات عظيمها، الذي صَمَدَت إليه جميعُ المخلوقات، وقصدته كلُّ الكائنات بأسرها في جميع شؤونها، فليس لها ربٌ سواه، ولا مقصود غيره تقصده وتلجأ إليه في إصلاح أمورها الدينية، وفي إصلاح أمورها الدنيوية، تقصده عند النوائب والمزعجات، وتضرع إليه إذا عرتها الشدَّات والكربات، وتستغيث به إذا مسَّتها المصاعب والمشقات، لأنَّها تعلم أنَّ عنده حاجاتها، ولديه تفريج كرباتها لكمال علمه وسعة رحمته، ورأفته وحنانه، وعظيم قدرته وعزته وسلطانه.

الغني المغني
قال تعالى"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15" إلى " وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى 48"النجم ، فهو تعالى الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه، ولا يمكن إلا أن يكون غنيًا لأنَّ غناه من لوازم ذاته، فكما لا يكون إلا خالقًا رازقًا رحيمًا محسنًا، فلا يكون إلا غنيًا عن جميع الخلق لا يحتاج إليهم بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكونوا كلُّهم إلا مفتقرين إليه من كلِّ وجه، لا يستغنون عن إحسانه وكرمه وتدبيره وتربيته العامة والخاصة طرفة عين.
ومن كمال غناه: أنَّ خزائن السموات والأرض بيده، وأنَّ جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأنَّ يديه سحاء في كلِّ وقت.
ومن كمال غناه: أنَّه يدعو عباده إلى سؤاله كلَّ وقت ويعدهم عند ذلك بالإجابة، ويأمرهم بعبادته، ويعدهم القبول والإثابة، وقد آتاهم من كلِّ ما سألوه، وأعطاهم كلَّ ما أرادوه وتمنوه.
ومن كمال غناه: أنَّه لو اجتمع أهل السموات والأرض، وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه كلَّما تعلقت به مطالبهم، فأعطاهم سؤلهم، لم ينقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.
ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه، ما يبسطه على أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والنعم المتفننات مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فهو الغني بذاته، المُغني جميع مخلوقاته، أغنى عباده بما بسط لهم من الأرزاق، وما تابع عليهم من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وبما يسَّره من الأسباب الموصلة إلى الغنى.
وأخصُّ من ذلك أنَّه أغنى خواص عباده بما أفاضه على قلوبهم من المعارف والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به ولم يلتفتوا إلى أحد سواه.
وهذا هو الغنى العالي كما قال (صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنَّما الغنى غنى القلب» - رواه البخاري (رقم: 6446) ومسلم (رقم: 1051).-. فمتى غَنِيَ القلبُ بالله وبما فيه من المعارف وحقائق الإيمان، وغني برزقه وقنع به وفرح بما أعطاه الله، صار العبد الذي وصل إلى هذه الحال لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاسات، لأنَّه حصل له الغنى الذي لا يبغي به بدلاً، والذي به يطمئن القلب وتسرُّ به الروح، وتفرح به النفس.
فنسأل الله أن يغني قلوبنا بالهدى والنور والمعرفة والقناعة، وأن يمدنا من واسع فضله وحلاله.

ذو الجلال والإكرام
وردت في القرآن مقرونة في عدة مواضع. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» -- رواه أحمد: (4/177)، والترمذي (رقم: 3525)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 1536).-. وهذان الوصفان العظيمان للرب يدلان على كمال العظمة والكبرياء والمجد والهيبة، وعلى سعة الأوصاف وكثرة الهبات والعطايا، وعلى الجلال والجمال، ويقتضيان من العباد أن يكون الله هو المعظَّم المحبوب الممجَّد المحمود المخضوع له المشكور، وأن تمتلئ القلوب من هيبته وتعظيمه وإجلاله ومحبته والشوق إليه.

بديع السموات والأرض
أي خالقهما ومبدعهما بأحسن خلقة ونظام، وأبدع هيئة وصفة، قد تمت فيهما أوصاف الحسن ونهاية الحكمة، وأودع فيهما من لطائف صنعته وعجائب قدرته وأسرار خلقته ما يشهد لمبدعها بكمال الحكمة، وسعة الحمد، وواسع العلم، ولطيف اللطف، ودقيق الخبرة.
الرب، ورب العالمين
الذي ربّى جميع المخلوقات بنعمه، وأوجدها وأعدّها لكلِّ كمال يليق بها، وأمدها بما تحتاج إليه. أعطى كلَّ شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق لما خلق له، وأغدق على عباده النعم، ونمّاهم وغذّاهم وربّاهم بأكمل تربية.
وتربيته وربوبيته تعالى نوعان:
ربوبية عامة لكلِّ مخلوق برّ وفاجر، وهو عموم الخلق والرزق والتدبير والإنعام بكلِّ نعمة، فليس له شريك في شيء من ذلك.
وتربية خاصة لأوليائه، ربّاهم فوفقهم للإيمان به والقيام بعبوديته، وغذّاهم بمعرفته ونمّى ذلك بالإنابة إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسّرهم لليسرى، وجنّبهم العسرى، ويسّرهم لكلِّ خير، وحفظهم من كلِّ شر.
ولهذا كانت أدعيةُ الأنبياء وأولي الألباب والأصفياء الواردةُ في القرآن باسم الرب استحضارًا لهذا المطلب، وطلبًا منهم لهذه التربية الخاصة، فتجد مطالبهم كلَّها من هذا النوع، واستحضار هذا المعنى عند السؤال نافع جدًا.
ومن أسمائه تعالى: المُعِز، المُذِل، الخافض الرافع، المعطي المانع، المحيي المميت، القابض الباسط.
وهي من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر، لأنَّ الكمال المطلق باجتماعها. ووردت هذه في القرآن على
وجه الإخبار عنه بها بالفعل، لأنَّها من معاني الربوبية، ومن معاني الملك، فيغني عنها اسم الرب والملك، فإنَّ هذه المعاني العظيمة من معاني
الملك، فإنَّ الملِك من صفاته أنَّه يعزّ ويذل، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، بحسب علمه وحكمته ورحمته، كما أنَّه يحيي ويميت ويداول الأيام بين الخليقة.
الودود
أي المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونِعَمِه الخفية والجليَّة، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود، يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلمّا أحبوه أحبهم حبًا آخر جزاء لهم على حبِّهم.
فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال.
والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعًا وقدرًا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم.
فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه.
ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "14:البروج .
ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» -رواه البخاري (رقم: 6502).-.

وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من
الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه
وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعًا لهذه المحبة.
أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل.
وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضًا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله"كُلُوا وَاشْرَبُوا "الأعراف: 31. ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم.
وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.
فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه.
الحليم الصبور، الشاكر الشكور
في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله،يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم»
- رواه مسلم (رقم: 2804).-. فصبره تعالى على معاصي العاصين، ومحاربة المحاربين، صبرٌ عن قوة واقتدار، وهو الصبر الكامل، فإنَّ العباد يتبغضون إليه بالمعاصي وهم مضطرون إليه، وهو يتحبَّب إليهم بالنعم مع كمال غناه، وهو تعالى يحلم عن زلاَّتهم ويسترهم مع كثرة هفواتهم، ويتمادون في الطغيان والله تعالى لا يزيده ذلك إلا حِلمًا وكرمًا.
ومن حِلمه تعالى أنَّ العبد يسرف على نفسه، والله تعالى قد أرخى عليه حِلمه، فإذا تاب العبد وأناب فكأنَّه ما جرى منه جرم، ومع كمال حلمه وصبره فهو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وإذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيرًا والصغير كبيرًا، ويتحمل عبدُه من أجله بعضَ المشاق، فيشكر الله له ويقوم بعونه ويكون معه، فتنقلب تلك المشاق والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات.
الـرقـيـب
أي المطّلع على ما في القلوب، وما حوَته العوالم من الأسرار والغيوب، المراقب لأعمال عباده على الدوام، الذيأحصى كلَّ شيء، وأحاط بكلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء وإن دقَّ، الذي يعلم ما أسرّته السرائر، من النيات الطيبة والإرادات الفاسدة.
ومن تعبّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأنَّ من علم أنَّه رقيب على حركات قلبه وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، واستدام هذا العلم، فإنَّه لا بد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سرٌ عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة.
القريب المجيب
أي هو تعالى القريب لكلِّ أحد، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وقربه تعالى نوعان:
قربٌ عام بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته، فهو أقرب إلى كلِّ أحد من نفسه.
وقربٌ خاص من عابديه وداعيه ومحبيه، قرب لا يُدْرَكُ له حقيقة، وإنَّما تُعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، وحضور القلب عنده في تلك الحال التي حصل فيها القرب.
ومن آثاره: الإجابةُ للداعين والإثابة للعابدين، وما أحسن اقتران القريب بالمجيب. قال تعالى"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ "البقرة: 186 ، وقال تعالى"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "غافر: 60 .
فهو المجيب إجابة عامة للدَّاعين مهما كانوا وأين كانوا، وعلى أيِّ حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق.
وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه. ولهذا عقَّب ذلك بقوله"فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، أي فإذا استجابوا لي أجبتهم. وتقدم الحديث الذي فيه حالة المحب المستجيب لربه بفعل النوافل بعد الفرائض، وأنَّ الله يقول: «ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن أستعاذني لأعيذنَّه» - تقدم ص50-.

وهو المجيب أيضاً إجابة خاصة للمضطرين كما قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] ، وكذلك من انقطع رجاؤه من المخلوقين وقوي طمعه وتعلقه بالله رب العالمين، فما أسرع الإجابة لهذا، وكلَّما قويت حاجة العبد وقوي طمعه بربِّه حصل له من الإجابة بحسب ذلك.
الحسيب الكافي الحفيظ


أي: هو الكافي عباده كلَّما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلَّما يكرهون فكفايته عامة وخاصة.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-08-2017, 09:22 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

أما العامة فقد كفى تعالى جميع المخلوقات، وقام بإيجادها وإرزاقها وإمدادها وإعدادها لكلِّ ما خلقت له، وهيأ للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويقنيهم ويطعمهم ويسقيهم.
وأما كفايته وحسبه الخاص فهو كفايته للمتوكِّلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين. قال تعالى"وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ "الطلاق: 3. أي كافيه كلَّ أموره الدينية والدنيوية. وقال تعالى"أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ"لزمر: 36.أي: من قام بعبوديته الظاهرة والباطنة كفاه الله ما أهمَّه، وقام تعالى بمصالحه، ويسر له أموره.
قال تعالى"وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا "الطلاق: 2. أي من جميع المكاره والمضايق، "وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ "الطلاق: 3 .
وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل، بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقويت ثقته وحسن ظنه بربه حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدَّده في أقواله وأفعاله، وكفاه همَّه وجلا غمه.
ومن معاني الحسيب أنَّه الحفيظ على عباده كلَّما عملوه، أحصاه الله ونسوه، وعلم تعالى ذلك، وميّز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحق من الجزاء ومقداره من الثواب والعقاب. فهو في هذا المعنى بمعنى الحفيظ، وللحفيظ أيضًا معنى آخر يقارب معنى الكافي الحسيب، وهو الذي تكفل بحفظ مخلوقاته وإبقائها، "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا "فاطر: 41 . فهذا حفظ عام.
وأما الحفظ الخاص فقد قال صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك»- رواه أحمد (1/293)، والترمذي (رقم: 2516)-. . فمن حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحفظ فرجه ولسانه وجميع أعضائه، وحفظ حدود الله فلم يتعدها، حفظه الله في دينه من الشبهات القادحة في اليقين، وحفظه من الشهوات والإرادات المناقضة لما يحبه الله ويرضاه، وحفظ عليه إيمانه "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ "البقرة: 143 ، وحفظ الله عليه دنياه، وحفظه في أولاده وأهله ومن يتصل به.

وكذلك ينقله الله من حالة أعلى من ذلك - كذا في الأصل ولعلها «إلى حالة أعلى من ذلك».، وهي أنَّه من حفظ الله وجده أمامه وتجاهه يسدِّده ويوفقه، وتحصل له معية الله الخاصة التي لا تحصل إلا لخواص الخلق.

الأول الآخر، الظاهر الباطن

قد فسَّرها صلى الله عليه وسلم بتفسير جامع واضح، حيث قال في دعاء الاستفتاح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» - رواه مسلم (رقم: 2713). وهو في أذكار النوم-. فبيَّن معنى كلِّ اسم ونفى ما يناقضه، وهذا أعلى درجات البيان. وهنا نكتفي بهذا التفسير والبيان الذي لا يُحتاج إلى غيره.


الواسع

أي واسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، فجميع العوالم العلوية والسفلية الظاهرة والباطنة كلُّها لله.

قال تعالى"وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "البقرة . وواسع العلم والحكمة، وعام القدرة، ونافذ المشيئة، وواسع الفضل والإحسان والرحمة، "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا "غافر: 7 .

ومن لطائف التعبد لله باسمه الواسع، أنَّ العبد متى علم أنَّ الله واسع الفضل والعطاء وأنَّ فضلَه غير محدود بطريق معين، بل ولا بطرق معينة، بل أسباب فضله وأبواب إحسانه لا نهاية لها أنَّه لا يعلق قلبه بالأسباب، بل يعلقه بمسبِّبها، ولا يتشوش إذا انسدَّ عنه باب منها، فإنَّه يعلم أنَّ الله واسع عليم، وأنَّ طرق فضله لا تعد ولا تُحصى، وأنَّه إذا انغلق منها شيء انفتح غيره مما قد يكون خيرًا وأحسن للعبد عاقبة.
قال تعالى مشيراً إلى هذه الحال التي كثير من الناس لا يوفقون لها، "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ "النساء: 130 ، لما كانت هذه الحال وهي حال الفراق يغلب على كثير من الزوجات الحزن، ويكون أكبر داع لهذا الحزن ما تتوهمه من انقطاع رزقها من هذه الجهة التي تجري عليها، فوعد الله الجميع وبشّرهم بفتح أبواب الخير لهم، وأنَّه سيعطيهم من واسع فضله.
وكم من عبد بهذه المثابة له سبب وجهة من الجهات التي يجري عليه الرزق، فانغلقت ففتح الله له باباً أو أبواباً من الرزق والخير. وبهذا يُعْرَفُ الله ويُعْلَمُ أنَّ الأمور كلَّها منه، وأنَّه "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ "فاطر: 2 .
ومن سعته وفضله: مضاعفة الأعمال والطاعات، الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة بغير عد ولا حساب.
ومن سعته: ما احتوت عليه دار النعيم من الخيرات، والمسرَّات والأفراح واللذات المتتابعات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فخير الدنيا والآخرة وألطافهما من فضله وسعته، وجميع الأسباب والطرق المفضية إلى الراحات والخيرات كلُّها من فضله وسعته.
النور الهادي الرشيد
النور من أوصافه تعالى على نوعين:
نور حسي: وهو ما اتصف به مـن النور العظيم، الذي لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ونور جلاله ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا النور لا يمكن التعبير عنه إلا بمثل هذه العبارة النبوية المؤدية للمعنى العظيم، وأنَّه لا تطيق المخلوقات كلُّها الثبوت لنور وجهه لو تبدَّى لها، ولولا أنَّ أهل دار القرار يعطيهم الرب حياة كاملة، ويعينهم على ذلك لَمَا تمكنوا من رؤية الرب العظيم. وجميع الأنوار [في]]- ما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق. السموات العلوية كلُّها من نوره، بل نور جنات النعيم التي عرضها السموات والأرض ـ وسعتُها لا يعلمها إلا الله ـ من نوره، فنور العرش والكرسي والجنات من نوره، فضلاً عن نور الشمس والقمر والكواكب.
والنوع الثاني: نوره المعنوي وهو النور الذي نوّر قلوب أنبيائه وأصفيائه وأوليائه وملائكته، من أنوار معرفته وأنوار محبته، فإنَّ لمعرفته في قلوب أوليائه المؤمنين أنوارًا بحسب ما عرفوه من نعوت جلاله، وما اعتقدوه من صفات جماله، فكلُّ وصف من أوصافه له تأثير في قلوبهم، فإنَّ معرفة المولى أعظم المعارف كلِّها، والعلم به أجلّ العلوم، والعلم النافع كلُّه أنوار في القلوب، فكيف بهذا العلم الذي هو أفضل العلوم وأجلّها وأصلها وأساسها.
فكيف إذا انضم إلى هذا نور محبته والإنابة إليه، فهنالك تمتلئ أقطار القلب وجهاتُه من الأنوار المتنوعة وفنونِ اللذات المتشابهة في الحسن والنعيم.
فمعاني العظمة والكبراء والجلال والمجد، تملأ قلوبهم من أنوار الهيبة والتعظيم والإجلال والتكبير.
ومعاني الجمال والبر والإكرام: تملأها من أنوار المحبة والود والشوق.
ومعاني الرحمة والرأفة والجود واللطف: تملأ قلوبهم من أنوار الحب النامي على الإحسان، وأنوار الشكر والحمد بأنواعه والثناء.

ومعاني الألوهية: تملأها من أنوار التعبد، وضياء التقرُّب، وسناء التحبُّب، وإسرار التودُّد، وحرية التعلق التام بالله رغبة ورهبة، وطلباً وإنابة، وانصراف القلب عن تعلقه بالأغيار كلِّها.
ومعاني العلم والإحاطة والشهادة والقرب الخاص: تملأ قلوبهم من أنوار مراقبته، وتوصلهم إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات كلِّها؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك.
فكلُّ معنى ونعت من نعوت الرب يكفي في امتلاء القلب من نوره، فكيف إذا تنوّعت وتواردت على القلوب الطاهرة الزكية الذكية، وهنا يصدق على هذه القلوب القدسية انطباق هذا المثل عليها، وهو قوله"مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ِ "النور: 35. الآية.
وهذا النور المضروب هو نور الإيمان بالله، وبصفاته وآياته مثله في قلوب المؤمنين مثل هذا النور الذي جمع جميع الأوصاف التي فيها زيادة النور، وهو أعظم مثل يعرفه العباد. وقد دعا صلى الله عليه وسلم لحصول هذا النور فقال: «اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم اجعلني نورًا» -- رواه مسلم (رقم: 763). .
ومتى امتلأ القلب من هذا النور فاض على الوجه، فاستنار الوجه، وانقادت الجوارح بالطاعة راغبة. وهذا النور الذي يكون في القلب هو الذي يمنع العبد من ارتكاب الفواحش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» - رواه البخاري (رقم: 2475)، ومسلم (رقم: 57)-.. فأخبر أنَّ وقوع هذه الكبائر لا يكون ولا يقع مع وجود الإيمان ونوره.
والهادي الرشيد من أسمائه الحسنى هما بمعنى النور بهذا المعنى، فالله يهدي ويرشد عباده إلى مصالح دينهم ودنياهم، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم هداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.
فالله خلق المخلوقات فهداها الهداية العامة لمصالحها، وجعلها مهيئة لما خلقت له، وهدى هداية البيان، فأنزل الكتب وأرسل الرسل، وشرع الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، وبيّن أصول الدين وفروعه، وعلوم الظاهر والباطن، وعلوم الأولين والآخرين، وهدى وبيّن الصراط المستقيم الموصل إلى رضوانه وثوابه، ووضّح الطرق الأخرى ليحذَرَها العباد، وهدى عباده المؤمنين هداية التوفيق للإيمان والطاعة، وهداهم إلى منازلهم في الجنة، كما هداهم في الدنيا إلى سلوك أسبابها وطرقها.
ولهذا يقول أهل الجنة حين تتم عليهم نعمة الهداية"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ "الأعراف: 43 . وقال تعالى"مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ "178:الأعراف .
والهداية المطلقة التامة هي الهداية التي يسألها المؤمنون ربهم في قوله: {2 3 4 : 6! ! } أي اهدنا إليه واهدنا فيه. وفي قول الداعي: «اللهم اهدنا فيمن هديت» -- جزء من حديث «قنوت الوتر» رواه الإمام أحمد (1/200)، وغيره..
وللرشيد معنى آخر بمعنى الحكيم، فهو الرشيد في أقواله وأفعاله، وهو على صراط مستقيم فيما يشرعه لعباده من الشرائع، التي هي رشد وحكمة، وفيما يخلقه من المخلوقات ويقدره من الكائنات، الجميع رشد وحكمة، لا عبثٌ فيها ولا شيءٌ مخالف للحكمة.
الولي
ولايته تعالى وتوليه لعباده نوعان:
ولاية عامة: وهو تصريفه وتدبيره لجميع الكائنات، وتقديره على العباد ما يريده من خير وشر، ونفع وضر، وإثبات معاني الملك كلِّها لله تعالى.
والنوع الثاني في الولاية والتولي الخاص، وهذا أكثر ما يرد في الكتاب والسنّة كقوله"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ "البقرة: 257 ، "وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ "الأنفال: 40 ، "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " محمد: 11 .
وهذا التولي الخاص يقتضي عنايته ولطفه بعباده المؤمنين، وأنَّ الله يربيهم تربية خاصة، يصلحون بها للقرب منه ومجاورته في جنات النعيم، فيوفقهم للإيمان به وبرسله، ثم يغذي هذا الإيمان في قلوبهم وينمّيه، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ويغفر لهم في الآخرة والأولى، ويتولاهم برعايته وحفظه وكلاءته، فيحفظهم من الوقوع في المعاصي، فإنَّ وقعوا فيها بما سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء، وفّقهم للتوبة النصوح، فإذا تولوا ربهم تولاهم ولايةً أخصَّ من ذلك، وجعلهم من خواص خلقه بما يهيئ لهم من الأسباب الموصلة لهم إلى كلِّ خير.
قال تعالى"أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ "يونس .
فأخبر في هذه الآية عن الأسباب التي نالوا بها ولاية الله، وهي الإيمان والتقوى، والفوائد والثمرات العظيمة التي يجنونها من هذه الولاية، وهي الأمن التام وزوال ضده من الخوف والحزن، والبشارة الكاملة في
الدنيا بما يبين لهم ويبشرهم به من اللطفِ والعنايةِ والتوفيقِ للخيرات والحفظ من المخالفات، وبالثناء الحسن بين العباد، وبالرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرى له، والبشارة عند الموت، وفي القبر، وفي عَرَصَات القيامة.

فهذا تنبيه جامعٌ، متوسطٌ بين الاختصار المخل والطول الممل، وفيه من التفصيلات النافعة، والنكت اللطيفة، والفوائد والفرائد ما لا تكاد تجده مجموعاً في محل واحد، ولنتبع هذا المقصد الجليل ببقية المقاصد من علوم التوحيد، فنقول: بيان الأصول التي كَثُر الكلام فيها بين السلف، وبين أهل الكلام، وهي متفرعة على أسماء الله الحسنى وصفاته، ولكن لزيادة الإيضاح نبيّن دلالة القرآن عليها بخصوصها.
القول في علو الباري، ومباينته لخلقه، واستوائه على عرشه
هذا الأصل العظيم لم يزل الصحابة والتابعون لهم بإحسان يعترفون ويعلمون علماً لا يرتابون فيه بما دلّ عليه الكتاب والسنّة من علوِّ الله تعالى، وأنَّه فوق عباده، وأنَّه على العرش استوى، وأنَّ له جميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدر وعظمةِ الصفات، وعلو القهر لجميع الكائنات، حتى نبغت الجهمية ومن تبعهم فأنكروا المعنى الأول، لا ببرهان عقلي، فإنَّ العقل دلّ على علو الله تعالى على خلقه بذاته دلالة فطرية واضحة، ولا ببرهان نقلي، فإنَّ جميع النصوص تنافي قولهم وتبطله وتثبت له تعالى كمال العلو من كلِّ وجه.
في القرآن «العلي» في مواضع كثيرة وفيه «الأعلى»، وذلك يدل على أنَّ علوه من لوازم ذاته وأنَّ جميع معانيه ثابتة لله تعالى.
وفيه الإخبار عن فوقيته للمخلوقات كقوله"يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ "النحل: 50 .
والإخبار بعروج الأشياء إليه وصعودها وبنزولها منه، كقوله"تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ "المعارج: 4 ، "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ "فاطر: 10 ، وكقوله"حم "1" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } في عدة مواضع. فيدل ذلك على علوه، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
وكذلك قصة موسى وفرعون إذ قال فرعون"وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى"غافر:36،37 . وهذا ظاهر غاية الظهور أن فرعون قد أنكر ما قاله موسى صلى الله عليه وسلم من علو الله على خلقه، فقال هذه المقالة موهماً وملبساً على قومه، ولذلك كان السلف يسمون الجهمية الفرعونية لاعتقادهم نفي العلو، كما اعتقده وأنكره فرعون.
ومن ذلك: اسمه الظاهر حيث فسّره صلى الله عليه وسلم أنَّه الذي ليس فوقه شيء.
ومن ذلك: اختصاصه لبعض مخلوقاته بقربه وعِنديته، كقوله عن الملائكة"وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ "الأنبياء: 19.
وأما استواؤه على العرش فقد ذكره الله في سبعة مواضع من القرآن، مثل قوله"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" طه:5 فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما يقال مثل ذلك في بقية صفات الباري، فإنَّ الكلام فيها مثل الكلام في الذات، فكما أنَّ لله ذاتاً لا تشبهها الذوات، فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات.
فصفة العلو لله تعالى ثابتة بالسمع والعقل كما تقدم، وصفة الاستواء ثبتت في الكتاب وتواترت بها السنّة.




رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-08-2017, 10:43 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

القول في نزول الرب إلى السماء الدنيا

وإتيانه ومجيئه يوم القيامة
وذلك أنَّ الله تعالى فعّال لما يريد، وقد تواترت السنة بنزول الرب إلى السماء الدنيا. والكتاب قد دلّ على كمال قدرته، وأنَّه الفعّال لما يريد،وأنَّه ليس له مثيل ولا شبيه، فإذا أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بنزوله إلى السماء الدنيا، فما عذر المؤمن إذا لم يعتقد ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وأنَّه ليس كمثله شيء فهو ينزل كيف يشاء مع كمال علوه، فإنَّ علوه من صفاته الذاتية، ونزوله وإتيانه من أفعاله الاختيارية التابعة لقدرته ومشيئته.
وقال تعالى"وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا " الفجر:22 ، وقال تعالى"هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ "الأنعام: 158. الآية.
وهذا صريح لا يقبل التأويل بوجه، ومن تأوّل هذا فكلُّ صفاته بل وأسمائه الحسنى يتطرّق إليها هذا التأويل، بل التحريف الباطل المنافي للكتاب والسنّة.

القول في رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة
على هذا جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين والهدى، وبه أخبر الله في كتابه في عدة آيات منها قوله تعالى"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ "22" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "23" القيامة. أي حسنة نيّرة من السرور والنعيم، تنظر إلى وجه الملك الأعلى.
وقال تعالى"كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ "15: المطففين . وهذا من أدلِّ الأدلة على أنَّ المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، لأنَّ الله توعَّد المجرمين بألم الحجاب، فيستحيل أن يُحجب المؤمنون عنه ويكونوا كأعدائه.
وفي عموم قوله تعالى"عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ "23: المطففين. ما يدل على رؤية الباري، فهم ينظرون إلى ما أعطاهم مولاهم من النعيم الذي أعظمه وأجلّه رؤية ربهم، والتمتع بخطابه ولقائه.
وقال تعالى"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "يونس: 26. يعني: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه كأنَّهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى ذلك استحضروا رؤية الله تعالى، وأحسنوا إلى عباد الله بجميع وجوه البر والإحسان القولي والفعلي والمالي. فهؤلاء لهم الحسنى وهي الجنة بما احتوت عليه من النعيم المقيم، وفنون السرور، ولهم أيضاً زيادة على ذلك وهو رؤية الله والتمتع بمشاهدته، وقربه ورضوانه والحظوة عنده، بذلك فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم (برقم: 181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.- ، وكذلك قوله تعالى"لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا " جمعت كلَّ نعيم، "وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ "ق: 35 ، وهو النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بلقائه وقربه ورضوانه.
وكذلك ما في القرآن من التعميم لجميع أصناف النعيم، فإنَّ أعظم ما يدخل فيه رؤيةُ وجهه الذي هو أعلى من كلِّ نعيم، كقوله تعالى"وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ "الزخرف: 71 ، فكلُّ ما تعلَّقت به الأماني والشهوات والإرادات، فهو في الجنة حاصل لأهلها، وجميع ما تلذه الأعين من جميع المناظر العجيبة المسِرَّة، فإنَّه فيها على أكمل ما يكون.
وقوله"تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ "الأحزاب: 44 ، فهذا إخبار عن تحية الكريم لهم، وأنَّه سلَّمهم من جميع الآفات، وسلَّم لهم جميع اللذات والمشتهَيات، وإخبار عن رؤيته وقربه ورضوانه، لأنَّ اللقاء تحصل به هذه الأمور.

ذكر أصول الإيمان الكلية
قد ذكر الله الإيمان ذكرًا عامًا مطلقًا في مثل قوله"آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ "النساء : 131، "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" الحديد : 19، "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا "، وذكره مقيدًا بما يجب الإيمان به.
وأجمع الآيات المقيدة هي الآية العظيمة التي فرض الله فيها على الناس الإيمان بجميع أصوله الكلية، وهي قوله تعالى"قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "136" البقرة وقد أخبر أنَّ الرسول والمؤمنين قاموا بهذه الأصول في قوله"آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ"
- كما في صحيح مسلم :برقم: 181. من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه-.
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "285"البقرة .
فعلى كلِّ مؤمن أن يؤمن بالله، ويَدْخُلُ في الإيمان بالله الإيمانُ بكلِّ ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونفي أضدادها.
وأركان ذلك ثلاثة: الإيمان بالأسماء كالعزيز الحكيم العليم الرحيم.. إلى آخرها.
والإيمان بالصفات: كالإيمان بكمال عزة الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
والإيمان بأحكام الصفات ومتعلقاتها: كالإيمان بأنَّه يعلم كلَّ شيء، ويقدر على كلِّ شيء، ورحمته وسعت كلَّ شيء.. إلى آخرها.
فهذا الإيمان بالله المتعلق بالعلم والاعتقاد، ثم يتبع هذا الإيمان بالله المتعلق بالحب والإرادة، وهو التأله لله والقيام بعبوديته، امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه. ولهذا كان القيام بالدين كلِّه تصديقاً واعتقاداً وانقياداً داخلاً بالإيمان بالله.
وبهذا يُعرف أنَّ إطلاق الإيمان في كثير من الآيات القرآنية يشمل هذا كلَّه، لأنَّه رتب على المطلق من الأمر والمدح والثواب ما رتبه على المقيد. فجميع الأوصاف الجميلة داخلة في الإيمان، وكذلك الإيمان التام ينفي الأخلاق الرذيلة كما قال تعالى"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ "4"الأنفال .
فوصفهم بالإيمان القلبي وأعمالِ القلوب مـن التوكل والزيادة في الإيمان، وبأعمال الجوارح من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة بالقيام بحقه وحق خلقه. وأخبر أنَّ هؤلاء هم الذين حققوا الإيمان، وأنَّ لهم من الله المغفرة الكاملة والثواب التام.
وقال تعالى"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ 2" إلى أن قال"أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .11" المؤمنون .
فأخبر عنهم بالفلاح، وبشّرهم بالمنازل العالية، كما وصفهم بالإيمان الكامل الذي أثّر في قلوبهم الخضوع والخشوع في أشرف العبادات، وحفظ ألسنتهم وفروجهم وجوارحهم، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومراعاتهم للأمانات الشاملة لحقوق الله وحقوق خلقه، وأنَّهم مراعون لها، قائمون بها، وبالعهود التي بينهم وبين الله، والتي بينهم وبين خلقه.
وقد ذكر ما يشبه ذلك في سورة المعارج، وكذلك ذكر الله خصال الإيمان في قوله"وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ "البقرة: 177. الآيات، فحيث أطلق الله الإيمان، أو أثنى على المؤمنين مطلقاً دخلت فيه جميع هذه الأمور.
وقد يخص بعضها بالذكر ولكنها متلازمة لا يتم بعضها إلا ببعض.
ومن الإيمان بالملائكة: الإيمان بأنَّهم قد جمعوا خصال الكمال ونزّههم الله في أصل خلقتهم من جميع المخالفات، فهم عباد مكرمون عند ربهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقد جعل الله كثيراً منهم وظائفهم التدبير لحوادث العالم، وأقسم بهم في عدة آيات، فهم المدبِّرات أمراً والمقسِّمات والملقيات للأنبياء والرسل ذكرًا عذرًا أو نذرًا، وهم الحفظة على بني آدم يحفظونهم بأمر الله من المكاره، ويحفظون عليهم أعمالهم خيرها وشرها، وقد وصفوا في الكتاب والسنّة بصفات جليلة، يتعين على العبد الإيمان بكلِّ ما أخبر به الله ورسوله عنهم وعن غيرهم.
ومن الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم: الإيمان بأنَّ الله اختصهم بوحيه ورسالته، وجعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وأمره وشرعه، وجمع فيهم من صفات الكمال ما فاقوا فيه الأولين والآخرين، من الصدق العظيم، والأمانة التامة، والقوة العظيمة، والشجاعة، والعلم العظيم، والدعوة والتعليم، والإرشاد والهداية، والنصح التام، والشفقة والرحمة بالعباد، والحلم والصبر الواسع، واليقين الكامل.
فهم أعلى الخلق علومًا وأخلاقًا، وأكملهم أعمالاً وآدابًا، وأرفعهم عقولاً، وأصوبهم آراء، وأسماهم نفوسًا.
اختارهم الله واصطفاهم وفضّلهم واجتباهم، بهم عُرِف الله، وبهم وحّد، وبهم عُرف الصراط المستقيم، وعلى آثارهم وصل أهل الجنة إلى كلِّ نعيم، فلهم على العباد الإيمانُ بهم، والاعترافُ بكلِّ ما جاءوا به، ومحبتُهم وتعزيرهم وتوقيرهم واحترامهم، واقتفاء آثارهم والاهتداء بهديهم.
وهذه الأمور ثابتة لجميع الأنبياء، ولنبينا صلى الله عليه وسلم من هذه الأوصاف أعلاها وأكملُها. فلقد جمع الله به من الكمال ما فرقه في غيره من الأنبياء والأصفياء، وله على أمته أن يقدموا محبته على محبة أنفسهم وأولادهم ووالديهم والناس أجمعين، وأن يقوموا بحقه، وهو القيام بشرعه وتعلمه وتعليمه، واتباعه ظاهرًا وباطنًا، ويعتقدوا أنَّه خاتم الأنبياء، وأفضل الخلق أجمعين، وأنَّه أصدق الخلق وأنصحهم وأعظمهم في كلِّ خصلة حميدة، ومنقبة جميلة، وأنَّه أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على المؤمنين، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وخصّه بخصائص لم تكن لأحد قبله من الرسل، وأيّده بالآيات البيّنات والمعجزات الظاهرات، والبراهين القواطع، والأنوار السواطع.
صفاته صلى الله عليه وسلم من أكبر الأدلة على صدقه، وأنَّه رسول الله حقاً، وما بعث به من الهدى والرشد والرحمة، والعلوم الربانية، والمعارف الإلهية، والعبوديات الظاهرة والباطنة المزكية للقلوب، المنمّية للأخلاق، المثمرة لكلِّ خير من أعظم البراهين على رسالته، وأنَّها من عند الله.
وما جاء به من القرآن العظيم، وما احتوى عليه من علوم الغيب والشهادة، ومن علوم الظاهر والباطن، ومن علوم الدنيا والدين والآخرة، ومن الهداية إلى كلِّ خير، والتحذير من كلِّ شر، ومن الإرشاد إلى أقوم الطرق وأهدى السبل، وأقرب الوسائل وأرجح الدلائل، كلُّ ذلك دليل وبرهان على أنَّه من عند الله، تنزيل من حكيم حميد، وأنَّ من جاء به هو الرسول الأمين والصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولهذا نقول: ومن الإيمان بالله ورسوله: الإيمان بهذا القرآن العظيم، وأنَّه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأنَّه تكلم به حقاً، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فنقلته الأمة كلُّها بأسرها قرناً بعد قرن.
ولهذا كان هذا القرآن متواترًا تواترًا لا يقاربه شيء من الكلام المنقول، وهذا من حفظ الله، فإنَّه تعالى أنزله وتكفّل بحفظه.
ومن تمام الإيمان به التصديق التام بكلِّ خبر أخبر به عن الله، وعن المخلوقات، وعن أمور الغيب وغيرها، وأنَّه لا يمكن أن يأتي خبر صحيح ينقضه، أو يَرِد بما يخالف الحس، بل يعلم أنَّ كلَّ ما خالفه فإنَّه باطل بنفسه.
ومن تمام الإيمان به الإقبالُ على معرفة معانيه، والعمل بكلِّ ما دلّ عليه بالتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وقد وصف الله القرآن بأنَّه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، وأنَّه تبيان لكلِّ شيء، فما من شيء يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، إلا وقد بيّنه أتم بيان، وأمر عند التنازع في الأمور كلِّها أن ترد إليه، فيفصل النزاع ويحل المتشابهات بلفظه الصريح، أو بمعانيه المتنوعة التي بيّنتها السنّة، وبلّغها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأمر العباد بتدبُّره والتفكر في معانيه.
وأخبر أنَّ أحكامه أحسنُ الأحكام، وأخباره أصدق الأخبار، ومواعظه أنجع المواعظ، فهو المبِيْنُ لكلِّ ما يحتاجه الخلق، وهو المفصّل لجميع العلوم؛ كلُّه، محكمٌ من جهة الحِكَمِ والحُكْم والإتقان والانتظام، وكلُّه متشابه في حسنه وبيانه وحقه، وتصديق بعضه لبعض، وبعضه محكم من جهة التوضيح والتصريح، وبعضه متشابه من جهة الإجمال والإطلاق، يجب ترجيعه ورده إلى المحكم ليتضح الأمر ويزول اللبس، فيه الدليل والمدلول، يحتوي على جميع الأدلة النقلية والعقلية والفطرية قد جمع الله فيه كلَّ خير ونفع للعباد.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-09-2017, 01:46 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

الإيمان باليوم الآخر
ومن تمام الإيمان بالله ورسله وكتبه: الإيمانُ باليوم الآخر، وهو كلُّ ما جاء به الكتاب والسنّة ممَّا يكون بعد الموت من أحوال الموت والبرزخ والقبر، والقيامة والجنة والنار، ومتعلقات ذلك كلِّه داخل بالإيمان باليوم الآخر.
وقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث المتنوعة في فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، وأنَّ الميت تعاد إليه روحه في قبره فيُسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، فيفسح له في قبره وينوّر له فيه، ويُنَعَّمُ فيه إلى يوم القيامة، كما وُصِفَ ذلك وفُصِّلَ في السنّة.
وأما الكافر والمنافق فيضله الله عن الصواب لظلمه وكفره، فيضيق عليه قبره، ولا يزال يعذب إلى أن تقوم الساعة.
ومن المذنبين من يعذّب في القبر مدة بقدر ذنوبه، ثم يرفع عنه العذاب، ومنهم من يرفع عنه العذاب بشفاعة أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك.
ثم إذا تكامل الآدميون وماتوا جميعاً أمر تعالى إسرافيل بالنفخ في الصور، فيخرجون من قبورهم إلى موقف يوم القيامة، حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداع كأنَّهم إلى نصب يوفضون، يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً، فيقفون موقفاً عظيماً لا تتصور العقول عظمه وفظاعته وهوله، ولكن الله يخففه على المؤمنين.
ويسيل العرق منهم فيكونون على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حَلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وتدنوا الشمس منهم فتكون على قدر ميل منهم، ويصيب الخلق من الهمِّ والكرب ما الله به عليم، فيفزعون إلى من يشفع لهم إلى ربهم ليريحهم من هذا الموقف، ويفصل بينهم، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلُّهم يعتذر ويدفعهم إلى من بعده.
فإذا جاءوا لعيسى صلى الله عليه وسلم قال: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيجيب طلبتهم ويلبي دعوتهم، ثم يأتي إلى تحت العرش فيسجد لله سجدة عظيمة، يفتح الله عليه من الثناء والتحميد والتمجيد لله ما لم يفتحه على أحد من الأولين والآخرين ويقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعطَ، واشفع تشفع، ويبعثه الله ذلك المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أهل السماء وأهل الأرض - -حديث الشفاعة الطويل الذي أورد معناه المصنف رواه البخاري (رقم: 7410)، ومسلم (رقم: 193)..
وينزل الله للفصل بين عباده ومحاسبتهم، وحينئذ تنشر دواوين الأعمال الحاوية لحسنات العباد وسيئاتهم، وكلٌّ يُعطى كتابه، فيكون عنوان أهل السعادة أن يعطوا كتبهم بأيمانهم، فيكون ذلك أول البشرى بما تحتوي عليه كتبهم من الخيرات، ويعطى أهل الشقاء كتبهم بشمائلهم، ومن وراء ظهورهم بشارة لهم بالشقاوة، وفضيحة لهم بين الخلائق.
فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ويحاسب الكفار محاسبة توبيخ وفضيحة بين الخلائق، ثم يؤمر بهم إلى النار، ويحاسب الله بعض المؤمنين حساباً يسيراً يضع الله عليه كنفه ويقرره بذنوبه، فإذا ظن أنَّه هالك قال الله له: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فلا يطلع عليها أحد من الخلق، ويعطى كتابه بيمينه، وتوضع الموازين التي توزن بها الأعمال الصالحة والسيئة، "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ "المؤمنون: 102، 103 .
وينقسم الناس ثلاثة أقسام: قسم مستحقون للثواب المحض، سالمون من العقاب، وهم السابقون وأصحاب اليمين، الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وتابوا مما جنوه من المخالفات.
وقسم مستحقون للعقاب المحض، والمخلدون في نار جهنم، وهم جميع من لم يؤمن بالرسل الإيمان الصحيح، من مشرك ومستكبر، وجاحد ومنافق، ويهودي ونصراني ومجوسي، وجميع من حكمت عليه النصوص الصحيحة بالخروج من الإسلام.
وقسم ثالث ظالمون لأنفسهم مخلطون، فهؤلاء من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ولم يدخل النار، وَمَنْ استوت حسناته وسيئاته فهم أهل الأعراف، وهو موضع عال مشرف على الجنة والنار، يقيمون فيه ما شاء الله تعالى، ثم يتداركهم المولى برحمته فيدخلهم الجنة.
ومَنْ رجحت سيئاته على حسناته، فلا بد من دخوله النار بقدر
ذنوبه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة إلا أن تحصل له شفاعة، فإنَّ الشفاعة لأهل الذنوب والمعاصي ثابتة، يشفع محمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع الأنبياء، ويشفع خواص المؤمنين فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها وأعماله تقتضي الزيادة على تلك المدة أن يخرج منها، ويخرج الله من النار أقوامًا برحمته.

وينصب الصراط على متن جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمن مرّ عليه فهو من الناجين، ولا يدع الله في النار أحداً في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، ويبقى فيها أهلها الذين هم أهلها خالدين أبداً، لا يفتر عنهم عذابها.
وقد وصف الله تعالى عذاب النار وصفة أهلها بأفظع الأوصاف، وأنَّ الله يجمع لهم بين أصناف العقاب، يعذبهم بالنار المحرقة التي تطّلع على الأفئدة، وكلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلوداً غيرها، ليعاد عليهم العذاب ويذوقوا شدته، وبالجوع المفرط والعطش المفرط.
فالجوع والعطش، من أعظم العذاب والآلام، وما يغاثون به إذا طلبوا الشراب والطعام عذابٌ أشد وأفظع، فإنَّهم إذا استغاثوا للشراب أغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، فلا يدعهم العطش الشديد حتى يتناولوه، فيقطع منهم الأمعاء، ويستغيثون للطعام فيؤتون بالزقوم الذي حرارته أعظم من حرارة الرصاص المذاب، وهي في غاية المرارة وقبح الريح، فيغلي في بطونهم كغلي الحميم، ويسلسل المجرمون بسلاسل من نار، وتغل أيديهم إلى أعناقهم ويسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون.
ويترددون في عذابهم بين لهب النار وحرارتها التي لا يمكن وصفها، وبين برد الزمهرير البارد الذي يكسر العظام من قوة برده، ويجمع لهم بين جميع ألوان العذاب، وبين عذاب الحجاب عن ربهم، وبين اليأس من رحمته، وآخر أمرهم العذابُ المؤبد والشقاء السرمدي.
وأما الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم، وما عليه أهلها من السرور القلبي والروحي والبدني، فقد ذكر الله أوصاف الجنة مبسوطاً مفصلاً في كثير من الآيات، وأطلقه معمَّماً شاملاً في آيات، مثل قوله تعالى"لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ "35"ق ، "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "يونس: 26 ، "وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ "الزخرف: 71 ، "فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ "السجدة: 17 ، "وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا "20) :الإنسان ، "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ "74:الزمر ، إلى غير ذلك من الآيات العامة الشاملة لنعيم الأبدان، وسرور الأرواح، وأفراح القلوب، وشهوات النفوس، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ووصف نعيمها مفصلاً، فتقدم ذكر رؤية الباري الذي هو أعلى نعيم يحصل لأهل الجنة، والتمتع بلقائه ورضوانه، وسماع كلامه وخطابه.
وأخبر تعالى أنَّ جميع أصناف الفواكه الموجودة في الدنيا موجودٌ في الجنة ما يشبهها في الاسم فقط، لا في الحسن واللذة وطيب الطعم والتنعم بتناوله، وفيها أشياء ليس لها في الدنيا نظير، ولهذا قال"فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ" 52الرحمن ، وقوله"وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ"21:الواقعة. وذللت قطوفها أي ثمارها تذليلاً، كقوله"وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ "الرحمن: 54. يتناوله القائم والقاعد والماشي وعلى أيِّ حال.
وأنَّ أنهارها تجري من تحتهم أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، ولهم فيها من كلِّ الثمرات.
ووصف فرشهم بأنَّ بطائنها من إستبرق وهو أعلى أنواع الحرير، فكيف بالظهائر، وأنَّ لباسهم فيها الحرير، وحليهم الذهب والفضة واللؤلؤ وأنواع الجواهر الفاخرة، وذلك شامل لذكورهم وإناثهم، وأنَّ أزواجهم الحور العين خيّرات الأخلاق، حِسَان الأوجه، جمع الله لهنَّ بين الحسن والجمال الباطن والظاهر، كأنَّهنَّ الياقوت والمرجان من حسنهنَّ وصفائهنَّ، وأنَّهنَّ عُرُب متحببات إلى أزواجهنَّ بحسن التبعُّل، ولطف الآداب، وحسن الحركات والألفاظ الرقيقة والحواشي المليحة.
وأنَّهنَّ أبكارٌ أترابٌ في غاية سن الشباب وقوته، وفي كمال الصفاء بينهنَّ وعدم التباغض، بل نزع الغل من صدور جميع أهل الجنة، إخواناً على سرر متقابلين، وأنَّهنَّ مطهراتٌ من جميع الآفات، مطهراتٌ من الأدناس الحسية والأدناس المعنوية، كاملاتٌ مكملاتٌ، وأنَّهنَّ قاصرات طرفهن على أزواجهنَّ من حسن أزواجهنَّ وعفتهنَّ، قاصراتٌ طرف أزواجهنَّ عليهنَّ من جمالهنَّ الفائق الذي لا يبغي بعلها بها بدلاً، ولا يقول لو أنَّ هذا الوصف أكمل من هذا، لأنَّه يرى ما يحير لبّه، ويذهل عقله من الحسن الباهر، والبهاء التام.
وأنَّهم في الجنة متعاشرون مع أحبابهم وأصحابهم، يتزاورون ويتطارحون الكلام الطيب، والأحاديث الشائقة، ويتذاكرون نعم الله وآلاءه عليهم، سابقاً ولاحقاً، ويسبِّحون الله بكرة وعشياً، وأنَّ الله نزّههم من البول والأدناس، وكلِّ ما لا تشتهيه النفوس، بل طعامهم وشرابهم يخرج عرقاً أطيب من المسك الأَذْفَر، وأنَّ الله جمع بينهم وبين من صلح من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم ليتم نعيمهم، ويكمل سرورهم.
وهذه الآية تجمع كلَّ نعيم تتعلق به الأماني، وتطلبه النفوس وهي قوله تعالى: "ذَوَاتَا أَفْنَانٍ "48 :الرحمن. وهي جمع فن، لا جمع فنن، أي كلُّ نوع وجنس من النعيم والسرور موجود فيهما، حاصل على أكمل الوجوه وأتمها، وتمام ذلك الخلود الدايم، والنعيم المستمر، والأفراح المتواصلة التي تزداد على الدوام. فجميع ما ورد به الكتاب والسنّة من أحوال الدارين وتفاصيل ذلك كلِّه داخلٌ في الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان باليوم الآخر على درجتين:
أحدهما: التصديق الجازم الذي لا ريب فيه بوجود ذلك على حقيقته. فهذا لا بد فيه من الإيمان.
والدرجة الثانية: التصديق الراسخ المثمر للعمل، فإنَّ من علم ما أعد الله للطائعين من الثواب، وما للعاصين من العقاب علماً واصلاً إلى القلب، فلا بد أن يثمر له هذا الإيمان الجد في الأعمال الموصلة إلى الثواب، والحذر من الأعمال الموجبة للعقاب.
ومن أصول أهل السنّة والجماعة أنَّ الدين والإيمان اسم يجمع اعتقادات القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنَّه يزيد وينقص ويتفاضل أهل الإيمان فيه تفاضلاً عظيماً، وجعلهم الله في كتابه ثلاث طبقات:
سابقين إلى الخيرات، وهم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات.
وأصحاب اليمين اقتصروا على أداء الفرائض، واجتناب المحارم.
وظالمين لأنفسهم خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.
قال تعالى"وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ "التوبة ، وقوله"لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ "الفتح: 4 ، "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى "مريم: 76" . والهدى هو علوم الإيمان وأعماله، والنصوص على هذا الأصل من الكتاب والسنّة كثيرة جدًا.
وهو معلومٌ بالحس والوجدان؛ فإنَّ المؤمنين يتفاضلون في علوم الإيمان، قلة وكثرة، وقوة يقين وضعفه، ويتفاضلون في أعمال القلوب التي هي روح الإيمان وقلبه، مثل محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والإخبات والخضوع والتعظيم. هذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى عقل.
ويتفاضلون في أعمال الجوارح كالصلاة والزكاة والصيام والحج فرض ذلك ونفله، والقيام بحقوق الله وحقوق عباده من البر والصلة للأقارب والجيران والأصحاب والإحسان إلى الخلق تفاوتاً عظيماً.
فمن زعم أنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد قال ما خالف النقل والعقل والحس والواقع، حتى ولو فسَّره بمجرد التصديق، فإنَّه يتفاوت تفاوتًا ظاهرًا لكلِّ أحد.
ويتفرَّع على هذا الأصل أنَّ العاصي وصاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بالكلية، ولا يعطى الاسم الكامل المطلق، فهو مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق ناقص الإيمان بما تركه من واجبات الإيمان، ما معه من الإيمان الذي لا يخالطه كفر يمنعه من الخلود في النار.
وأما الإيمان المطلق الكامل، فإنَّه يمنع دخول النار بالكلية، وقد ذكرنا في القواعد أنَّ أسماء المدح والثناء على المؤمنين، وترتيب الثواب المطلق عليه ونفي العقاب إنَّما هو الإيمان الكامل، وأنَّ خطاب الله للمؤمنين بالأمر والنهي والتشريع يعمُّ كاملَ الإيمان وناقصَه - انظر القاعدة الثامنة والعشرين من كتاب المصنف «القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن» ص60..
ويتفرع أيضاً على هذا الأصل أنَّ العبد قد يجتمع فيه خير وشر، وإيمان وخصال كفر، أو نفاق، وأنَّه يستحق المدح على ما فيه من خصال الخير، والذم على ما فيه من خصال الشر.
ومن أصول أهل السنّة والجماعة: الإيمان بقضاء الله وقدره، وهو داخل في الإيمان به وبكتبه وبرسله، فيعلمون أنَّ الله قد أحاط بكلِّ شيء علماً، وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث، صغيرها وكبيرها، سابقها ولاحقها، ثم قدّرها وأجراها بمواقيتها بحكمته وقدرته وعنايته وتمام علمه، وأنَّه كما أنَّ جميع الحوادث - إلى هنا انتهى المنسوخ في «بستان العارفين..» وجاء في خاتمته «.. وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث بمواقيتها بحكمته وقدرته، وأنَّ أعمال العباد مع أنَّهم فاعلون لها حقيقة فإنَّها داخلة في قضائه وقدره، فالله خالقهم وخالق جميع صفاتهم، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب، فلا يجبرهم عليها بل وقعت بإرادتهم وقدرتهم، وهم الذين عملوها واستحقوا جزاءها من خير وشر، والله أعلم وصلى الله على محمد وسلم». وإلى هنا ـ كذلك ـ انتهت النسخة التي بعنوان: «فتح الرب الحميد..».
مرتبطة بحكمته وعلمه فإنَّها مرتبطة بقدرته، وأنَّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ أعمال العباد كلَّها خيرها وشرها داخلة في قضائه وقدرته، مع وقوعها طبق إرادتهم وقدرتهم، ولم يجبرهم عليها، فإنَّه خلق لهم جميع القوى الظاهرة والباطنة، ومنها القدرة والإرادة التي بها يختارون وبها يفعلون.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-09-2017, 02:20 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

الإشارة إلى ما في القرآن من براهين التوحيد

توحيد الألوهية والعبادة
لما كان توحيدُ الباري أعظم المسائل وأكبرها وأفرضها وأفضلها، وحاجة الخلق إليه وضرورتهم فوق كلِّ ضرورة تقدر، فإنَّ صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم متوقفة على التوحيد نوّعَ الله الأدلة والبراهين على ذلك، وكانت أدلته واضحات، وبراهينه ساطعات.
فمن أوضح أدلته وأجلاها الاستدلال على ذلك باعتراف الخلق برّهم وفاجرهم، إلا شرذمة ملحدة، معطلة للباري. فالخلق كلُّهم مسلمهم وكافرهم قد اعترفوا بأنَّ الله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق ومن سواه مرزوق، وهو المدبِّر وما سواه مُصَرَّف مُدبَّر، وهو المالك وما سواه مملوك. فهذا يدل أكبر دلالة على أنَّه لا يستحق العبادة سواه.
ولهذا يستدل به على المشركين ويأخذهم باعترافهم كقوله"قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ "89المؤمنون.وآيات كثيرة جدًا فيها هذا المعنى، لأنَّه برهان واضح، ينقل الذهن منه بأول وهلة، بأنَّ من هذا شأنه وعظمته، أنَّه هو المنفرد بالوحدانية المستحقة للعبودية وإخلاصِ الدين له.

ومن براهين التوحيد: إخباره في عدة آيات أنَّ جميع ما يُعبد من دونه مخلوق، فقير عاجز، لا يستطيع نفعًا ولا دفعًا ولا جلب خير لعابده، ولا وقاية شر، ولا ينصر من عبده ولا أنفسهم ينصرون.
ومن كان بهذه المثابة فمن السفه والحمق الجنوني عبادته وخوفه ورجاؤه، وتعليق القلوب به، وإنَّما يجب تعليق القلوب بالغني المطلق، الذي ما بالعباد من نعمة ولا خير إلا منه، ولا يدفع المكاره إلا هو.
وهذا أيضًا برهان آخر: أنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، وهو الذي يجيب المضطرين، وينقذ المكروبين، ويكشف السوء عن المضطهدين، وهو الذي جعل لعباده الأرض قرارًا، وأجرى لهم فيها أنهارًا، وجعلها مهاداً مهيئة لجميع مصالحهم ومنافعهم، وأنزل من السماء ماءً فأنبت به حبًا ونباتًا، وجنات ألفافًا، وأنبت به حبًا، وعنباً وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهةً وأبًّا، متعًا لكم ولأنعامكم.
وهو الذي يطعم عباده ويسقيهم، وإذا مرضوا يشفيهم، وهو الذي يحيي ويميت، وإذا قضى أمرًا قال له كن فيكون.
وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ويُجير ولا يُجار عليه، ويُغيث ولا يُغاث.
وهو الذي خلق الإنسان وعلّمه الكتابة والبيان، وعلّم القرآن، وجعل الشمس والقمر والكواكب للمصالح المتنوعة والحسبان، والسماء رفعها ووضع الميزان، وأمر عباده أن يسلكوا طريق العدل، ولا يطغوا في الميزان.
وهو الذي مرج البحرين، هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أُجاج، ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًا، وتستخرجون منه حلية تلبسونها، وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
وهو الذي سخّر لعباده جميع ما في السموات والأرض، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، وآتاهم من كلِّ ما سألوه بلسان المقال ولسان الحال.
وهو الذي جعل لهم الليل لباسًا، والنهار معاشًا، "وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "73:القصص .
وهو الذي خلق من الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا.
وهو الذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، والقوى الظاهرة والباطنة.
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
وهو الذي بيده الملك والحمد، وبيده الخير، ويُعِز، ويُذِل، ويُعطي، ويمنع، ويقبض، ويبسط.
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى.
وهو الذي جعل لعباده الأنعام، فمنها ركوبهم، ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب، وتحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون.
وهو الذي أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر ومما يعرشون.. الآيات.
وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات.
وهو الذي جعل لكم من بيوتكم سكنًا، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين.
وهو الذي خلق لكم من الجبال أكنانًا، وجعل لكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا تتزينون به.
وهو الذي جعل لكم المساكن كفاتاً أحياءً في الدور وأمواتًا في القبور، "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"10" البلد،"أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ "23"المرسلات .
ألمْ يتفضل بما هو أعظم من ذلك بالنعم الدينية والأخروية التي هي السبب في السعادة الأبدية.
ألم يمنَّ على المؤمنين بالإسلام والإيمان، ويبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون.
ألم يوضح لهم الصراط المستقيم، ويكمل لهم الدين، ويمنّ عليهم بالهداية التامة، هداية التعليم والتفهيم والإرشاد، وهداية التوفيق والعمل والانقياد.
ألم يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور الإنابة إليه وذكره.
ألم ييسرهم لليسرى ويجنّبهم العُسرى.
ألم يحبّب إليهم الإيمان ويزيّنه في قلوبهم، ويكرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلهم من الراشدين فضلاً منه ونعمة، والله عليم حكيم.
ألم يعصمهم من موبقات الآثام، ويحفظهم من فتن الشكوك والشبهات والأوهام.
ألم يفتح لهم أبواب التوبة والرحمة، ويأمرهم بالأسباب التي يدركون بها رحمته وينجون بها من عقابه.
ألم يجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، ومآلها العفو والصفح والغفران، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويأخذ الصدقات وأنَّ الله هو التواب الرحيم.
"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "53"الزمر ، "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى" 82طه .
ألم يكن جانب فضله وكرمه ورحمته في جميع الأمور سابقًا وغالباً: «إن رحمتي سبقت غضبي» -- رواه البخاري (رقم: 7553)، ومسلم (رقم: 2751).، وفي لفظ: «غلبت».
فللرحمة السبق والإحاطة والسعة، ولها الغلبة بحيث يضمحل معها أسباب العقوبة كما تقدم في الحسنات والسيئات، وإنَّ العبد لو أفنى عمره في المعاصي، ثم في ساعة واحدة قبل أن يغرغر تاب وأناب، غَفَرَ له كلَّ ذلك وأبدل سيئاته حسنات.
وأنَّ أدنى مثقال حبة خردل من إيمان يمنع الخلود في النار، وأنَّ الكفار والفجار وأصناف العصاة يبارزون المولى بالمخالفات والعظائم، وهو يعافيهم ويرزقهم ويُدِرُّ عليهم النعم ويستعتبهم، ويعرض عليهم التوبة، ويُخبِرهم أنَّهم إن تابوا عفى عنهم وغفر لهم، حتى إذا ماتوا وهم كفار ولم يكن فيهم من الخير مثقال ذرة وَلاَّهُمْ ما تولوا لأنفسهم ورضوا لها من الشقاء الأبدي.
وإذا كان جميع ما فيه الخلق من النعم والأفراح والمسرَّات أسبابها ومسبباتها، الظاهرة منها والباطنة، الدينية والدنيوية، كلُّها من الله، وهو الذي تفضل بها من غير سبب منهم، فإن حصل بعض الأسباب الواقعة من الخلق التي ينالون بها نعمه ورحمته، فتلك الأسباب هو الذي أعطاهم إياها، فمنه كلُّ شيء محبوب، وجميع الشرور والمكاره هو الذي دفعها ويسّر دفعها.
فمن كان هذا شأنه العظيم وخيره الجسيم، أليس هو الذي يستحق أن يبذل له خالص العبودية، وصفو الوداد، وأحق من عُبد، وأولى من ذُكر وشُكر، فتباً لمن أشرك به من هو مضطر إليه في كلِّ أحواله، فقير في جميع أموره.
ومن براهين التوحيد: ما يصف الله به الأوثان ومن عُبد من دونه من النقص العظيم، وأنَّها فاقدة للكمال، وربما كانت فاقدة أيضاً للأقوال والأفعال، وأنَّها لا تخلق ولا ترزق باعتراف عابديها، وليس لها ملك ولا شركة في الملك، وليس لها مظاهرة لله ولا معاونة بوجه من الوجوه، وليس الله محتاجًا إليها، ولا إلى غيرها، بل هو الغني الحميد.
"وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ "20 النحل ، ولا يملكون لهم نفعاً ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا ينصرونهم ولا أنفسهم ينصرون، "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ *"الأحقاف6،5 . "إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ "الحج: 73 ، "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ "الأعراف: 194، ، "أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى "يونس: 35،"مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "41:العنكبوت .
إلى غير ذلك من الصفات الناقصة التي وصف الله بها كلَّ ما عبد من دونه، وهي معلومة حتى عند العابدين لها، ولكنَّهم يزعمون الزعم الباطل أنَّهم يريدون أن تشفع لهم أو تقربهم إليه زلفى.
وهذا القصد الخبيث أعظم مُبعد لهم عن الله، فإنَّه لا يُتقرب إليه إلا بما يحب، ولا يُتوسل إليه إلا بالإيمان والتوحيد الخالص، والأعمال الخالصة لوجهه. ومن تقرب إليه بالشرك لم يزدد منه إلا بُعدًا، وبذلك قطع الصلة بينه وبين ربه فاستحق الخلود في النار وحرّم الله عليه الجنة.
ومن براهين التوحيد: أيامه بين عباده، وإكرامه للرسل وأتباعهم الذين قاموا بتوحيده، وإنجائهم من الشرور والعقوبات، وإحلاله المثلات بالأمم المشركة بالله، المستكبرة عن عبادة الله، المكذبة لرسل الله لما حذرهم وأنذرهم، وأقام عليهم الحجج المتنوعة والآيات المفصلة على توحيده وصدق رسله، فكذبوا فأوقع بهم أنواع العقوبات المتنوعة، "فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 40:العنكبوت .
ثم خاتمة ذلك ما نصر به خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه بالتوحيد الخالص والنهي عن الشرك، فقاومه أهل الأرض الأقربين منهم والأبعدين، ومكروا في نصر باطلهم، وإبطال الحق الذي معه المكرات العظيمة، فخذلهم الله ونصر نبيه وأتباعه النصر الذي لا مثيل له، إنَّ في ذلك لآية على أنَّ دين الله الذي هو التوحيد والإيمان هو الحق، وأنَّ ما يدعون من دونه هو الباطل، وأنَّ رسوله هو الصادق الأمين، وأنَّ جميع من عاداه لفي أعظم الغي والضلال والشقاء.
ومن البراهين على التوحيد وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو داخل في الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالغيب، ما قصّه الله في كتابه من الغيوب الماضية والحاضرة والمستقبَلة التي لا تزال تحدث شيئًا فشيئًا طبق ما أخبر به القرآن.
فمن ذلك ما أخبر به عن تفاصيل الوقائع الماضية في قصص الرسل في أنفسهم، ومع أقوامهم من أتباعهم وأعدائهم تفصيلاً ليس لأحد طريق إلى تحصيله، إلا الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ونهاية ما عند خواص أهل الكتاب من تلك التفاصيل نتف وقطع لا يحصل منها قريباً مما يحصل بالقرآن.
ولهذا يخبر في أثناء هذا القصص أنَّ إتيان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بها دليل على رسالته، كقوله بعدما ذكر قصة موسى مبسوطة، "وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ "46. القصص.
أي أنَّه لا سبيل لك إلى معرفة هذه الأمور بتلقِّ عن أحد، ولا وصول لذلك إلا من جهة الوحي الذي أوحاه إليه، وكذلك ذكر الله هذا المعنى في آخر قصة يوسف المطولة في قوله"وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ "يوسف: 102 الآية. وفي قصة مريم وزكريا"وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ"آل عمران: 44 .
فكلُّ هذا يدل أكبر دلالة على رسالة وصحة ما جاء به من التوحيد، حيث جاءتهم هذه الأمور المفصلة بطريقة لا سبيل إليها إلا بالوحي.
ومثل ذلك خبره عن الملائكة والملأ الأعلى، وقصة آدم وسجود الملائكة له بعد تلك المراجعات فقال"مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ "69:ص .
وأعظم من ذلك كلِّه وأجلّ، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الرب العظيم وقصّه لصفاته العظيمة مفصلة، بحيث جاء هذا القرآن بما لم يأتِ به كتاب قبله. وأخبر عن الله أخبارًا عظيمة عجزت قُدَرُ الأولين والآخرين أن يأتوا بما يقاربها، أو بما ينقضها، أو ينقض بعضها.
فجميع الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، جميع ما فيها من الخبر عن الله فإنَّه في القرآن، وفي القرآن زيادات عظيمة وتوضيحات تدل أكبر دلالة على أنَّ من جاء به إمام الرسل وسيد الخلق، وأنَّ هذا القرآن مهيمن على ما قبله من الكتب، وأنَّ كلَّ حق قاله وتكلم به أحد من الخلق فهو في ضمن القرآن.
فإن قيل: فكيف تجعلون هذا البرهان الذي هو الخبر عن الله وعن كماله ونعوت جلاله، من براهين رسالة محمد وأدلة التوحيد وأنتم في مقام التكلم مع الموافق والمخالف والمعترف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمنكر لها، وذلك من أمور الغيب التي لا يعترف بها إلا كلُّ مؤمن، وأنتم تريدون جعله برهاناً يسلِّم بصحته حتى المخالفون المنكرون لرسالته، إذا سلكوا طريق الإنصاف والاعتراف بالحقائق الثابتة التي يسلمها جميع العقلاء المعتبرين.
قيل في الجواب عن هذا الإيراد: هذا البرهان يتضح وينجلي بأمور:
منها: أنَّ الذي جاء به رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ بين أميين لم يجالس أحداً من أهل العلم، ولم يدرس كتابًا، ولم يزل على هذه الحال حتى جاء بهذا الكتاب الذي معظمه هذه الإخبارات الجليلة المتناسبة المحكمة، فبمجرد النظر إلى هذه الحالة التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم وإتيانه بهذا الكتاب برهان قوي يضطر إليه الناظر أنَّه حق، وما احتوى عليه حق، وأنَّه لا سبيل له إلى ذلك إلا بالوحي والرسالة.
ثانيًا: أنَّه صدق جميع الكتب وجميع ما أخبرت به الرسل، فجميع ما في كتب الله من التوحيد والصفات، وما أخبرت به الرسل عن ذلك فما جاء به محمد يصدق ذلك ويوافقه ويشهد له مع ما هو عليه صلى الله عليه وسلم من الوصف المذكور.
ثالثًا: أنَّ هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا التي أخبر بها عن الله كلَّها متصادقة، يصدق بعضها بعضًا، ويناسب بعضها بعضًا، حيث دلّ كلُّ معنى منها على الكمال المطلق بكلِّ وجه وبكلِّ اعتبار، الذي لا كمال فوقه بل لا يمكن عقول العقلاء أن تتصوَّر معنى واحدًا من معاني تلك الأوصاف، فهذا أكبر دليل على أنَّها حق، وأنَّ من جاء بها هو رسول الله حقًا.
رابعًا: أنَّ آثارها ومتعلقاتها في الوجود والخلق والأمـر مشهودة محسوسة؛ فآثار ما أخبر به من العظمة والملك والسلطان، وآثار ما أخبر به من العلم المحيط والحكمة الواسعة، وآثار ما أخبر به من الرحمة والجود والكرم، وآثار ما أخبر به من إجابة الدعوات، وتفريج الكُرُبات، وإزالة الشِّدَّات، وآثار ما أخبر به من كمال القدرة، ونفوذ الإرادة وكمال التصرف والتدبير، إلى غير ذلك مما أخبر به عن الله، فإنَّ آثاره تلك في الوجود مشهودة لكلِّ أحد، لا ينكرها أو يتوقف فيها إلا مكابر، فهو يخبر صلى الله عليه وسلم عن غيب محكم، يشاهد الخلق من آثاره ما يدلهم دلالة قاطعة على ذلك.
خامسًا: هذه النعوت العظيمة التي أخبر بها عن الله، لا يمكن التعبير عن آثار معرفتها في قلوب العارفين بها من التعظيم والإجلال الذي ليس له نظير، ومن الودِّ والسرور والابتهاج الذي لذَّات الدنيا بالنسبة إليه أقل من قطرة بالنسبة إلى البحر، وهم خلق لا يحصي عددهم إلا الذي خلقهم، وهم عِلْيَةُ الخلق، وخلاصة الوجود، وأكمل الناس أخلاقاً وآدابًا، وأرجحهم عقولاً وأصوبهم، إلا وقد اتفقوا على هذا الأمر العظيم ليس اتفاقًا علميًا فحسب، بل هو اتفاق اعتقادي علميّ يقينيّ وجدانيّ ضروريّ.
فهذا الاتفاق الذي ليس له نظير، وهو من آثار ما أخبر به النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه من الكمالات من أعظم البراهين على صدق رسالته، وصحة ما جاء به من التوحيد الخالص.
فإن قلت: قد يتفق طوائف من الخلق على بعض الأمور التي ليست بحق ويكثرون جدًا. وقد اتفق العقلاء على أنَّ ذلك ليس دليلاً على صوابهم إن لم يكن لهم بذلك برهان.
فالجواب: إنَّ الأمر كذلك، ولكن ما ذكرنا من اتفاق أهل المعرفة بالله لا يشبهه شيء من تواطئ الطوائف واتفاقها، كما ذكرنا أنَّه مبني على العلم اليقيني والبرهان الوجداني، والآثار الجميلة الجليلة التي لا يمكن أن تقع خطأ، أو عن غير بصيرة، وهم بهذا الوصف الذي ذكرنا. ولهذا قال تعالى"شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "18"آل عمران . فذكر شهادة أولي البصائر من الأنبياء والعلماء الربانيين على التوحيد، وأنَّها من أعظم البراهين عليه.
وكذلك أخبر عن الملائكة والجنة والنار، وتفاصيل ذلك بأمور يعلم أنَّه لا يمكن أن يأتي بها إلا نبي مرسل، موحى إليه من الله بذلك. فمعارف الخلق وعلومهم تقصر غاية القصور عن بيان بعض ذلك، ولكنَّها رحمة الله وهدايته لعباده بعثها على يد خاتم الرسل وأكملهم رسالة، وحظهم من هذه الرحمة بحسب نصيبهم من هذه الهداية.
وأما الغيوب الحاضرة والمستقبلة الدال كلُّ واحد منها على صدقه وحقّية ما جاء به، فكيف بجميعها، فكيف إذا انضمت إلى براهين رسالته التي لا تحصى أجناسها، فضلاً عن أفرادها.
فمن ذلك ما في القرآن من وعده لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتم الله أمره وينصره، ويعلي دينه ويظهره على الدين كلِّه، ويخذل أعداءه ويجعلهم مغلوبين مقهورين أذلّين.
وهذا كثير جدًا مثل قوله تعالى"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"9:الصف ، "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ "الصف: 8 ، "وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا "الفتح:3 ، "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ "الأنفال: 39 ،"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ "الأنفال: 36 ، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ":الأنفال :64، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر بها بهذه الأمور العظيمة والأوعاد الصادقة التي وقعت طبق ما أخبر الله به، فازداد بذلك المؤمنون إيماناً. ولهذا يذكر تعالى نعمته في قوله تذكيراً لعباده المؤمنين: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "26:الأنفال .
وكذلك قوله"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "70:الأنفال. وقد فعل ذلك.
وقوله لرسوله والمؤمنين"وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ " الآية .الفتح: 20. ، وقد فعل. وأخبر أنَّ صلح الحديبية فتح مبين، مع ما فيه من تلك الشروط التي كرهها أكثر المؤمنين، ثم تبين لكلِّ أحد بعد ذلك أنَّه فتح مبين، فيه من المصالح للإسلام والمسلمين ما لا يمكن إحصاؤه.
ومن ذلك قوله"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ "التوبة: 28. الآية، وقد وقع ذلك كلُّه.
وإخباره أنَّه سيتوب على كثير من أئمة الكفر، وينصر عباده عليهم كقوله"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ "التوبة ، وقوله"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ "آل عمران: 128 ، وقوله"عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "7:الممتحنة. وقد فعل ذلك.
وقوله تعالى"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ "البقرة: 142. وقد قالوا ذلك.
وقوله"فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ "البقرة: 137 ، "وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ "المائدة: 67 ، "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ " الزمر: 36 ، "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ "30:الأنفال ، "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا "17 "الطارق ، وقد أوقع بهم مصداق ذلك من الأخَذَات ما أوقع.
وقوله"وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى "4:الضحى. أي كلُّ حالة متأخرة من أحوالك خير لك من سابقتها، ومن تتبع سيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم وجد ذلك عياناً، كلُّ وقت خيرٌ مما قبله في العز والتمكين وإقامة الدين، إلى أن قال له في آخر حياته"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "المائدة: 3 .
وقال تعالى"الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ "الروم. وقد وقع ذلك كما أخبر.
وقال تعالى"وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" الشعراء: 227 ،"وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ" الرعد: 42 . وهذا وعيد بأنَّ عواقبهم ستكون وخيمة فوقع طبق ما أخبر.
وقوله" فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ "5" بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ "6:القلم. وقد أبصر كلُّ أحد أنَّهم هم المفتونون.
وقوله"فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "6" الشرح ، "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا "الطلاق: 7 ، وقد يسّر الله الأمور بعد عسرها، ووسعها بعد ضيقها وشدتها.
وقوله"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ِ "النور: 55. الآيات، وقد فعل وله الحمد، "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "105 "الأنبياء .
وقال تعالى"قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ "الفتح: 16. وقد دعوا لذلك في وقت أبي بكر وعمر والخلفاء والملوك الصالحين.
وقوله"إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ "51 غافر ، "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ُ "الروم: 47 ، "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ "39الحج .
وقوله"لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ "الفتح: 27 الآية.
وقوله"سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ "الفتح: 15]الآية. - في الأصل "سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ" الآية، والصواب المثبت، والشاهد من الآية هو قوله تعالى"كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ" حيث إنَّ فيها ذكرَ وعد الله السابق لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن تكون غنائمُ خيبر خاصة بمن شهد معه الحديبية -.
وقوله"سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ "التوبة: 95 ، وقد قالوا ما ذكر الله أنَّهم سيقولونه.
وقوله تعالى"أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ "44" سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ "45 "القمر ، وقد وقع ذلك في بدر بعد هذا الكلام.
ومن ذلك قوله"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ "4" فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ "5 ".المسد
وقوله"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا "11" إلى قوله"سَأُصْلِيهِ سَقَرَ "26"المدثر. الآيات. فأخبر عن أبي لهب وامرأته، وعن هذا الوحيد بصلي النار، ومن لازم ذلك بقاؤهم على كفرهم وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فوقع وبقوا على ذلك حتى هلكوا.
وقوله"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ "95.الحجر. فوعده بكفايته إياهم، فأوقع بهم العقوبات المتنوعة وهي معروفة بين أهل السير.
وقوله لما ذكر مكر رؤساء الكفر"جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ "11.ص ، وقوله "فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ .83 .الزخرف .
وقوله في آيات التحدي"فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ "البقرة: 24- فأخبر أنَّهم لن يفعلوا في المستقبل فلم يفعلوا، وكذلك في تحدي اليهود"قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا"البقرة: 94، 95] الآية. فلم يقع منهم التمني في وقت التحدي الذي دلّ عليه السياق.

- في الأصل "سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ" الآية، والصواب المثبت، والشاهد من الآية هو قوله تعالى: "كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ" حيث إنَّ فيها ذكرَ وعد الله السابق لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن تكون غنائمُ خيبر خاصة بمن شهد معه الحديبية.


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-11-2017, 11:46 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

وقوله تعالى"إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) "النصر ، فأخبره بعدةِ أشياء قبل وقوعها: بمجيء نصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وأنَّه عند ذلك قد حان أجلك وقربت وفاتك، فاختم حياتك الشريفة بالتسبيح والحمد والاستغفار.

وقوله"إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ "العصر 3 . أي مقطوع الذكر الجميل، مقطوع من الخير ووقع ذلك.

وقوله"قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ" 52:التوبة ، "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "81الإسراء ،"وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا "80 الإسراء. وقد فعل تعالى ذلك.

وقوله تعالى"قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "88:الإسراء ، وهذا خبر منطبق على مخبره في جميع الأوقات.

وقوله"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "9.الحجر ، وهذا شامل لحفظ ألفاظه ومعانيه، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ "فصلت :42 . وحفظه مشاهد محسوس.

وقوله"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ "المائدة: 54. وقد فعل ذلك.

وقوله"وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ "42:يس ، "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 8النحل .

وهذا شامل لخلق ما لا يعلمه العباد في تلك الأوقات الماضية، مما لم يشاهدوا له نظيرًا، فيدخل فيه جميع المخترعات التي حدثت والتي تحدث إلى يوم القيامة من المراكب البرية والبحرية والهوائية، وما خلقه وعلّمه الإنسان بواسطة الكيمياء والكهرباء من المخترعات المدهشة، ونقل الأصوات والأنوار من الأماكن الشاسعة في أسرع وقت.

وهذا من الآيات والبراهين التي دلّ عليها القرآن، حيث لا يحدث حادث جليل أو حقير، كبير أو صغير، إلا وفي القرآن تصريح به، أو إدخاله في عموم أو مفهوم، وأنَّه لم يأت ولن يأتي علم صحيح ولا حادث حقيقي ينقض شيئاً من أدلة القرآن، فإنَّه تنزيل من حكيم محيط علمه بكلِّ شيء، نفذت إرادته ومشيئته في كلِّ شيء.

وقوله تعالى"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ"الأنعام: 65 ، وقد وقعت القنابل المهلكة والديناميت الناسف لما باشره أو قرب منه، والدخان الخانق وما أشبه ذلك.

وهذا ينطبق على موصوفه غاية الانطباق، وفيه التنبيه على حدوث الآلات المقرِّبة للمواصلات، كما بسطنا ذلك في مواضع أخر -انظر كتاب المصنف «الدلائل القرآنية في أنَّ العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي».-.

"فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ "11"الدخان. وقد ذكر الله التنادي بين أهل الجنة وأهل النار، مع البعد المفرط والترائي، وقد أظهرت المكتشفات الكهربائية والكيماوية مصداق ذلك، بعدما كان كثير من المكذبين يسخرون بإخبارات الرسل في هذا الباب ويستبعدونها، فأظهر الله في هذه الأوقات من البراهين ما يكذب المكذبين الجاحدين.
وهذا من مصداق قوله تعالى"سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"فصلت: 53. فلم يزل يُري عباده ويُحدث لهم من البراهين الدالة على صدق الرسل، وأنَّ ما جاؤوا به هو الحق، وما خالفه هو الباطل. ولكن أبى المباهتون المكابرون إلا عتوًّا ونفورًا.
ومن ذلك قوله تعالى"وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ "الحديد: 25 ، وقوله"عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "5:العلق ، فهذه المنافع التي علّمها الله الإنسان، فلم يزل يفرّعها الإنسان ويرقّيها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وهو جاد في طريقه في تنمية الصناعات والمخترعات. وذلك كلُّه داخل في تعليم الله له، وإلهامه وإيجاده تبارك وتعالى المنافع والقوى في مخلوقاته.
فالله تعالى هو الذي أوجد فيها القوى الصالحة لإيجاد المخترعات النافعة منها، والله هو الذي علم الإنسان ذلك، وذلك من آياته في الآفاق، وفي النفوس الدالة على أنَّ ما جاء به الرسول حق، وإن لم يهتدِ لذلك أكثر الخلق ضلالاً عن الأدلة الحقيقية، أو عن وجه دلالتها، أو قيام عقائد باطلة صارفة وصادفة عن الحق.
ومن ذلك: إخباره أنَّ سنته في خليقته في نظام العالم، وفي الأسباب والمسببات، والجزاء بالحسنى وبالسوأى واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وهي كلُّها جارية على مقتضى الحكمة التي يحمد عليها، وهذا مشاهد شرعًا وقدَرًا.
وقد يُري عباده تعالى أنَّه يغير بعض المخلوقات عن نظامها المعتاد ليعرف العباد أنَّه المتفرد بالقدرة والتصرف، وأنَّ جميع الحوادث خاضعة لمشيئته وقدرته، وأنَّ ما أخبرت به الرسل من أمور الغيب كلِّها حق، ولكن أبى الجاحدون إلا أن ينكروا ما كان الله أخبر به على ألسنة رسله مما كانوا الآن يعقلون هم نظيره، فانقلب عليهم الأمر وقلب الله قلوبهم كما لم يؤمنوا به لمّا جاءهم، واستكبروا بعقولهم على الحق.
ومن أعظم علوم الغيب التي أخبر بها القرآن وأبداها وأعادها، أنَّه أخبر أنَّه لا سبيل إلى صلاح البشر وسعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة إلا باتباع هذا الدين والأخذ بإرشاده وهدايته. وهذا أمر لا يستريب فيه أحدٌ، فإنَّ هذه الأمة في عصر الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين لمّا كانوا مهتدين بعلمه وإرشاده وتربيته الخاصة والعامة صلحت دنياهم كما صلح دينهم، وصاروا المثل الأعلى في القوة والعزة والعدل والرحمة وجميع الكمالات المستعد لها البشر.
ثم لمّا ضيعوا هدايته العلمية والعملية تحلَّلوا وانحلُّوا، ولم يزالوا في نقص وضعف وذلة حتى يراجعوا دينهم، ثم في مقابلة ذلك من العجب العجيب الذي ليس بغريب ارتقاء الأمم الأخرى، في هذه الأوقات في الصناعات المدهشة، والاختراعات الخارقة المعجزة والقوة الضخمة أنَّهم لم يزدادوا بها إلا شقاء، حتى صارت حضارتهم التي يعجبون بها ويخضع لها غيرهم مهددةً كلَّ وقت بالتدمير العام.
وجميع ساستهم وعلمائهم في حيرة عظيمة من تلافي هذا الخطر، ولن يُتلافى إلا باتباع ما جاء به القرآن والاسترشاد بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، الجامع بين العلم والعمل والعدل، والرحمة والحكمة، ومصلحة الروح والجسد، وإصلاح الدين والدنيا والآخرة.
فالعلوم المادية والقوة المادية المحضة ضررها أكثر من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، حيث لم تبن على الدين الحق. وانظر بعينك ترى العجائب، فهذا الارتقاء المادي الذي لم يشاهد العالم له نظيرًا إذ خلا من روح الدين، هو الحبوط والهبوط الحقيقي، والدنيا الآن كلُّها في خطر مزعج لا يعلم مدى ضرره وفظائعه إلا الله تعالى . - ولو رأى ـ رحمه الله ـ وقتنا هذا فما عساه قائل؟! نسأل الله العافية واللطف.-
ومن براهينه التي وقعت مطابقة للواقع والحس والتجارب، أنَّه أخبر أنَّه آيات لأولي الألباب، لقوم يعقلون، ولأولي النهى. وهي آيات كثيرة تبين أنَّ أهل العقول وأرباب البصائر، بقدر ما أعطوا من هذه النعمة الكبرى من العقل الرصين، واللب الكامل، والرأي الصائب يكون حظهم من هدايته وإرشاداته والانتفاع به.

فتأمل هداة هذه الأمة وأئمتها ومرشديها، هل تجد أكمل منهم عقولاً وألباباً وأصوب آراءً. وتأمل هل يوجد مسألة أصولية أو فروعية في هذا الدين قد شهد أحد من العقلاء المعتبرين على فسادها أو نقصها، وكلُّ من قدح في شيء منها بيّن بالبراهين المعترف بها بين العقلاء أن الخلل في عقله ولبه وفهمه، أو في قصده وإرادته.
وإذا أردت تفصيل هذه الجملة العظيمة فاقرأ كتاب العقل والنقل لشيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية، وكيف برهن بالبراهين العقلية على ضعف عقول القادحين في شيء من هذا الدين، وأنَّ ما زعموه عقليات جهلياتٌ وخرافاتٌ، وقد تحدى الباري جميع الناس أن يأتوا بمثله أو ببعضه أو بعشر سور أو بسورة من مثله، وهذا هو عين هذه المسألة.
ومن ذلك ما ذكر الله من إحْكامِهِ لكتابه، وأنَّه لا يأمر إلا بكلِّ معروف وصلاح، ولا ينهى إلا عن المنكر والفساد، وقد استمرت له هذه الأوصاف الجليلة في كلِّ وقت وزمان، وجرت إرشاداته الجميلة صالحة لجميع الأوقات والأحوال والأشخاص.
فليرنا المنكرون حكمًا واحدًا من أحكامه مخالفًا لهذا الوصف الذي أخبر به حين إنزاله، وتحقق تحققًا لا ينكره إلا مباهت أو مقلد له، فهو الذي يَصلح لكلِّ وقت، ولا يُصلح الأمم إصلاحًا حقيقيًا سواه. وقد أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وقد تحقق هذا بتكميله العقائد والأخلاق والأعمال والأحوال كلِّها، والدنيا والدين، وكلُّ قصورٍ وتقصيرٍ حاصلٌ في كلِّ وقت فلفقده أو نقصه.
وهذه الجمل والأصول العظيمة نتحدى بها جميع البشر، وأنَّه جاء بجميع المحاسن والمصالح الظاهرة والباطنة، ونهى عن القبائح والمضار الظاهرة والباطنة، فليأتوا بمثال واحد صحيح مخالف لهذه الأصول التي أسّسها القرآن وجعلها قواعد يهدي بها البشر على توالي الزمان.
هذا إشارة لطيفة في إخبار القرآن عن أمور محسوسة مشاهدة بالأبصار قد وقعت طبق ما أخبر به.
أمَّا إخباره بما تفعله هداية القرآن في القلوب والأرواح والأخلاق ووجود مخبره كما وصف فأكثر من أن يذكر وأعظم من أن ينكر، ويعرفه أولوا الألباب والبصائر والاهتداء التام بهدايته العلمية والعملية، وهم أزكى الناس وأعدل الخلق شهادة، وشهادتهم عن علم ويقين ووجدان وحق يقين.
فمن ذلك إخباره أنَّه يهدي بكتابه من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" العنكبوت: 69. فمن جمع بين هذين الوصفين وهما الاجتهاد التام، وبذل المجهود مع حسن القصد لطلب رضوان الله هداه السبيل الموصلة إليه، وإلى دار كرامته، وحصولُ الهداية العلمية وهي العلم النافع، والهداية الفعلية هداية التوفيق لاتباع الحق لازمةٌ للاجتهاد وحسن القصد لا تتخلف عنهما، فمن عُدمت هدايته أو ضعفت فلفقدهما أو فقد أحدهما أو ضعفهما.
وقال تعالى"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "97:النحل ، وهذا مشاهد لأهل البصائر.
أنَّ مَنْ جمع بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح ـ وهو ما يحبه الله ويرضاه ـ أنَّ الله سيحييه في هذه الدار حياة طيبة. وأصل الحياة الطيبة طيب القلب، وراحته وسروره، والقناعة والرضى عن الله، فلو كان المؤمن الصادق في أضيق عيش لكانت هذه الحياة الطيبة حاصلة له بوعد الله الصادق الذي لا يخلف الميعاد.

وقال تعالى"الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "28"الرعد. وحصول طمأنينة قلوب المؤمنين الصادقين بذكر اللّهِ والإنسِ به وعبادتِهِ أمرٌ لا يمتري فيه أحد من أهل الذوق والوجد.
وَمَا يجده أهل الإحسان الصادقون من ذوق حلاوة الإيمان، وحقائق اليقين والإنس بذكر الله، والطمأنينة به، والأحوالِ الزكية والشواهد المرضية، على ما أخبر به الرسول أجلُّ وأعظم من كثير من البراهين الحسية، فإنَّهم وصلوا في هذه الأمور إلى حق اليقين الذي هو أعلى مراتب اليقين والحق.
وقال تعالى"وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ "التغابن: 11 ، فقد تكفّل الله بهداية القلوب لكلِّ مؤمن صادق الإيمان، وإنَّما يكون مؤمناً حقاً إذا حقق أصول الإيمان، وكان إيمانه بالمأمورات يطلب منه امتثالها وبالمنهيات يقتضي خوفه تركها، وإيمانه بالقضاء والقدر يعلم أن المصائب من عند الله العزيز الحكيم الرحيم، فيرضى بذلك ويسلم وهذا أمر معلوم لأهل الإيمان الصحيح.
ومن ذلك جميع ما نذكره في دلالة القرآن على الأخلاق الجميلة الحميدة والأمر بها، ونهيه عن الأخلاق الرذيلة. فهذا من براهين التوحيد والرسالة وصحة جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 07-11-2017, 11:56 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Arrow

النوع الثاني من علوم القرآن ومقاصده
علم الآداب والأخلاق الكاملة
القرآن الكريم كتاب تعليم وإرشاد، وكتاب تربية على أكمل الأخلاق، وأحسن الآداب، وأسمى الأوصاف، وحث عليها بكلِّ وسيلة، وزجر عن ضدها، لا يوجد خلق كامل وإلا وقد دلّ عليه القرآن، ولا أدب حميد إلا وقد دعا إليه وبيّنه، والأخلاق الكاملة والآداب السامية تجعل صاحبها مستقيم الظاهر والباطن، معتدل الأحوال، مكتمل الأوصاف الحسنة، طاهر القلب نقيّه من كلِّ درن وآفة ونقص، قوي القلب، متوجهاً قلبه إلى أعلى الأمور وأنفعها، قائماً بالحقوق الواجبة والمستحبة، محموداً عند الله وعند خلقه، قد حاز الشرف والاعتبار الحقيقي، وسلم من كلِّ دنس وآفة، قد تواطأ ظاهره وباطنه على الاستقامة، وسلوكِ طريق الفلاح، وعلُوُ مكانة المتخلق بأخلاق القرآن وآدابه لا يمتري فيه من له أدنى مسكةٍ من عقل، لأنَّ العقل من أكبر الشواهد على حسن ما جاء به الشرع.

ولهذا ينبّه الله أولي العقول والألباب، ويوجّه إليهم الخطاب، لأنَّه كلَّما كمل عقل الإنسان عرف كمال ما جاء به الشرع، وأنَّه يستحيل وجود قانون أو نظام أو غيرها يقارب ما جاء به القرآن كمالاً وفضلاً، ورفعة وعلواً ونزاهةً، ويُعرف ذلك بتتبع ما جاء به القرآن.

فمن أخلاقه وآدابه التي فاقت جميع الأخلاق: الحثُ على
الإخلاص لله في الأقوال والأفعال، والإنابة إلى الله في جميع الأحوال،كما أمر الله بالإخلاص في آيات عديدة، وأثنى على المخلصين والمنيبين إليه، وأخبر أنَّهم المنتفعون بالآيات.


فالإنابة هي انجذاب القلب، وإقباله التام على الله، ويتحقَّق ذلك بالإخلاص لله في كلِّ ما يأتي العبد وما يذر، في معاملته لله والقيام بعبوديته، وفي معاملته للخلق والقيام بحقوقهم. فأصل استقامة القلب بهذين الأمرين، فإنَّ المنيب المخلص لله تعالى قد استقام على الصراط المستقيم، وقد تواطأ ظاهره وباطنه على الخير المحض، وقد سهلت عليه الأعمال بما في قلبه من قوة الإنابة، وما يرجو من ربه من جزيل الثواب.

ولا يخفى أنَّ النصيحة التي هي الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»-رواه مسلم (رقم: 55).-ثلاثاً، لا يمكن وجودها ولا تمامها إلا بهذين الأمرين. فالمنيب المخلص لله لا تجده إلا ناصحاً لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

قال تعالى"وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ "الزمر: 54."مُنِيبِينَ إِلَيْهِ "الروم: 31،"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ" .سبأ: 9. ، "وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ "ق: 33 .

وقال تعالى"وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ "البينة: 5."أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ "الزمر: 3.

وقال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار أفضلِ هذه الأمة"يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا "المائدة: 2 .

وقال تعالى"لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا "114:النساء .
فالمخلص لله قد علق قلبه بأكمل ما تعلقت به القلوب من رضوان ربه وطلب ثوابه، وعمل على هذا المقصد الأعلى فهانت عليه المشقات-رواه مسلم (رقم: 55).-وسهلت عليه النفقات، وسمحت نفسه بأداء الحقوق كاملة موفرة، وعلم أنَّه قد تعوض عما فقده أفضل الأعواض وأجزل الثواب وخير الغنائم.

وأيضًا من ثمرات الإخلاص أنَّه يمنع منعًا باتًا من قصد مراءاة الناس وطلب محمدتهم، والهرب من ذمهم، والعمل لأجلهم، والوقوف عند رضاهم وسخطهم، والتقيد بإرادتهم ومرادهم، وهذا هو الحرية الصحيحة أن لا يكون القلب متقيدًا متعلقًا بأحدٍ من الخلق.


ومن ثمرات الإخلاص أنَّ العمل القليل من المخلص يعادل الأعمال الكثيرة من غيره، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: «لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» - كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في صحيح البخاري (رقم: 99).-، وأنَّه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه - حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رواه البخاري :رقم: 1423-.. وأنَّ المخلص يصرف الله عنه من السوء والفحشاء ما لا يصرفه عن غيره. قال تعالى عن يوسف"كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ "يوسف: 24. قرئ بكسر اللام وفتحها، وهما متلازمتان، لأنَّ الله تعالى لإخلاصهم جعلهم من المخْلَصين.

فالمخلصون هم خلاصة الخلق وصفوتهم، وهل يوجد أكمل ممن خلصت إرادتهم ومقاصدهم لله وحده، طلباً لرضاه وثوابه، وتفرعت أعمالهم الظاهرة والباطنة على هذا الأصل الطيب الجليل، ومثلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ
"كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا "إبراهيم: 24، 25 .

ومن ثمرات الإخلاص الطيبة: أنَّ المخلص إذا عمل مع الناس

إحساناً قوليًا، أو فعليًا أو ماليًا أو غيره، لم يبال بجزائهم ولا شكرهم لأنَّه عامل الله تعالى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يثني عزمه ونشاطه قلة شكرهم له، فقد قال تعالى في حق المخلصين"إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا "9: الإنسان.




رد مع اقتباس
  #8  
قديم 07-12-2017, 12:21 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,381
Lightbulb

التوكل على الله والاستعانة به


خلق جليل يضطر إليه العبد في أموره كلِّها دينيِّها ودنيويها، لأنَّه وإن كان الله تعالى قد أعطى العبد قدرة وإرادة تقع بها أفعاله الاختيارية، ولم يجبره على شيء منها، فإنَّه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فإذا اعتمد بقلبه اعتماداً كلياً قوياً على ربه في تحصيل وتكميل ما يريد فعله من أمور دينه ودنياه، ووثق به أعانه وقوّى إرادته وقدرته، ويسّر له الأمر الذي قصده، وصرف عنه الموانع أو خففها، وتضاعفت قوة العبد وازدادت قدرته، لأنَّه استمد واستماح - في القاموس المحيط (310): «استمحته: سألته العطاء».- من قوة الله التي لا تنفد ولا تبيد.

والتوكل الحقيقي يطرد عن العبد الكسل، ويوجب له النشاط التام على الأمر الذي توكل على الله به، ولا يتصاعب شاقاً، ولا يستثقل أي عمل، ولا ييأس من النجاح وحصول مطلوبه، عكس ما يظنه بعض المنحرفين الذين لم يفهموا معنى التوكل، أو فهموه لكن إنكار القدر والقضاء صرفهم عن الحق، فحسبوا أنَّ التوكل يضعف الهمة والإرادة، وأساؤوا غاية الإساءة حيث ظنوا بربهم الظن السوء، فإنَّ الله أمر بالتوكل في آيات كثيرة.

وأخبر أنَّه من لوازم الإيمان ووعد المتوكلين: الكفاية وحصول المطلوب، وأخبر أنَّه يحبهم، وأنَّه لا يتم الدين إلا به، ولا تتم الأمور إلا به، فالدين والدنيا مفتقرات إلى التوكل.

قال تعالى"وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "المائدة: 23 ، "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ "هود: 123 ، "فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ "التوبة: 129 ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا " الأعراف: 89 ، "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ " الطلاق: 3 ، "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "5".
وللتوكل فوائد عظيمة:
منها: أنَّه لا يتم الإيمان والدين إلا به، وكذلك لا تتم الأقوال والأفعال والإرادات إلا به.
ومنها: أنَّ من توكل على الله كفاه، فإذا وعد الله عبده بالكفاية إذا توكل عليه، عُلِمَ أنَّ ما يحصل من الأمور الدينية والدنيوية، وأحوال الرزق وغيرها بالتوكل أعظم بكثير مما يحصل إن حصل إذا انقطع قلب العبد من التوكل.
ومنها: أنَّ التوكل على الله أكبر سبب لتيسير الأمر الذي تُوكِّل عليه - لعل العبارة: «الذي تُوكِّل عليه فيه».- وتكميلِه وتتميمِه، ودفع الموانع الحائلة بينه وبين تكميله.
ومنها: أنَّ المتوكل على الله قد علم أنَّه اعتمد في توكله، واستند إلى من جميعُ الأمور كلِّها في ملكه، وتحت تصريفه وتدبيره، ومن جملتها: فعل العبد، فكلما فترت همته وضعف نشاطه أَمَدَّه هذا التوكل بقوة إلى قوته، وقد وثق بكفاية ربه، والوثوق والطمع في حصول المطلوب لا شك أنَّه من أعظم الأسباب الباعثة على الأعمال المرغبة فيها، وهذا أمر مشاهد معلوم.
ومنها: أنَّ المتوكل على الله حقيقة قد أبدى الافتقار التام إلى ربه، وتبرأ من حوله وقوته، ولم يعجب بشيء من عمله، ولم يتكل على نفسه لعلمه أنَّها ضعيفة مهينة، سريعة الانحلال، بل لجأ في ذلك إلى ربه، مستعيناً به في حصول مطلوبه.

وهذا هو الغنى الحقيقي، لأنَّه استغنى بربه وكفايته، وهو مع ذلك قد أبدى غاية المجهود، فتبين أنَّ التوكل لا ينافي القيام بالأسباب الدينية والدنيوية، بل تمامه بفعلها بقوة صادقة وهمة عالية، معتمدة على قوة القوي العزيز.


النصـيحـة
أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الدين النصيحة، كررها ثلاثاً، وفسّرها بأنَّها النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم - [- كما في حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم (رقم: 55).-.
وأخبر تعالى أنَّ النصيحة طريقة أنبيائه وأصفيائه، وأخبر أنَّ الحرج منفي عمن نصح لله ولرسوله. فالنصيحة لله هي القيام التام بحقوقه علماً وعملاً، ودعوة وتنفيذاً، والنصيحة لكتابه: الاجتهاد في معرفة ألفاظه ومعانيه، والعمل به والدعوة لذلك.
والنصيحة لرسوله: الإيمان به، ومحبته واتباعه، ونصر سنته، وتقديم هديه على هدي كلِّ أحد، والاجتهاد في كلِّ ما يحبه.
والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم: أن يحب لهم الخير، ويكره لهم الشر، ويسعى في ذلك بحسب مقدوره، فيعلّم جاهلهم، ويرشد منحرفهم، ويذكر غافلهم، ويعظ معرضهم ومعارضهم، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلك كلَّ طريق فيه صلاح لإخوانه المسلمين، ويسعى في تأليف ذات بينهم، وفي إرشادهم على اختلاف طبقاتهم لمصالح دينهم ودنياهم، كلُّ أحد على حسب حاله.
وللنصيحة فوائد عظيمة:
منها:أنَّ الدين لا يتم إلا بها، بل هي الدين كما ذكره صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنَّ الناصح لله ولرسوله ولكتابه وللخلق نفسُ عملِ قلـبه هـذاواستعداده وتهيئته للنصيحة من أكبر الأعمال المقربة إلى رب العالمين، فما تقرّب أحد إلى الله بمثل توطين النفس على النصيحة الشرعية المذكورة، فالناصح في عبادة مستمرة إن قام أو قعد، أو عمل، أو ترك العمل.
ومنها: أنَّ من عجز عن العمل الديني إذا كان ناصحاً لله ولرسوله، ناوياً الخير إذا تيسر له، فإنَّه لا حرج عليه، ويشارك العاملين في عملهم، فإنَّما الأعمال بالنيات.
ومنها: أنَّ الله ييسر للناصح الصادق أموراً لا تخطر له على بال، وأنَّ الساعي في نفع المسلمين إذا كان قصده النصيحة، فإنَّه يفلح وينجح، فإنْ تم ما سعى له فعلاً وهو الغالب وإلا تمَّ أجرُهُ، فمن عجز عن بعض عمل قد شرع فيه تمّم له ذلك العمل. قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [النساء: 100] .
ومنها: السلامة من الغش، فإنَّ من غشّ المسلمين في دينهم ودنياهم فليس منهم، والغش من أشنع الخصال القبيحة في حق القريب والبعيد، والمخالف والموافق.
فهذا القرآن العظيم يدعو إلى هذا الخلق الذي هو أفضل الأخلاق، وهو النصيحة التي أسس عليها دين الإسلام، وقام عليها بنيانه، وبان بها فضله على كلِّ شيء، فإنَّ النصح لكلِّ أحد محمود شرعاً وعقلاً وفطرة، وضده قبيح شرعاً وعقلاً وفطرة.
الصدق في الأقوال والأفعال وجميع الأحوال


قد أمر الله بالصدق ومدح الصادقين، وأخبر أنَّ الصدق ينفع أهله في الدنيا والآخرة، وأنَّ لهم المغفرة والأجر العظيم.

قال تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "119:التوبة ، "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "33:الزمر ، "فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ "محمد: 21 ، "هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ "المائدة: 119 ، والآيات في مدح الصدق كثيرة جدًا.

والصدق يهدي إلى كلِّ برّ وخير، كما أنَّ الكذب يهدي إلى كلِّ شر وفجور. والصادق حبيب إلى الله، حبيب إلى عباد الله، معتبر في شرف دينه ودنياه، بل عنوانُ الشرف والاعتبار وعلوِ المنزلة الصدقُ.

وللصدق فوائد عظيمة: منها هذه الأمور العظيمة التي أشرنا إليها من امتثال أمر الله، وحصول الأجر والثواب العظيم والمغفرة، وأنَّ الصادق ينتفع بصدقه في الدنيا والآخرة، وأنَّه يدعو إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا في أعلى الدرجات وأرفع المقامات.

ومن عُرف تحريه للصدق ارتفع مقامه عند الخلق، كما كان مرتفعًا عند الخالق واطمأن الناس لأقواله وأفعاله، وصار له مرتبة عالية في الشرف، وحسن الاعتبار والثناء الجميل، وأمن الناس من بوائقه ومكره وغدره.

ففي جميع المقامات الدينية والدنيوية لا تجد الصادق إلا في الذروة العليا، إن كان في مقام الإفتاء والتعليم والإرشاد لم يعدل الناس بقوله لقول أحد، واطمأنوا إلى إرشاداته وتعليمه وتفهيمه، لأنَّه مؤسس على الصدق، وإن شهد شهادة عامة أو شهادة خاصة ثبتت الأحكام بشهادته، وإن أخبر بخبر خاص أو عام وثق الناس لخبره وعظّموه واحترموه، حتى لو أخطأ في شيء من ذلك لوجدوا له محملاً صالحاً، وإن عامل الناس معاملة دنيوية ببيع أو شراء وإجارة أو تجارة أو حق من الحقوق الكبيرة والصغيرة، تسابق الناس إلى معاملته واطمأنوا لذلك غير مرتابين.

وحسبك بهذا الخُلُق الذي يخضع لحسنه وكماله ألبّاء الرجال، ويعترف بكماله أهل الفضل والكمال، فهو من جملة البراهين على صدق الرسول، وكمال ما جاء به من هذا الدين القيّم الذي هذا الخلق العظيم من أخلاقه، وكلُّ أخلاقه على هذا النمط، والله أعلم.

الشجـاعـة


هذا الخلق العظيم قد أمر الله به في آيات كثيرة، وهي آيات الجهاد كلِّها. وأثنى على أهله وأخبر أنَّه طريق الرسل وساداتِ الخلق، ونهى عن ضده وهو الجبن والفشل والخوف من الخلق في سبيل جهاد الدعوة، وفي سبيل جهاد السلاح.

وهذا الخلق الجليل قد يكون غريزة مع العبد، ويتقوى بموجبات الإيمان، وقد يحتاج العبد إلى التمرن عليه، وسلوك الطرق المعينة على ذلك. فالشجاعة قوة القلب وثباته، وطمأنينته في المقامات المهمة، والأحوال الحرجة وكلٌّ يحتاج إليه، وخصوصاً الرؤساء الذين تناط بهم المهمات والأمور، فحاجتهم إليه ضرورية.

وقد دعا القرآن إليه ودعا إلى كلِّ وسيلة تعين عليه، فأمر بخوفه وحده، وأن لا يخشى العبد الخلق، فمتى قصر العبد خوفه على الله وحده، وعلم أنَّ الخلق لن يقدروا على نفعه ولا ضره إلا بمشيئة الله قوي قلبه، ثم إذا توكل على الله وقوّى اعتماده عليه ازدادت قوة قلبه، كما قال تعالى عن خيار الخلق "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "173:آل عمران .

ثم إذا علم ما يترتب على القوة في الدين والشجاعة من الأجر والثواب ازدادت قوته وتضاعفت شجاعته، كما نبه الله على هذه الحالة بقوله"إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ "النساء: 104

وكلما تأمل الخلقَ وعرف أحوالهم وصفاتهم، وأنَّهم ليس عندهم شيء من النفع، ولا من النصرة والدفع، وأنَّ مَدْحَهم لا يغني عن العبد شيئاً، وذمهم لا يضره شيئًا، وأنهم مع ذلك لا يريدون لك الخير إلا لمصالحهم، عرف أنَّ تعليق القلب بهم خوفاً وهيبة، وخشية ورغبًا ورهبًا، ضائع بل ضار، وأنَّه يتعين على العبد أن يعلق خوفه ورجاءه، وطمعه وخشيته بالله وحده، الذي عنده كلُّ شيء، وهو الذي يريد لك الخير من حيث لا تريده لنفسك، ويعلم من مصالحك ما لا تعلم، ويوصل إليك منها ما لا تقدر عليه ولا تريده.

ومن دواعي الشجاعة أن يعرف العبد أنَّ الجبن مرض وضعف في القلب، يترتب عليه التقاعد عن المصالح وتفويت المنافع، ويسلط عليه الضعفاء ويتشبه صاحبه بالخَفِرات من النساء.

ومن فوائد الشجاعة: امتثال أمر الله وأمر رسوله، والاتصاف بأوصاف أهل البصائر من أولي الألباب.

ومن فوائد ذلك: أنَّه بحسب قوة القلب يُنزل الله عليه من المعونة والسكينة ما يكون أكبر وسيلة لإدراك المطالب والنجاة من المصاعب والمتاعب.

ومن فوائده: أنَّه يتمكن صاحبه من إرشاد الخلق ونفعهم على اختلاف طبقاتهم بالحكمة والموعظة الحسنة. وأما الجبان فإنَّه يفوته خير كثير، وتمنعه الهيبة من بركة علمه وإرشاده ونصحه للعباد.

ومنها: أنَّ الشجاعة تنجي العبد من كثير من الشدائد، وتوجب له السكينة إذا مرت النوائب والمصائب، فيقابلها بما يحبه الله من الصبر والثبات واحتساب الأجر. وأمَّا الجبان فإنَّه إذا اعترته هذه الأمور انماع وذهل مصالحه، وتنوعت به الأفكار الضارة، فعملت معه المصائب والشدائد عملها الأليم، وفوّتته الخيرات والثواب الجسيم.

وهذا الخُلُق الحميد من جملة الأخلاق الفاضلة التي تتولَّد من هذا الخُلُق الجامع وهو:
الصـبـر


هو الأساس الأكبر لكلِّ خُلُقٍ جميلٍ، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيلٍ، وهو حبس النفس على ما تكره، وعلى خلاف مرادها طلبًا لرضى الله وثوابه، ويدخل فيه الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة. فلا تتم هذه الأمور الثلاثة التي تجمع الدين كلَّه إلا بالصبر.

فالطاعات خصوصًا الطاعات الشاقة، كالجهاد في سبيل الله، والعبادات المستمرة كطلب العلم والمداومة على الأقوال النافعة، والأفعال النافعة [لا تتم] -- ما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق.- إلا بالصبر عليها، وتمرين النفس على الاستمرار عليها وملازمتها ومرابطتها، وإذا ضعف الصبر ضعفت هذه الأفعال، وربما انقطعت.

وكذلك كفّ النفس عن المعاصي وخصوصًا المعاصي التي في النفس داعٍ قويٌّ إليها، لا يتم الترك إلا بالصبر والمصابرة على مخالفة الهوى وتحمُّل مرارته.

وكذلك المصائب حين تنزل بالعبد ويريد أن يقابلها بالرضى والشكر والحمدِ لله على ذلك لا يتم ذلك إلا بالصبر واحتساب الأجر، ومتى مرَّن العبد نفسه على الصبر ووطّنها على تحمُّل المشاق والمصاعب وجدّ واجتهد في تكميل ذلك، صار عاقبته الفلاح والنجاح، وقلّ من جدّ في أمر تطلبه واستصحب الصبر إلاّ فاز بالظفر.

وقد أمر الله بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أنَّ لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة من القرآن، وأخبر أنَّهم يوفون أجرهم بغير حساب. وحَسْبُك من خلقٍ يسهِّل على العبد مشقة الطاعات، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفوس من المخالفات، ويسليه عن المصيبات، ويُمِدُّ الأخلاق الجميلة كلَّها، ويكون لها كالأساس للبنيان.
ومَتَى علم العبد ما في الطاعات من الخيرات العاجلة والآجلة، وما في المعاصي من الأضرار العاجلة والآجلة، وما في الصبر على المصائب من الثواب الجزيل، والأجر الجميل، سهل الصبر على النفس، وربما أتت به منقادة مستحلية لثمراته. وإذا كان أهل الدنيا يهون عليهم الصبر على المشقات العظيمة لتحصيل حطامها، فكيف لا يهون على المؤمن الموفق الصبر على ما يحبه الله لحصول ثمراته، ومتى صبر العبد لله مخلصاً في صبره كان الله معه، فإنَّ الله مع الصابرين بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد.







رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 10:42 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر